يمكن القول دون مبالغة ان الاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل تحدث ثورة عميقة في مجالات مختلفة وخصوصا السياسية والفكرية. فهي تعيد رسم صورة المجتمع الإسرائيلي لتبعد عنه صورة «سوبرمانية» وتضفي عليه صورة اعتيادية. وربما أن ذلك كان وراء اشتراك جميع شرائح المجتمع في محاولة بلورة ما أسمته رئيسة المحكة العليا، القاضية دوريت بينيش، «النظام الاجتماعي الجديد». ومن شبه المؤكد أن النظام المقصود لا يتصل فقط بطريقة إعادة توزيع الموارد بين طبقات المجتمع وحسب وإنما كذلك بإعادة صياغة الثقافة والحلبة السياسية أيضا.

فقد أثبتت الاحتجاجات الاجتماعية أن هناك ما يمكن أن يوحد المجتمع، أو أغلبيته الساحقة، على أهداف واحدة ليست فقط محاربة العرب أو طريقة التعامل معهم. بل أن هذه الاحتجاجات بينت أن قضايا السلم والحرب ليست، على الأقل في الظروف الراهنة، العنصر الوحيد المحدد للوجهة العامة أو لاهتمامات الناس. كما أنها أظهرت بوضوح أنه لا يكفي تأييد هذا الحزب أو ذاك من الناحية السياسية حتى تتم تلبية احتياجات الناس الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. ومن الجائز أن أبرز ما أظهرته الاحتجاجات أن الحلبة السياسية تكاد تخلو من أي حزب يمثل متطلبات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ولهذا السبب تتعالى الأصوات الداعية إلى بلورة حزب أو أحزاب ذات تطلعات اجتماعية واضحة تملأ الفراغ الذي نشأ جراء غرق الحلبة السياسية في قضايا السلم والحرب. وكما تتعالى الأصوات لتأكيد الصورة الطبيعية بأن يستند التقاطب بين اليمين واليسار إلى أسس اجتماعية اقتصادية وأن يخرج من قمقم الموقف السياسي.

ويرى بعض المثقفين أن أحد أهم عوامل التغيير في إسرائيل يتمثل في تغيير صورة ومعنى اليساري، فـ«اليساري» لم يعد ذلك «المدافع» عن السلام مع العرب أو المندد بانتهاكات حقوق الفلسطينيين وإنما يمكن أن يكون أيضا المدافع عن الحقوق الاجتماعية للفقراء وحتى لأبناء الطبقة الوسطى.

وهكذا ورغم أن الاحتجاجات لم ترفع البتة مطلب «إسقاط النظام» وإنما «تغيير الأسلوب» إلا أنها لا تقل «ثورية» في جوهرها الداعي لـ«تغيير النظام». ويشدد علماء اجتماع إسرائيليون على أن الاحتجاجات حركة سياسية بامتياز رغم أنها ليست حزبية. ويعتقد آخرون أن هذه الاحتجاجات سوف تقود بطرق مختلفة إلى «تغيير النظام».

وليس صدفة أن أولى ضحايا الاحتجاجات حتى الآن المؤسسة العسكرية التي صار مطلب وزارة المالية الأول لتلبية بعض مطالب المحتجين تقليص ميزانيتها بملياري شيكل (أكثر من نصف مليار دولار). كما أن الضحية الثانية للاحتجاجات تتمثل في كبار الرأسماليين الاحتكاريين في إسرائيل الذين أنشأوا صلات شبه علنية مع قادة الأحزاب السياسية بحيث بات التعبير عن الثراء أحد مظاهر السطوة السياسية.

لقد شكلت الحكومة «لجنة ترختنبرغ» لوضع توصيات لحل الأزمة الاجتماعية، فتشكلت بالمقابل لجنة «حكماء» من كبار الخبراء الاقتصاديين وعلماء الاجتماع لتقديم النصح للمحتجين. ويبدو جليا حتى الآن أن المحتجين يرون في «لجنة ترختنبرغ» نوعا من محاولة احتواء الموقف ومنع التصعيد. ولذلك فإنهم يزدادون يوما بعد يوم إصرارا على أن التغيير لا يعني تحقيق هذا المطلب الجزئي أو ذاك بقدر ما يعني تغيير بنية السياسة الاقتصادية لتغدو أكثر ميلا لتحقيق العدالة الاجتماعية. ومؤكد أن هذا يعني تغيير البنية السياسية والحزبية في إسرائيل.

 

  • فريق ماسة
  • 2011-08-17
  • 7571
  • من الأرشيف

ثورة إسرائيلية؟

يمكن القول دون مبالغة ان الاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل تحدث ثورة عميقة في مجالات مختلفة وخصوصا السياسية والفكرية. فهي تعيد رسم صورة المجتمع الإسرائيلي لتبعد عنه صورة «سوبرمانية» وتضفي عليه صورة اعتيادية. وربما أن ذلك كان وراء اشتراك جميع شرائح المجتمع في محاولة بلورة ما أسمته رئيسة المحكة العليا، القاضية دوريت بينيش، «النظام الاجتماعي الجديد». ومن شبه المؤكد أن النظام المقصود لا يتصل فقط بطريقة إعادة توزيع الموارد بين طبقات المجتمع وحسب وإنما كذلك بإعادة صياغة الثقافة والحلبة السياسية أيضا. فقد أثبتت الاحتجاجات الاجتماعية أن هناك ما يمكن أن يوحد المجتمع، أو أغلبيته الساحقة، على أهداف واحدة ليست فقط محاربة العرب أو طريقة التعامل معهم. بل أن هذه الاحتجاجات بينت أن قضايا السلم والحرب ليست، على الأقل في الظروف الراهنة، العنصر الوحيد المحدد للوجهة العامة أو لاهتمامات الناس. كما أنها أظهرت بوضوح أنه لا يكفي تأييد هذا الحزب أو ذاك من الناحية السياسية حتى تتم تلبية احتياجات الناس الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. ومن الجائز أن أبرز ما أظهرته الاحتجاجات أن الحلبة السياسية تكاد تخلو من أي حزب يمثل متطلبات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ولهذا السبب تتعالى الأصوات الداعية إلى بلورة حزب أو أحزاب ذات تطلعات اجتماعية واضحة تملأ الفراغ الذي نشأ جراء غرق الحلبة السياسية في قضايا السلم والحرب. وكما تتعالى الأصوات لتأكيد الصورة الطبيعية بأن يستند التقاطب بين اليمين واليسار إلى أسس اجتماعية اقتصادية وأن يخرج من قمقم الموقف السياسي. ويرى بعض المثقفين أن أحد أهم عوامل التغيير في إسرائيل يتمثل في تغيير صورة ومعنى اليساري، فـ«اليساري» لم يعد ذلك «المدافع» عن السلام مع العرب أو المندد بانتهاكات حقوق الفلسطينيين وإنما يمكن أن يكون أيضا المدافع عن الحقوق الاجتماعية للفقراء وحتى لأبناء الطبقة الوسطى. وهكذا ورغم أن الاحتجاجات لم ترفع البتة مطلب «إسقاط النظام» وإنما «تغيير الأسلوب» إلا أنها لا تقل «ثورية» في جوهرها الداعي لـ«تغيير النظام». ويشدد علماء اجتماع إسرائيليون على أن الاحتجاجات حركة سياسية بامتياز رغم أنها ليست حزبية. ويعتقد آخرون أن هذه الاحتجاجات سوف تقود بطرق مختلفة إلى «تغيير النظام». وليس صدفة أن أولى ضحايا الاحتجاجات حتى الآن المؤسسة العسكرية التي صار مطلب وزارة المالية الأول لتلبية بعض مطالب المحتجين تقليص ميزانيتها بملياري شيكل (أكثر من نصف مليار دولار). كما أن الضحية الثانية للاحتجاجات تتمثل في كبار الرأسماليين الاحتكاريين في إسرائيل الذين أنشأوا صلات شبه علنية مع قادة الأحزاب السياسية بحيث بات التعبير عن الثراء أحد مظاهر السطوة السياسية. لقد شكلت الحكومة «لجنة ترختنبرغ» لوضع توصيات لحل الأزمة الاجتماعية، فتشكلت بالمقابل لجنة «حكماء» من كبار الخبراء الاقتصاديين وعلماء الاجتماع لتقديم النصح للمحتجين. ويبدو جليا حتى الآن أن المحتجين يرون في «لجنة ترختنبرغ» نوعا من محاولة احتواء الموقف ومنع التصعيد. ولذلك فإنهم يزدادون يوما بعد يوم إصرارا على أن التغيير لا يعني تحقيق هذا المطلب الجزئي أو ذاك بقدر ما يعني تغيير بنية السياسة الاقتصادية لتغدو أكثر ميلا لتحقيق العدالة الاجتماعية. ومؤكد أن هذا يعني تغيير البنية السياسية والحزبية في إسرائيل.  

المصدر : السفير /حلمي موسى


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة