قد تشكل مواقع الحروف المتشابهة في اسمي البلدين.. استعارات تشبيهية، لتاريخ العلاقات بينهما عبر التاريخ.. ففي الوقت الذي تعتبر الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا امتدادا للكنيسة الانطاكية ومقرها دمشق، فقد تم إطلاق اسم بالميرا أو تدمر الشمال على مدينة سانت بطرسبورغ الروسية..

 

 وكما في التاريخ والحضارة العريقة، كذلك في المصالح المشتركة، فالعلاقة بين موسكو ودمشق راسخة بغض النظر عمن يحكم روسيا. هذه الشراكة الاستراتيجية تجددت بعمق بين الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين منذ العام ٢٠٠٧، في وقت كان العالم يتجاهل روسيا ويعتبر انه لن تقوم لها قائمة الا بعد عقود طويلة من تفكك الاتحاد السوفياتي.

 

لم يكن التحالف هو فقط ضد الإرهاب فهذا مصطلح سياسي في النهاية، وإنما جاء ليواجه صراعا مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تفكر   بأن تقسيم روسيا والحصول على تركة أضخم دولة في العالم ومواجهة التمدد الصيني الهدف الاساس الذي سُخِّر من أجله إرهاب، وإرهابيون، و ربيع و خريف عربيان، و تدخّل افرنجي، و كل شيء تبدى من البوابة السورية..

 

انطلاقا من هذه المسلّمات، شهدنا منذ بداية الحرب على سوريا (التي أعقبت لو نذكر حربا روسية ضروسا ضد الإرهاب الشيشاني وغيره قاده بوتين نفسه) نوعا جديدا من الأداء الدبلوماسي للخارجيتين الروسية والصينية تبديا في الفيتو المزدوج في مجلس الأمن رغم ان فيتو واحدا كان يكفي.

 

  تدرك روسيا حجم التمدد الذي يمارسه حلف شمال الأطلسي "الناتو" على حدودها تباعا حيث صار يعمل منذ زمن حتى في جورجيا و مولدافيا و أوكرانيا... هنا كانت سورية أولى الدول التي وقفت مع روسيا بشأن جورجيا قبل كل ما سمي ربيعا عربيا بسنوات.. قامت سوريا بدعم بوتين آنذاك فيما كانت العلاقات الاقتصادية السورية مع الغرب كله على أعلى مستوياتها سواء الاتحاد الأوروبي أو حتى الاستثمارات النفطية الأمريكية في حقل كونيكو للغاز في دير الزور... هذا بالضبط يُبرز الفرق بين الاستراتيجي والتكتيكي في ذهن القيادة السورية.

 

هل تضغط روسيا ؟

 

كثيرون جزعوا من طرح مناطق خفض التصعيد الأربع التي أعلنت في سورية كتفاهمات نجمت عن اتفاقيات استانة بين روسيا و ايران و تركيا.. وتوقعوا آنذاك أن يتحول الأمر إلى وضع دائم أو تقسيم للبلد وهي المنطقة الجنوبية ودوما والقلمون الشرقي وإدلب.. لكن سرعان ما اختفى الجزع وخابت آمال المخطّطين، حين جرى تحرير هذه المناطق بطريقتين، عسكرية تمثلت بقتال المجموعات التي تخرق الاتفاقات، و فتح الطريق بما عرف بظاهرة الباصات الخضراء لنقل المسلحين و عائلاتهم إلى ادلب وفق نظرية منظر الحرب الصيني الشهير صن زو الذي يقول بإنشاء ما يعرف بالجسر الذهبي ( Golden bridge) اي ألا تترك العدو يستبسل في الدفاع عن مواقعه و تعمل على فكفكة قواه من مناطقه الرخوة..  نجح تماما، وعادت المناطق وإن اختلفت بعضها بنسب التعافي وبالأخص حوران وذلك له عوامل عديدة....

 

سياسيا، نجح حلفاء سورية الروس والإيرانيون بتكريس سابقة دبلوماسية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث انتقل التفاوض من عواصم الغرب باتجاه استانة ثم سوتشي..  وحين أصرّ الغرب على عودة مكان اجتماع اللجنة الدستورية إلى جنيف قالت سورية أن جنيف هي مكان وليست مرجعية.. وهذا أمر ذو دلالة..

 

العقبة التركية 

 

ما يعيق جوهريا الوقوف ضد السياسة الأمريكية هي تركيا التي ومهما كانت الحاجة الروسية او الايرانية اليها حاليا الا انه من الصعب التفكير بأن بوتين سيقبل استراتيجيا بتوسيع دور دولة توسعية لها أطماع حتى في جواره التركماني.   لكن ثمة مصالح آنية ضرورية مع انقرة منها كونها دولة ثالثة ضامنة للاتفاقيات، ثم ان   التبادل التجاري بين روسيا وتركيا وصل ال 30 مليار دولار وبين  إيران و تركيا الى حوالى 20 مليار دولار.

 

تلعب السياسية التركية حاليا أوراقها كاملة ومع الجميع.... فهي مثلا اشترت ال.  اS400 الروسية وعينها  على الباتريوت الأمريكية و فاوضت الروس على شرق الفرات ضمن تفاهمات استانة فوضعت لها روسيا قالبا مؤقتا سمته اتفاق اضنة ليضمن للحكومتين التركية و السورية آمنا و تفاهما متبادلين على جانبي الحدود، فما لبثت تركيا أن باعته فورا إلى أمريكا... ثم تفاهمت مع تركيا حول إدلب و فتح الطرق البرية و بخاصة الآن طريق حلب اللاذقية، فقامت أنقرة بالمقابل بحشد جيشها و تمارس سياسة أعلنها أردوغان في إحدى خطبه انها ستحول تلك المناطق إلى وضع يشبه شمال قبرص..

 

ليبيا والمستعمر التركي

 

الشاهد الملك على العقل التوسعي التركي الحالي هي حتما ليبيا. هذا العقل التوسعي الاستعماري الذي خاطب العراق باستعلاء مقيت، ودخل محتلا الى مناطق سورية، يعتقد أنه سينجح في ليبيا حيث عجز في الدول الأخرى وذلك من على صهوة إسلامية اخوانية ومتطرفة ولا تتردد في استخدام الإرهاب مطية. لعل هذا أيقظ الضمائر العربية النائمة بغية تشكيل   قوى تستطيع المواجهة، خاصة من قبل مصر والجزائر ( التي وقفت دائما مع القضايا العربية) من جهة و بدعم سعودي إماراتي ممكن جدا....

 

الريبة الروسية من اردوغان

 

 لا شك ان روسيا تنظر بعين الريبة الى هذا التوسع التركي في ليبيا، حتى ولو انها لم تعترض بحزم على اجتياح الأطلسي وقتل العقيد القذافي، وقالت في ما بعد انها لن تسمح بتكرار التجربة الليبية في سورية. فكل توسع تركي يهدد المصالح الروسية، لان أحلام اردوغان الدائمة هي إعادة أمجاد إمبراطورية عثمانية تريد تحويل شمال سورية والعراق إلى ما يشبه شمال قبرص و تتمتع بغاز قطري و تيار اخوان مسلمين عالمي، وتستخدم كل الساحات في سبيل ذلك. بمعنى آخر، ان التكتيك الروسي في احتواء أردوغان، لا يعني مطلقا مصلحة استراتيجية دائمة، خصوصا ان الثقة بالرئيس التركي مهزوزة عند الجميع شرقا وغربا.

 

من هو ذلك السياسي في دولة عظمى كروسيا الذي سيقبل بوضع كهذا على حدوده.. وهل يعتقد احد بأنه سيعول على الغرب ليفشل هكذا مشروع قائم و كنيسة آيا صوفيا المشرفة على مضائق البوسفور و الدردنيل تغط بصمت، في وقت يبني فيه أردوغان قصوره لحكم المتحدرين من الاثنية التركية و يشكلون عديد الجمهوريات في روسيا نفسها..

 

صحيح أن روسيا تريد تركيا دولة جارة على حدودها لكن الصحيح أكثر انها لم ولن تقبل بها دولة توسعية، وشرط هذا الأمر هو أن تكون جارة لسورية أولا بأن تنسحب من كل شبر في الأرض السورية. لذلك لو تلاحظون، لا يوجد بيان في مسلسل اجتماعات استانة و سوتشي الا واعيد فيه ذكر عبارة "وحدة و سيادة الأراضي السورية " مع التوقيع عليه من الجميع ...بمن فيهم التركي ولو على مضض

  • فريق ماسة
  • 2020-05-12
  • 17406
  • من الأرشيف

بوتين : الاستراتيجيا مع سورية والتكتيك مع تركيا

قد تشكل مواقع الحروف المتشابهة في اسمي البلدين.. استعارات تشبيهية، لتاريخ العلاقات بينهما عبر التاريخ.. ففي الوقت الذي تعتبر الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا امتدادا للكنيسة الانطاكية ومقرها دمشق، فقد تم إطلاق اسم بالميرا أو تدمر الشمال على مدينة سانت بطرسبورغ الروسية..    وكما في التاريخ والحضارة العريقة، كذلك في المصالح المشتركة، فالعلاقة بين موسكو ودمشق راسخة بغض النظر عمن يحكم روسيا. هذه الشراكة الاستراتيجية تجددت بعمق بين الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين منذ العام ٢٠٠٧، في وقت كان العالم يتجاهل روسيا ويعتبر انه لن تقوم لها قائمة الا بعد عقود طويلة من تفكك الاتحاد السوفياتي.   لم يكن التحالف هو فقط ضد الإرهاب فهذا مصطلح سياسي في النهاية، وإنما جاء ليواجه صراعا مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تفكر   بأن تقسيم روسيا والحصول على تركة أضخم دولة في العالم ومواجهة التمدد الصيني الهدف الاساس الذي سُخِّر من أجله إرهاب، وإرهابيون، و ربيع و خريف عربيان، و تدخّل افرنجي، و كل شيء تبدى من البوابة السورية..   انطلاقا من هذه المسلّمات، شهدنا منذ بداية الحرب على سوريا (التي أعقبت لو نذكر حربا روسية ضروسا ضد الإرهاب الشيشاني وغيره قاده بوتين نفسه) نوعا جديدا من الأداء الدبلوماسي للخارجيتين الروسية والصينية تبديا في الفيتو المزدوج في مجلس الأمن رغم ان فيتو واحدا كان يكفي.     تدرك روسيا حجم التمدد الذي يمارسه حلف شمال الأطلسي "الناتو" على حدودها تباعا حيث صار يعمل منذ زمن حتى في جورجيا و مولدافيا و أوكرانيا... هنا كانت سورية أولى الدول التي وقفت مع روسيا بشأن جورجيا قبل كل ما سمي ربيعا عربيا بسنوات.. قامت سوريا بدعم بوتين آنذاك فيما كانت العلاقات الاقتصادية السورية مع الغرب كله على أعلى مستوياتها سواء الاتحاد الأوروبي أو حتى الاستثمارات النفطية الأمريكية في حقل كونيكو للغاز في دير الزور... هذا بالضبط يُبرز الفرق بين الاستراتيجي والتكتيكي في ذهن القيادة السورية.   هل تضغط روسيا ؟   كثيرون جزعوا من طرح مناطق خفض التصعيد الأربع التي أعلنت في سورية كتفاهمات نجمت عن اتفاقيات استانة بين روسيا و ايران و تركيا.. وتوقعوا آنذاك أن يتحول الأمر إلى وضع دائم أو تقسيم للبلد وهي المنطقة الجنوبية ودوما والقلمون الشرقي وإدلب.. لكن سرعان ما اختفى الجزع وخابت آمال المخطّطين، حين جرى تحرير هذه المناطق بطريقتين، عسكرية تمثلت بقتال المجموعات التي تخرق الاتفاقات، و فتح الطريق بما عرف بظاهرة الباصات الخضراء لنقل المسلحين و عائلاتهم إلى ادلب وفق نظرية منظر الحرب الصيني الشهير صن زو الذي يقول بإنشاء ما يعرف بالجسر الذهبي ( Golden bridge) اي ألا تترك العدو يستبسل في الدفاع عن مواقعه و تعمل على فكفكة قواه من مناطقه الرخوة..  نجح تماما، وعادت المناطق وإن اختلفت بعضها بنسب التعافي وبالأخص حوران وذلك له عوامل عديدة....   سياسيا، نجح حلفاء سورية الروس والإيرانيون بتكريس سابقة دبلوماسية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث انتقل التفاوض من عواصم الغرب باتجاه استانة ثم سوتشي..  وحين أصرّ الغرب على عودة مكان اجتماع اللجنة الدستورية إلى جنيف قالت سورية أن جنيف هي مكان وليست مرجعية.. وهذا أمر ذو دلالة..   العقبة التركية    ما يعيق جوهريا الوقوف ضد السياسة الأمريكية هي تركيا التي ومهما كانت الحاجة الروسية او الايرانية اليها حاليا الا انه من الصعب التفكير بأن بوتين سيقبل استراتيجيا بتوسيع دور دولة توسعية لها أطماع حتى في جواره التركماني.   لكن ثمة مصالح آنية ضرورية مع انقرة منها كونها دولة ثالثة ضامنة للاتفاقيات، ثم ان   التبادل التجاري بين روسيا وتركيا وصل ال 30 مليار دولار وبين  إيران و تركيا الى حوالى 20 مليار دولار.   تلعب السياسية التركية حاليا أوراقها كاملة ومع الجميع.... فهي مثلا اشترت ال.  اS400 الروسية وعينها  على الباتريوت الأمريكية و فاوضت الروس على شرق الفرات ضمن تفاهمات استانة فوضعت لها روسيا قالبا مؤقتا سمته اتفاق اضنة ليضمن للحكومتين التركية و السورية آمنا و تفاهما متبادلين على جانبي الحدود، فما لبثت تركيا أن باعته فورا إلى أمريكا... ثم تفاهمت مع تركيا حول إدلب و فتح الطرق البرية و بخاصة الآن طريق حلب اللاذقية، فقامت أنقرة بالمقابل بحشد جيشها و تمارس سياسة أعلنها أردوغان في إحدى خطبه انها ستحول تلك المناطق إلى وضع يشبه شمال قبرص..   ليبيا والمستعمر التركي   الشاهد الملك على العقل التوسعي التركي الحالي هي حتما ليبيا. هذا العقل التوسعي الاستعماري الذي خاطب العراق باستعلاء مقيت، ودخل محتلا الى مناطق سورية، يعتقد أنه سينجح في ليبيا حيث عجز في الدول الأخرى وذلك من على صهوة إسلامية اخوانية ومتطرفة ولا تتردد في استخدام الإرهاب مطية. لعل هذا أيقظ الضمائر العربية النائمة بغية تشكيل   قوى تستطيع المواجهة، خاصة من قبل مصر والجزائر ( التي وقفت دائما مع القضايا العربية) من جهة و بدعم سعودي إماراتي ممكن جدا....   الريبة الروسية من اردوغان    لا شك ان روسيا تنظر بعين الريبة الى هذا التوسع التركي في ليبيا، حتى ولو انها لم تعترض بحزم على اجتياح الأطلسي وقتل العقيد القذافي، وقالت في ما بعد انها لن تسمح بتكرار التجربة الليبية في سورية. فكل توسع تركي يهدد المصالح الروسية، لان أحلام اردوغان الدائمة هي إعادة أمجاد إمبراطورية عثمانية تريد تحويل شمال سورية والعراق إلى ما يشبه شمال قبرص و تتمتع بغاز قطري و تيار اخوان مسلمين عالمي، وتستخدم كل الساحات في سبيل ذلك. بمعنى آخر، ان التكتيك الروسي في احتواء أردوغان، لا يعني مطلقا مصلحة استراتيجية دائمة، خصوصا ان الثقة بالرئيس التركي مهزوزة عند الجميع شرقا وغربا.   من هو ذلك السياسي في دولة عظمى كروسيا الذي سيقبل بوضع كهذا على حدوده.. وهل يعتقد احد بأنه سيعول على الغرب ليفشل هكذا مشروع قائم و كنيسة آيا صوفيا المشرفة على مضائق البوسفور و الدردنيل تغط بصمت، في وقت يبني فيه أردوغان قصوره لحكم المتحدرين من الاثنية التركية و يشكلون عديد الجمهوريات في روسيا نفسها..   صحيح أن روسيا تريد تركيا دولة جارة على حدودها لكن الصحيح أكثر انها لم ولن تقبل بها دولة توسعية، وشرط هذا الأمر هو أن تكون جارة لسورية أولا بأن تنسحب من كل شبر في الأرض السورية. لذلك لو تلاحظون، لا يوجد بيان في مسلسل اجتماعات استانة و سوتشي الا واعيد فيه ذكر عبارة "وحدة و سيادة الأراضي السورية " مع التوقيع عليه من الجميع ...بمن فيهم التركي ولو على مضض

المصدر : طارق الأحمد


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة