أتذكّر أنك في إحدى مقابلاتك مع الرئيس بشار الأسد، أهديتَهُ عطراً إيطالياً اسمه "كابوتشي CAPUCCI" مثل اسمكَ.

 

"ليس الدينُ لقباً به نتغنّى، أو مجموعة عقائد بِها نُؤمن. الدينُ حياةٌ وعمل، أرِني دينكَ من أعمالك".

 

هذه جملةٌ من رسالةٍ - من رسائل - بعثها لي المثلثُ الرحمة المطران إيلاريون كبوجي في العام 2000، وقد اعتبرتها منهجاً في حياتي.

 

سيدنا الغالي..

 

أعرف تماماً ما يعنيهِ اسم "القدس" لكَ.

 

حتى بعد خروجكَ من السجنِ، رفضتَ أن تنزع من لقبكَ اسم "القدس".

 

"إيلاريون كبوجي.. مطران القدس في المنفى". هكذا كنتَ توقّعُ رسائلك.

 

ما أعظم الاسم سيّدنا! وما أعظمكَ!

 

يمرُّ أمامي شريطُ الذكريات وأنا أحضرُ مسلسل "حارس القدس" الرائع الذي يروي قصة حياتك.

 

عندما كنتَ كاهناً في البطريركية في دمشق، كنتَ تزورنا. كنتُ طفلاً أُمسكُ لعبتي "البطة الصغيرة" وأنتَ تقفُ قربي.

 

أتذكرُك سيّدنا عندما قَدِمتَ إلى حلب، وكنتُ أراك متعباً. لم تستطع الوقوف والنزول من الطائرة، فاقترحتُ عليك الكرسي المتحرك. أتذكركَ كيفَ صرختَ بي وأنتَ تنظر إليّ بغضبٍ: "يا باسل، إسرائيل لم تستطع أن تُثبط عزيمتي، وأنتَ تريدني أن أنزل من الطائرة على كرسيٍ متحرك؟".

 

أتذكرك عندما اتصلتَ بي من روما - كعادتك صباحاً قبل السادسة - لتعزيني بوفاة والدتي. كنّا في بداية الأزمة، وسألتك عن النبرةِ الحزينةِ في صوتِكَ، فأجبتني: أخافُ على سوريا، إن السيد المسيح قال: "اغفر لهم يا أبتي لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون". أما هؤلاء يا باسل، فإنهم يعلمون ماذا يفعلون، إنهم يريدون الخراب.

 

أذكر كيف كنتَ تُرتِّب حقيبة السفرِ لعودتكَ من حلب إلى روما. كانت ترافقُ حقيبتك ألواح صابون الغار الحلبي، والزعتر الحلبي، وحتى الخبز الحلبي، وكنتَ تقول لي: "عندما آتي إلى حلب، وتحينُ عودتي إلى "منفايَ" في روما، أكون مثل التلميذ الذي يدقّ جرس المدرسة مؤذناً بالعودة إلى الصف بعد فترة اللعب والاستراحة. أنا مثل هذا التلميذ".

 

أذكر "مُنتهى"، هذه السيدة الرائعة التي استقبلتني في مطارِ روما - وأعادتني - وأخذتني إليك، فدعوتَني إلى الغداء في المطعم الحلبي نفسه الذي مرّ في المسلسل.

 

أذكر أني كنتُ أحملُ رسالة من صديقكَ الشيخ أحمد حسون، وكان آنذاك مفتياً لمدينة حلب، خاطبكَ فيها: "أيها الرمز في زمنٍ تضاءلت فيهِ الرموز"، ودعاكَ: "نتمنّى أن نَراكَ قريباً بيننا، وأن تَقبَلَ أن نكون نحن ضيوفاً عندك". وأعلَمتَني في هذا المطعم أنكَ تلقّيت تهديداتٍ بالقتل من جهاتٍ غير عربية لكي توقف نشاطك.

 

أتذكّر أنك في إحدى مقابلاتك مع الرئيس بشار الأسد، أهديتَهُ عطراً إيطالياً اسمه "كابوتشي CAPUCCI" مثل اسمكَ، فقلتُ لكَ إن الرئيس في الأساس لا ينساكَ، وبعدَ هذا العطر، أينما حرّك رأسه سيشمّكَ ويتذكركَ، فأجبتني وأنت تضحكُ ضحكتكَ التي ترجمها الفنان رشيد عساف في المسلسل بأن الرئيس بشار يحبُ هذا العطر.

 

 أتذكّرك كيف "أكلتُ منك بهدلة" عندما نَشَرَتْ صحيفة سورية أنك أجنبي، وكان هاتفكَ الصباحي لتقول لي: "هل أنا غربي يا باسل؟ هل المطران كبوجي أوروبي؟ أنا حلبي، المطران كبوجي حلبي... أنا من سوريا".

 

نعم، إنك حلبيّ، ومن سوريا. لم يَستطع الإسرائيليون، برغم سجنكَ، أن يمنعوك من لبس الصليب واللباس الكهنوتي.

 

كيف أنسى عندما ذَكرتَ لي أن الإسرائيليين قلعوا ضرسكَ من دون مخدّر، وكيف سرقوا لباسكَ الكهنوتي في الزنزانة، وكيف صنعَ لكَ السجناء الفلسطينيون لباساً تم تهريبه لك، فما كان من رئيس السجن إلا أن "شَقَّ" لك الكمّ خلال تهديده لك. وعندما أطلقوا سراحك، لبست هذا اللباس "المشقوق" عند وصولكَ إلى روما.

 

أبتسمُ لك وأنا أتذكر كيف "تَحَايلتُ" عليك مع أخي الشيخ صلاح كفتارو لكي تلقي كلمة في مجمع والده في دمشق، مفتي سوريا السابق "أحمد كفتارو"، وكيف تطلّعت إلي بنظرتك المعاتبة، ولكنها الأبوية، ثم اعتليتَ المنبر وألقيت كلمتكَ الرائعة.

 

أتذكر كيف استلمتَ الجائزة الممنوحة للشيخ أحمد حسون في روما، وكيف ضحكتَ خلال الاتصال الهاتفي بينكما، عندما قال لكَ المفتي إنه قال لهم: "أنا مفتي سوريا وعمّي هو المطران كبوجي".

 

الكثير من شريط الذكريات يمرّ وأنا أشاهد مسلسل "حارس القدس"؛ هذا المسلسل الذي يجب أن "نشاهده بقلبنا"، بحسب ما قاله الكاتب حسن م. يوسف، الذي كان يسألني لكي يترجم شَخصيتكَ تماماً، أو المواقع واللقطات التي أبدع مخرج العمل باسل الخطيب أيما إبداع فيها.

 

 الكل عَمِلَ جاهداً، من موسيقى سمير كويفاتي، إلى أداء ميادة بسيليس، فحتى الموسيقى يا سيّدنا كانت حلبية.

 

 أتذكركَ أمامي في الكثير من المواقف واللحظات التي لا تُنسى، وأنا أكلِّمك عن المسلسل، وأحاول أن أشرح لكَ كل شيء، فحلب لم تتحرر فقط، بل تتذكر، وبفخر، أبناءها.

 

نفتخرُ بك - ليس أنا فقط - ففي حياتكَ كنتَ فخراً، في تاريخكَ وسجنكَ ونضالكَ.

 

في حياتكَ، كان الإسرائيليون يخافونكَ، والكثير من الناس، ومنهم رجال الدين المسيحي، كانوا يغارون منكَ.

 

وفي مماتكَ أيضاً سيخافون ويغارون منك، لأنك الماضي والحاضر والمستقبل.

 

اللهم اشهد أني بلغت.

  • فريق ماسة
  • 2020-04-29
  • 16750
  • من الأرشيف

كبوجي.. يخافونك أيضاً بعد رحيلك

أتذكّر أنك في إحدى مقابلاتك مع الرئيس بشار الأسد، أهديتَهُ عطراً إيطالياً اسمه "كابوتشي CAPUCCI" مثل اسمكَ.   "ليس الدينُ لقباً به نتغنّى، أو مجموعة عقائد بِها نُؤمن. الدينُ حياةٌ وعمل، أرِني دينكَ من أعمالك".   هذه جملةٌ من رسالةٍ - من رسائل - بعثها لي المثلثُ الرحمة المطران إيلاريون كبوجي في العام 2000، وقد اعتبرتها منهجاً في حياتي.   سيدنا الغالي..   أعرف تماماً ما يعنيهِ اسم "القدس" لكَ.   حتى بعد خروجكَ من السجنِ، رفضتَ أن تنزع من لقبكَ اسم "القدس".   "إيلاريون كبوجي.. مطران القدس في المنفى". هكذا كنتَ توقّعُ رسائلك.   ما أعظم الاسم سيّدنا! وما أعظمكَ!   يمرُّ أمامي شريطُ الذكريات وأنا أحضرُ مسلسل "حارس القدس" الرائع الذي يروي قصة حياتك.   عندما كنتَ كاهناً في البطريركية في دمشق، كنتَ تزورنا. كنتُ طفلاً أُمسكُ لعبتي "البطة الصغيرة" وأنتَ تقفُ قربي.   أتذكرُك سيّدنا عندما قَدِمتَ إلى حلب، وكنتُ أراك متعباً. لم تستطع الوقوف والنزول من الطائرة، فاقترحتُ عليك الكرسي المتحرك. أتذكركَ كيفَ صرختَ بي وأنتَ تنظر إليّ بغضبٍ: "يا باسل، إسرائيل لم تستطع أن تُثبط عزيمتي، وأنتَ تريدني أن أنزل من الطائرة على كرسيٍ متحرك؟".   أتذكرك عندما اتصلتَ بي من روما - كعادتك صباحاً قبل السادسة - لتعزيني بوفاة والدتي. كنّا في بداية الأزمة، وسألتك عن النبرةِ الحزينةِ في صوتِكَ، فأجبتني: أخافُ على سوريا، إن السيد المسيح قال: "اغفر لهم يا أبتي لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون". أما هؤلاء يا باسل، فإنهم يعلمون ماذا يفعلون، إنهم يريدون الخراب.   أذكر كيف كنتَ تُرتِّب حقيبة السفرِ لعودتكَ من حلب إلى روما. كانت ترافقُ حقيبتك ألواح صابون الغار الحلبي، والزعتر الحلبي، وحتى الخبز الحلبي، وكنتَ تقول لي: "عندما آتي إلى حلب، وتحينُ عودتي إلى "منفايَ" في روما، أكون مثل التلميذ الذي يدقّ جرس المدرسة مؤذناً بالعودة إلى الصف بعد فترة اللعب والاستراحة. أنا مثل هذا التلميذ".   أذكر "مُنتهى"، هذه السيدة الرائعة التي استقبلتني في مطارِ روما - وأعادتني - وأخذتني إليك، فدعوتَني إلى الغداء في المطعم الحلبي نفسه الذي مرّ في المسلسل.   أذكر أني كنتُ أحملُ رسالة من صديقكَ الشيخ أحمد حسون، وكان آنذاك مفتياً لمدينة حلب، خاطبكَ فيها: "أيها الرمز في زمنٍ تضاءلت فيهِ الرموز"، ودعاكَ: "نتمنّى أن نَراكَ قريباً بيننا، وأن تَقبَلَ أن نكون نحن ضيوفاً عندك". وأعلَمتَني في هذا المطعم أنكَ تلقّيت تهديداتٍ بالقتل من جهاتٍ غير عربية لكي توقف نشاطك.   أتذكّر أنك في إحدى مقابلاتك مع الرئيس بشار الأسد، أهديتَهُ عطراً إيطالياً اسمه "كابوتشي CAPUCCI" مثل اسمكَ، فقلتُ لكَ إن الرئيس في الأساس لا ينساكَ، وبعدَ هذا العطر، أينما حرّك رأسه سيشمّكَ ويتذكركَ، فأجبتني وأنت تضحكُ ضحكتكَ التي ترجمها الفنان رشيد عساف في المسلسل بأن الرئيس بشار يحبُ هذا العطر.    أتذكّرك كيف "أكلتُ منك بهدلة" عندما نَشَرَتْ صحيفة سورية أنك أجنبي، وكان هاتفكَ الصباحي لتقول لي: "هل أنا غربي يا باسل؟ هل المطران كبوجي أوروبي؟ أنا حلبي، المطران كبوجي حلبي... أنا من سوريا".   نعم، إنك حلبيّ، ومن سوريا. لم يَستطع الإسرائيليون، برغم سجنكَ، أن يمنعوك من لبس الصليب واللباس الكهنوتي.   كيف أنسى عندما ذَكرتَ لي أن الإسرائيليين قلعوا ضرسكَ من دون مخدّر، وكيف سرقوا لباسكَ الكهنوتي في الزنزانة، وكيف صنعَ لكَ السجناء الفلسطينيون لباساً تم تهريبه لك، فما كان من رئيس السجن إلا أن "شَقَّ" لك الكمّ خلال تهديده لك. وعندما أطلقوا سراحك، لبست هذا اللباس "المشقوق" عند وصولكَ إلى روما.   أبتسمُ لك وأنا أتذكر كيف "تَحَايلتُ" عليك مع أخي الشيخ صلاح كفتارو لكي تلقي كلمة في مجمع والده في دمشق، مفتي سوريا السابق "أحمد كفتارو"، وكيف تطلّعت إلي بنظرتك المعاتبة، ولكنها الأبوية، ثم اعتليتَ المنبر وألقيت كلمتكَ الرائعة.   أتذكر كيف استلمتَ الجائزة الممنوحة للشيخ أحمد حسون في روما، وكيف ضحكتَ خلال الاتصال الهاتفي بينكما، عندما قال لكَ المفتي إنه قال لهم: "أنا مفتي سوريا وعمّي هو المطران كبوجي".   الكثير من شريط الذكريات يمرّ وأنا أشاهد مسلسل "حارس القدس"؛ هذا المسلسل الذي يجب أن "نشاهده بقلبنا"، بحسب ما قاله الكاتب حسن م. يوسف، الذي كان يسألني لكي يترجم شَخصيتكَ تماماً، أو المواقع واللقطات التي أبدع مخرج العمل باسل الخطيب أيما إبداع فيها.    الكل عَمِلَ جاهداً، من موسيقى سمير كويفاتي، إلى أداء ميادة بسيليس، فحتى الموسيقى يا سيّدنا كانت حلبية.    أتذكركَ أمامي في الكثير من المواقف واللحظات التي لا تُنسى، وأنا أكلِّمك عن المسلسل، وأحاول أن أشرح لكَ كل شيء، فحلب لم تتحرر فقط، بل تتذكر، وبفخر، أبناءها.   نفتخرُ بك - ليس أنا فقط - ففي حياتكَ كنتَ فخراً، في تاريخكَ وسجنكَ ونضالكَ.   في حياتكَ، كان الإسرائيليون يخافونكَ، والكثير من الناس، ومنهم رجال الدين المسيحي، كانوا يغارون منكَ.   وفي مماتكَ أيضاً سيخافون ويغارون منك، لأنك الماضي والحاضر والمستقبل.   اللهم اشهد أني بلغت.

المصدر : الميادين /باسل قس نصر الله


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة