دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
تدخل الأزمة السورية في مرحلة جديدة من التعقيد السياسي والميداني، فيما تحاول القوى الدولية والاقليمية تثبيت مواقعها وترتيب أولوياتها للحفاظ على الحد الأقصى من المكتسبات بانتظار حل سياسي يبدو أنه يقترب مع الاشارات الواضحة التي توحي بإعطاء ضوء أخضر للمواجهة العسكرية المباشرة بين الجيش السوري والمجموعات المسلحة في آخر معاقلها في ادلب.
خلافا للاعتقاد السائد بوجود خلافات عميقة بين تركيا وروسيا على خلفية تفاهم انقرة مع واشنطن حول المنطقة الآمنة شرقي الفرات، وايضا بشأن مصير مدينة ادلب السورية وخطوط تركيا الحمر حولها، فإن الواقع السوري، السياسي والميداني، يوحي بأن المشهد العام لا يزال تحت سيطرة الثلاثي الضامن (روسيا وتركيا وايران)، وما يجري حاليا ليس سوى عملية اعادة تموضع مرتبطة بعوامل عدة طرأت على المشهد السوري – الاقليمي وتجاوزت التفاهمات السابقة وبالتالي لا بد من تعديل هذه التفاهمات لتتلاءم مع الواقع الجديد ومصالح كل طرف من الأطراف الثلاثة.
ويبدو أن المحرك الأساس لجملة التطورات الأخيرة متعلق بالجانب التركي والاستحقاقات المختلفة التي تواجهها أنقرة على جبهات عدة، داخليا، مع تراجع شعبية الرئيس رجب طيب اردوغان وفوز المعارضين بعدد من البلديات الكبيرة في الانتخابات البلدية الأخيرة، وعلى المستوى السوري، بعد بسط الحكومة السورية سيطرتها على معظم الاراضي السورية بموازاة تعاظم قوة الأكراد المدعومين، بسخاء، من قبل الولايات المتحدة، وأخيرا على مستوى العلاقة المتوترة جدا مع الاتحاد الاوروبي على خلفية تنقيب تركيا عن الغاز في المياه الإقليمية القبرصية.
أردوغان.. وأوراقه الرابحة!
وأمام هذا الكم من الاستحقاقات، التي لا تلعب لمصلحة الطرف التركي، قرر اردوغان لعب ورقة يعتبرها رابحة وتؤمن له مكاسب في اتجاهات عدة، عبر تسريع الخطى لاقامة “المنطقة الآمنة”، وكله إعتقاد بأن هذه الخطوة التي انتظر تحقيقها منذ بداية الحرب في سوريا، ستحقق له هدفين على الأقل، الأول، التخلص من القسم الأكبر من اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا وعددهم يفوق الـ 3,6 مليون لاجئ، والثاني، ابعاد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” أو قوات الحزب الديمقراطي الكردي الذي تتهمه تركيا بالارهاب وبالتعاون مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، لمسافة كافية لا تسمح له بتهديد الاراضي التركية لاحقا.
اقرأ أيضا: “قسد” تحتل مبان حكومية سورية في الحسكة
وتصر أنقرة على أن يتراوح عمق المنطقة الآمنة ما بين خمسة كيلومترات الى اربعين كيلومترا، انطلاقا من الضفة الشرقية لنهر الفرات، أي ما يعادل مساحة لبنان تقريباً، فيما يطرح الاميركيون، الذي وافقوا أخيرا على الطلب التركي المزمن بشأن هذه المنطقة، عمقاً لا يزيد عن خمسة عشر كيلومترا، وتستمر النقاشات بين الجانبين التركي والاميركي لوضع الخرائط النهائية، بالتوازي مع بدء التحضيرات اللوجستية – الميدانية لاقامتها بأسرع وقت ممكن.
وتنص الخطة التركية الخاصة بالمنطقة الآمنة في مرحلتها الأولى على نقل لاجئين سوريين من فئة طائفية معينة، من ذوي الولاء السياسي الواضح والمعلن لتركيا، ومن المعدمين اقتصاديا، فور البدء بالعمل على انشاء بنية تحتية، ويقدر عددهم بأكثر من مليون سوري. ويقال في اسطنبول ان الحكومة التركية ستعمل على بناء بلدات وقرى مرتبطة خدماتيا مباشرة بتركيا، بحيث تنقل اليها الكهرباء والمياه والاتصالات والمواصلات، وستربط هذه المنطقة اقتصاديا ايضا بتركيا، بحيث تنقل اليها البضائع التركية وترتبط بنظام أنقرة المصرفي.
وبحسب الخطة التركية، تخضع هذه المنطقة تماما للسيادة التركية لكن مع مواطنين سوريين وعلى أرض سورية، وأمنياً ستشكل سدا منيعا في مواجهة الأكراد من جهة، والسلطة المركزية في دمشق من جهة أخرى.
وستتحول هذه المنطقة استراتيجيا، مع استتباب الأمور، فيما لو قررت انقرة نقل القسم الأكبر من اللاجئين اليها، الى قوة انتخابية وازنة، يمكن الاستناد إليها لايصال الصوت التركي الى داخل المؤسسات الرسمية السورية كالبرلمان، بعد إطلاق العملية السياسية الدستورية في سوريا.
ترى موسكو ان الأكراد هم الخاسر الأكبر جراء السياسات التاريخية للولايات المتحدة في سوريا، و”سيخسرون مرة جديدة” جراء التفاهم بين انقرة وواشنطن حول المنطقة الآمنة
هل توافق روسيا على المخطط التركي؟
لا ترى موسكو أي مشكلة في نقل اللاجئين السوريين من تركيا الى سوريا، بل على العكس، فهي لطالما طالبت وعملت على اعادة هؤلاء، ليس من تركيا فقط انما من كافة دول الجوار، لكن المشكلة لدى الجانب الروسي هي في الموقف الكردي.
ترى موسكو ان الأكراد هم الخاسر الأكبر جراء السياسات التاريخية للولايات المتحدة في سوريا، و”سيخسرون مرة جديدة” جراء التفاهم بين انقرة وواشنطن حول المنطقة الآمنة، فهم سيفقدون مناطق نفوذهم عسكريا، وسيتحولوا الى اقليات في بعض المناطق التي ستنقل تركيا اليها لاجئين عربا، تماما كما حصل في مدينة عفرين، حيث كانت نسبة الأكراد فيها 90 في المئة قبل سيطرة القوات التركية عليها في آذار/ مارس 2018، وتراجعت هذه النسبة الى أقل من 10 في المئة حاليا، بعد فرار الاكراد واسكان مسلحي الغوطة الشرقية وعائلاتهم فيها.
كما ستضطر القوات الكردية، بموجب الاتفاق مع الاميركيين، لابعاد اسلحتها الثقيلة لمسافة 20 كيلومترا انطلاقا من حدود المنطقة الآمنة باتجاه الداخل السوري.
وترى موسكو، أن الحل بالنسبة للأزمة الكردية هو بالحوار مع دمشق والاتفاق على نوع الادارة الذاتية وحجم الصلاحيات التي يمكن للحكومة السورية منحها لهم من أجل ادارة شؤونهم ولكن تحت ظل الحكومة المركزية، وقد عملت موسكو مرارا على تفعيل الحوار بين الطرفين، لكنها توصلت الى نتائج توحي “بأن الأكراد لم يتعلموا بعد من دروس العلاقات مع الجانب الاميركي ويفضلون البقاء تحت ظل الاميركيين والحفاظ على السلطة في مناطق نفوذهم”.
ويعبر الأكراد عن ثقتهم العالية بالاميركيين وبالوعود التي قدمتها لهم واشنطن لضمان أمنهم. وتقضي هذه الوعود، من جهة، بتسيير دوريات اميركية – تركية مشتركة في المناطق الآمنة، ومن جهة أخرى، تسيير دوريات اخرى مشتركة مع قوات “قسد” في مناطق سيطرة الاكراد مع وعود باستمرار الدعم العسكري والمالي على حاله، والاهم، وعود ببناء خط أمني بحماية اميركية – غربية، يفصل مناطقهم عن المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، يتحول تدريجيا الى ما يشبه الحدود التي توفر للأكراد حماية دولية لمناطق نفوذهم.
أمام هذا الواقع، ومع تعذر تحقيق أمنية موسكو بعودة المناطق الشمالية الحدودية الى سيادة دمشق، فإن الروس لا يجدون فرقا بين ان تخضع هذه المنطقة لسيطرة الاتراك، أو الأكراد بمشاركة الاميركيين.
على المقلب الاميركي، ستحقق واشنطن، التي كانت ترفض اقامة المنطقة الآمنة لتركيا، مكسبا هاما عبر اقامة شبه دولة للاكراد، الذين تحولوا على مر السنوات السبع الماضية الى ذراع عسكرية اميركية في المنطقة، تماما كما فعلت في مناطق الاكراد في شمال العراق عام 1991، وقامت خلال هذه الفترة بتدريبهم أحسن تدريب، ليس فقط على القتال وادارة الحروب، انما ايضا على ادارة مؤسسات حكومية وأجهزة رسمية مختلفة، ولتحقيق هذا الهدف، لم يكن أمام واشنطن الا التفاهم مع الجانب التركي والموافقة على مطلب انقرة بشأن المنطقة الآمنة.
معضلة ادلب.. بتكتيك الغوطة
لطالما رفضت روسيا السماح للجيش السوري وحلفائه بشن عملية عسكرية واسعة في المناطق الواقعة بين ريفي ادلب الجنوبي وحماه الشمالي لابعاد المسلحين عن الطريق العام بين دمشق وحلب، وهي الطريق المستهدفة من قبل المجموعات المسلحة، والتي ينص اتفاق سوتشي الروسي التركي الإيراني على تأمينها.
لكن هذا الواقع تغير تماما بعد توصل تركيا واميركا الى تفاهم حول المنطقة الآمنة، ففي 19 آب الماضي، وأثناء لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي امانويل ماكرون في جنوب فرنسا، قال بوتين ردا على سؤال حول العملية العسكرية السورية قبيل السيطرة على خان شيخون، ان “الارهابيين كانوا يسيطرون على 50 في المئة من مناطق ادلب قبل توقيع اتفاق سوتشي واليوم يسيطرون على 90 في المئة”.
كانت هذه الرسالة الواضحة موجهة الى تركيا بأنه لا بد من وضع حد لما يصفه الروس “الوضع الشاذ” في ادلب، فهم يحملون الجانب التركي مسؤولية عدم تطبيق اتفاق سوتشي القاضي بسحب المسلحين من مساحة عشرين كيلومترا في محيط المدينة، مع تسهيل ضرب المجموعات الارهابية التابعة لجبهة النصرة والمجموعات الأخرى المصنفة ارهابية، وابعد من ذلك، فإن موسكو تتهم، من دون ضجيج اعلامي انقرة بالسماح لمجموعات اضافية من المسلحين بتجاوز الحدود التركية والانتقال الى ادلب ومنها الى مناطق اخرى في سوريا.
هل يؤدي قرار موسكو بفتح الباب امام عملية عسكرية واسعة في ادلب إلى صدام مع تركيا؟
المطلعون على الموقف الروسي يقولون ان موسكو لم تعد ترى أي جدوى من المخاوف التركية التي كانت تستخدم ذريعة لمنع الهجوم على ادلب، خصوصا لجهة الخشية من موجة لجوء سورية جماعية باتجاه الداخل التركي، فقد قدمت موسكو تطمينات بأن العملية العسكرية لا تستهدف محافظة ادلب بالكامل، بل المدينة فقط، وستترك مساحات واسعة من ريف ادلب الشمالي، الواقع حاليا تحت السيطرة المباشرة للاتراك، خارج أهداف العملية العسكرية، افساحا في المجال امام من يريد من المسلحين وعائلاتهم اللجوء اليها، كما يمكن للجانب التركي نقل جزء من المسلحين وعائلاتهم الى “المنطقة الآمنة” شرقي نهر الفرات، وربما هذا ما أمكن قراءته بين سطور تصريحات بوتين واردوغان في آخر لقاء بينهما، حين اعلنا عن توافق على “اعادة الهدوء” الى ادلب.
العملية العسكرية باتجاه ادلب متوقعة قريبا، لكنها ستكون مماثلة للتكتيك الذي التزمه الجيش السوري في الغوطة الشرقية، أي قضم بطيء ومتدرج وصولا إلى تجميع المسلحين في منطقة محدودة قبل تخييرهم بين الاستسلام او اللجوء الى الشمال.
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة