أظهرت نتائجُ الانتخابات البلدية في تركيا (31 آذار/مارس 2019) أن السياسةأحياناً ما تأخذُ من حيثُ يظنُّ السياسيُّ أنّها تعطي، وقد تضربهُ من مأمنهِ، فيخسرُ من حيث يتوقّعُ الفوزَ.

 

وقد أساء أردوغانفهم الموقف الانتخابي والسياسي داخل تركيا، وبالَغَ في تقدير قوّته، وتعجّلَ في الإعلان عن الفوز، حتى قبل أن تجري الانتخابات، وحَتَمَ أو قَطَعَ فيما لا يمكن الحتمُ أو القطعُ فيه، وبخاصّةٍ في أمرين وهما: صندوق الاقتراع، والأزمة السورية بوصفها أحد أوراق السجال الانتخابي والسياسي داخل تركيا.

 

قال أدروغان قبل يومين من الانتخابات البلدية في تركيا، إنَّهُ بعد الانتخابات سوف "يحلُّ حتماً" الملفَ السوريّ "إمّا عن طريق المفاوضات إذا أمكن أو في الميدان". وقد تم تلقّي خطابه على "عموم اللفظ"، كما يقول الفقهاء، لكن أُغْفِلَ فيه–إلى حدٍّ ما– "خصوص السبب".

 

لم يكنكلامُأردوغان عن "الحلِّ" في سوريةنوعاً من الوعد الانتخابيّ لكسب أصوات الإسلامويين والقوميين المحافظين فحسب، إنّما كان نوعاًمن الإعلان المبكِّر أو المسبق عن الفوز في الانتخابات أيضاً، وكما هو معروف، فقد تعامل مع الحدثِ السوريّ منذ البداية بوصفه "شأناً داخليّاً"، وكان ذلك أحد أسباب فوزه في استحقاقات انتخابية ودستورية عديدة.

 

إذا أخذنا "عموم اللفظ"، أمكن القول: إنَّأردوغانأحال في تصريحاته إلى أمرين رئيسين: الأول، من حيث الزمن، أي: "ما بعد الانتخابات"، وكأنَّ الانتخابات حدٌّ فاصِلٌ بين ما كان قبلها وما سيأتي بعدها؛ والثاني، من حيث الموضوع، أي: "الحلّ" في سورية؛ وليس على المتابعين أن ينتظروا كثيراً جلاء الأمور–وهو ما حدث بعد يوم واحد– لكن لجهة الانتخابات التي خسر فيها حزبُه العاصمتين الاقتصادية والإدارية لتركيا، وهما: إسطنبول وأنقرة.

 

أما في "خصوص السبب"، فقد اعتقد أردوغان أن تورطه في سورية لايزال ورقة رابحة في السجالات والمنافسات الانتخابية في الدَّاخل، ولذا كانكلامه على "الحلّ" بالمفاوضات أو بالميدان، والمقصود به أمران:

 

الأول، هو الكرد، وجاء الحديث عنهم في معرض التهديد والوعيد، إذ قال: «ألم نلقنهم درساً في الممرِّ الإرهابيّ، شمال سورية، بعفرين؟ بلى، لقد فعلنا، والآن، إذا لم يتم ضبط الوضع (من جانب الولايات المتحدة) في شرق الفرات، فإننا سنلقنهم (الكرد) الدرس اللازم، وقد استكملنا جميع استعداداتنا».(30 آذار/مارس الماضي).

الثاني،هو الإحالة إلى لقائه المقبل بالرئيس بوتين في موسكو(8 نيسان/أبريل الجاري)، والمفترض أن"يُثبِّتَ" فيه الرئيسان ما اتفق عليه الطرفان في الاجتماع السابع لمجموعة التخطيط الاستراتيجيّ المشتركة بين بلديهما، وما عبّر عنه وزيرا خارجيتيهما، الروسي سيرغي لافروف والتركي مولود جاويشأوغلو في مؤتمرهما الصحافيّ المشترك في التاسع والعشرين من شهر آذار/مارس الماضي، وبخاصّة ما يتعلق بتطبيق اتفاق سوتشي حول إدلب واللجنة الدستورية، ومواصلة الحوار والمداولةبين الطرفين حول الكرد وشرق الفرات.

 

يشعر أردوغانبأنّه يمتلك أوراقاً كثيرة في الحرب السوريّة، فقد حصل على تقدير من روسيا بأنه ملتزم باتفاق سوتشي بينه وبين بوتين في أيلول/سبتمبر الماضي؛ وسَيَّرَ دوريات في إدلب ومحيطها، ثم في تل رفعت (35 كم شمال حلب)، ومَكَّنَ الروسُلطائراته من أجل التحليق فوق بعض مناطق شمال سورية، وحصل على حقِّ وكالةٍ حصريٍّ تقريباً عن المعارضة في موضوع اللجنة الدستورية، وتَفَهُّمٍ روسيّ (وإلى حدّ ما إيراني) لمخاوفه حيال الإدارة الكردية في شرق الفرات؛ كما أن الولايات المتحدة واصلت التعبير عن تقديرها وتفهمها لهواجسه ومصالحه الأمنية في شرق الفرات. وكان ذلك كافياً من منظور أردوغان لأن يقطع بأنه بعد الانتخابات سوف "يحل حتماً" الملف السوري!

 

وقد ظنّأردوغانأنَّ تحقيق بعض المكاسب في الأزمّة السوريّة، يمكن أن يكون بديلاً من حلّ المشكلات المزمنة والمتزامنة في الداخل التركيّ، وفي قطاعات لا تحتمل التأجيل: الأزمات الاقتصادية، وتردي الوضع المعاشي، وزيادة التوترات الاجتماعية، وتصاعد الضغوط الأمنية، وقمع المعارضين، والتضييق على الإعلام، إلخ.لكن تطورات الأمور كانت مختلفة، أو أن التغيرات في مزاج الناخبين وفواعل السياسة في تركيا أخذت بالتغير، أو أن قدرته على ضبط مفاعليها بَدَتْ أقل، كما ظهر من نتائج الانتخابات المذكورة. ولابد أن وقعها كان ثقيلاً عليه، وسوف يسعر لتدارك الأمر قبل أن تزداد الأمور خطورة بالنسبة له.

 

وبناءً على خبرة السنوات الماضية، من المتوقع أن يتصرف أردوغانكما لو أنه فاز في الانتخابات:سوف يكونُأكثرَ عدائيّةً تجاه المعارضة، وسيعتمد على "الدّولة العميقة" أو "الموازية" التي نجح في إقامتها طوال سنواتحكمه المديدة.

 

ولاحقاً لـ"خصوص السبب"المذكورأعلاه، فلن يشهد الموقف التركيّ من الأزمة السورية تغيُّراً كبيراً، في وقت قريب على الأقل، إنما سوف يُظهر أردوغان التزاماً أكبر نسبياً بعملية أستانا التي تجمعه مع الرئيسين الإيرانيّ حسن روحاني والروسيّ فلاديمير بوتين، وكذلك بالنسبة إلى اتفاقسوتشي بينه وبين بوتين حول إدلب، مع بقاء رهانه على واشنطن، بوصفها قوَّةَ توازنٍ، وأملاً لا شفاء له منه!

  • فريق ماسة
  • 2019-04-07
  • 9086
  • من الأرشيف

أردوغان والانتخابات وسورية، في عموم اللفظ وخصوص السبب!

  أظهرت نتائجُ الانتخابات البلدية في تركيا (31 آذار/مارس 2019) أن السياسةأحياناً ما تأخذُ من حيثُ يظنُّ السياسيُّ أنّها تعطي، وقد تضربهُ من مأمنهِ، فيخسرُ من حيث يتوقّعُ الفوزَ.   وقد أساء أردوغانفهم الموقف الانتخابي والسياسي داخل تركيا، وبالَغَ في تقدير قوّته، وتعجّلَ في الإعلان عن الفوز، حتى قبل أن تجري الانتخابات، وحَتَمَ أو قَطَعَ فيما لا يمكن الحتمُ أو القطعُ فيه، وبخاصّةٍ في أمرين وهما: صندوق الاقتراع، والأزمة السورية بوصفها أحد أوراق السجال الانتخابي والسياسي داخل تركيا.   قال أدروغان قبل يومين من الانتخابات البلدية في تركيا، إنَّهُ بعد الانتخابات سوف "يحلُّ حتماً" الملفَ السوريّ "إمّا عن طريق المفاوضات إذا أمكن أو في الميدان". وقد تم تلقّي خطابه على "عموم اللفظ"، كما يقول الفقهاء، لكن أُغْفِلَ فيه–إلى حدٍّ ما– "خصوص السبب".   لم يكنكلامُأردوغان عن "الحلِّ" في سوريةنوعاً من الوعد الانتخابيّ لكسب أصوات الإسلامويين والقوميين المحافظين فحسب، إنّما كان نوعاًمن الإعلان المبكِّر أو المسبق عن الفوز في الانتخابات أيضاً، وكما هو معروف، فقد تعامل مع الحدثِ السوريّ منذ البداية بوصفه "شأناً داخليّاً"، وكان ذلك أحد أسباب فوزه في استحقاقات انتخابية ودستورية عديدة.   إذا أخذنا "عموم اللفظ"، أمكن القول: إنَّأردوغانأحال في تصريحاته إلى أمرين رئيسين: الأول، من حيث الزمن، أي: "ما بعد الانتخابات"، وكأنَّ الانتخابات حدٌّ فاصِلٌ بين ما كان قبلها وما سيأتي بعدها؛ والثاني، من حيث الموضوع، أي: "الحلّ" في سورية؛ وليس على المتابعين أن ينتظروا كثيراً جلاء الأمور–وهو ما حدث بعد يوم واحد– لكن لجهة الانتخابات التي خسر فيها حزبُه العاصمتين الاقتصادية والإدارية لتركيا، وهما: إسطنبول وأنقرة.   أما في "خصوص السبب"، فقد اعتقد أردوغان أن تورطه في سورية لايزال ورقة رابحة في السجالات والمنافسات الانتخابية في الدَّاخل، ولذا كانكلامه على "الحلّ" بالمفاوضات أو بالميدان، والمقصود به أمران:   الأول، هو الكرد، وجاء الحديث عنهم في معرض التهديد والوعيد، إذ قال: «ألم نلقنهم درساً في الممرِّ الإرهابيّ، شمال سورية، بعفرين؟ بلى، لقد فعلنا، والآن، إذا لم يتم ضبط الوضع (من جانب الولايات المتحدة) في شرق الفرات، فإننا سنلقنهم (الكرد) الدرس اللازم، وقد استكملنا جميع استعداداتنا».(30 آذار/مارس الماضي). الثاني،هو الإحالة إلى لقائه المقبل بالرئيس بوتين في موسكو(8 نيسان/أبريل الجاري)، والمفترض أن"يُثبِّتَ" فيه الرئيسان ما اتفق عليه الطرفان في الاجتماع السابع لمجموعة التخطيط الاستراتيجيّ المشتركة بين بلديهما، وما عبّر عنه وزيرا خارجيتيهما، الروسي سيرغي لافروف والتركي مولود جاويشأوغلو في مؤتمرهما الصحافيّ المشترك في التاسع والعشرين من شهر آذار/مارس الماضي، وبخاصّة ما يتعلق بتطبيق اتفاق سوتشي حول إدلب واللجنة الدستورية، ومواصلة الحوار والمداولةبين الطرفين حول الكرد وشرق الفرات.   يشعر أردوغانبأنّه يمتلك أوراقاً كثيرة في الحرب السوريّة، فقد حصل على تقدير من روسيا بأنه ملتزم باتفاق سوتشي بينه وبين بوتين في أيلول/سبتمبر الماضي؛ وسَيَّرَ دوريات في إدلب ومحيطها، ثم في تل رفعت (35 كم شمال حلب)، ومَكَّنَ الروسُلطائراته من أجل التحليق فوق بعض مناطق شمال سورية، وحصل على حقِّ وكالةٍ حصريٍّ تقريباً عن المعارضة في موضوع اللجنة الدستورية، وتَفَهُّمٍ روسيّ (وإلى حدّ ما إيراني) لمخاوفه حيال الإدارة الكردية في شرق الفرات؛ كما أن الولايات المتحدة واصلت التعبير عن تقديرها وتفهمها لهواجسه ومصالحه الأمنية في شرق الفرات. وكان ذلك كافياً من منظور أردوغان لأن يقطع بأنه بعد الانتخابات سوف "يحل حتماً" الملف السوري!   وقد ظنّأردوغانأنَّ تحقيق بعض المكاسب في الأزمّة السوريّة، يمكن أن يكون بديلاً من حلّ المشكلات المزمنة والمتزامنة في الداخل التركيّ، وفي قطاعات لا تحتمل التأجيل: الأزمات الاقتصادية، وتردي الوضع المعاشي، وزيادة التوترات الاجتماعية، وتصاعد الضغوط الأمنية، وقمع المعارضين، والتضييق على الإعلام، إلخ.لكن تطورات الأمور كانت مختلفة، أو أن التغيرات في مزاج الناخبين وفواعل السياسة في تركيا أخذت بالتغير، أو أن قدرته على ضبط مفاعليها بَدَتْ أقل، كما ظهر من نتائج الانتخابات المذكورة. ولابد أن وقعها كان ثقيلاً عليه، وسوف يسعر لتدارك الأمر قبل أن تزداد الأمور خطورة بالنسبة له.   وبناءً على خبرة السنوات الماضية، من المتوقع أن يتصرف أردوغانكما لو أنه فاز في الانتخابات:سوف يكونُأكثرَ عدائيّةً تجاه المعارضة، وسيعتمد على "الدّولة العميقة" أو "الموازية" التي نجح في إقامتها طوال سنواتحكمه المديدة.   ولاحقاً لـ"خصوص السبب"المذكورأعلاه، فلن يشهد الموقف التركيّ من الأزمة السورية تغيُّراً كبيراً، في وقت قريب على الأقل، إنما سوف يُظهر أردوغان التزاماً أكبر نسبياً بعملية أستانا التي تجمعه مع الرئيسين الإيرانيّ حسن روحاني والروسيّ فلاديمير بوتين، وكذلك بالنسبة إلى اتفاقسوتشي بينه وبين بوتين حول إدلب، مع بقاء رهانه على واشنطن، بوصفها قوَّةَ توازنٍ، وأملاً لا شفاء له منه!

المصدر : مداد/ عقيل سعيد محفوض


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة