أسوأ الاقدار هي التي تجعل مكان ولادتك هو مكان موتك .. وأسوأ الاقدار هي التي تجعل موعد ميلادك موعدا لمماتك .. وهذه هي أقدار اردوغان يولد ويموت في نفس المكان .. يبدأ في ذات المكان وتكون خاتمته في ذات المكان .. اردوغان ولد كاردوغان الأمة والخلافة العثمانية في سورية تحديدا .. ولاأشك أبدا ان قدره تحدد وانتهى كأسطورة في سورية .. واذا اردنا ان نفسر تقهقر اردوغان فعلينا ان نفهم سر صعوده .. وسر الصعود هو نفسه سر الهبوط ..

 

كان وجه اردوغان منذ سنوات مفعما بالحيوية والنشاط وكان يشبه بورتريه ملونة لوجه شخص يحمل ابعادا أما اليوم فانه وبالرغم من صعود نجم اردوغان في السنوات الاخيرة فان الألوان التي رسمت ملامحه تجعله يبدو مثل لوحة قديمة متروكة تحت الشمس والعوامل الجوية حتى تزول الالوان وتتحول الى طيف باهت من البقايا اللونية الحائرة الرمادية .. لايزال سر صعود الردوغان غامضا وتوقيته غامضا فهو وصل مع مرحلة انهيار القومية العربية وانحسارها بسقوط حزب البعث في العراق الذي كرس الحقبة الخليجية النفطية كمحرك للسياسة في المنطقة وجعل التأثير القومي العربي في اوهن حالاته لأن سورية عربية من غير مصر عربية وعراق عربي لاتقدر وحدها على حمل المشروع العربي القومي .. اذ ترك الاميريكون المجال للتيار الاسلامي العراقي الشيعي المنتصر والسني المتقهقر وللتفاعل العنيف بينهما ليتقدم المشهد .. وهنا كان وصول اردوغان في تركيا ايذانا ببدء مشروع اسلامي نقيض للمرحلة العربية ليحل محل التيارات القديمة التي امسكت سورية والعراق ومصر طوال عقود وآن لها ان ترحل الى المتاحف .. وكان في صعود الاسلاميين في العراق تحضير لوصول دور اردوغان الى المنطقة ..

 

مما لفت النظر ان اردوغان كان يمكن ان ينجح في تركيا وان يبقى في حدود تركيا والا يخرج منها .. لكنه اختير له ان يدخل من البوابة الرئيسية للمنطقة وهي بوابة الصراع العربي الصهيوني .. وهذه البوابة لايمكن الوصول اليها الا عبر منصة سورية الامامية المتقدمة لأن سورية هي التي تمسك بكل مفاتيح الصراع مع اسرائيل طالما انها ترفض السلام معها وطالما انها تأوي اهم العناصر والفصائل الفلسطينية العسكرية الرافضة لاوسلو خاصة الجهادية منها وخاصة حماس .. وطالما انها اثبتت انها نحجت في اصرارها على الرفض وتمكنت من انجاز نصر عبر حزب الله عام 2006 على غير التوقعات .. وفوق هذا تأكد ان الدور السوري في العراق المحتل كان اساسيا في لجم المشروع الامريكي .. ومن كل هذا كان لابد من الحصول على صك البراءة من دمشق وان يتم تعميده في مياه دمشق المقدسة كما كل الذين كانوا يتعمدون في دمشق ثم ينطلقون ..

 

وارتفع رصيد الرجل في تركيا والمنطقة العربية وهم يرونه فاتحا في دمشق قلب الشرق العربي .. الأحضان تنفتح له والاسواق والمساجد .. الاعلام السوري والمسلسلات التركية المدبلجة في سورية كل ذلك أدخل تركيا الى كل بيت في عملية تطبيع تاريخي مع العدو العثماني الذي صفحنا عنه ونسينا منه الاساءات واقفلنا دفاتر الماضي وقررنا ان نسامحه ونبدأ من جديد كشركاء وجيران وحلفاء جدد ضد العدو الجديد الاسرائيلي والغربي .. بل واعطي اردوغان في سورية دورا لايعطى الا للأصدقاء وأهل البيت فهو الوسيط المعتمد للمفاوضات بين سورية واسرائيل .. ولانقبل الا مايقول وليس ماتقوله الامم المتحدة .. كل هذا جعل اردوغان شخصية سياسية محترمة ولها وزنها في الاقليم وفي تركيا وهذا ماجعله بلا منازع زعيم تركيا الذي انتظرته طويلا لأنه دخل في قلب الشرق الاوسط وقلب العروبة الذي كان محرما على اي تركي ان يدخله منذ ان خرج الاتراك مذمومين مدحورين في بداية القرن العشرين ..

 

انبهار الاتراك والاسلاميين بالمشروع العثماني تعاظم وهم يرون ان القطار العثماني انطلق ووصل الى محطة تونس ومصر ولبيبا وهو في طريقه الى محطة سورية التي سيكون احتفال النصر في جامعها الاموي .. وهذه هي الفترة الذهبية لاردوغان وحقق فيها أقصى مايمكن ان يحققه زعيم تركي من شعبية في تركيا والعالم العربي ..

ولكن انحدار اردوغان بدأ في عام 2015 منذ ان سقطت الطائرة الروسية .. ورغم ان هذا الحدث الهب مشاعر المعجبين والمنتظرين للخلافة الا انه خبا وانطفأ مع تراجعه السريع واعتذاره المهين لروسيا التي تعهد فيها انه لن يكرر الخطيئة .. ولكن كانت الضربة القاصمة له في معركة حلب عام 2016 وتراجع داعش في وسط سورية التي سحقها الجيش السوري وحلفاؤه .. وهناك بدأت خسائر اردوغان وبدأ التمثال يتهدم لأن خسارة حلب آلمت أنصاره وهم الذين اعتقدوا ان الرجل القوي سيخوض معركة حياة او موت ولن يترك حلب لمصيرها فهو وعد وتعهد وغضب ولابد انه سيفعل شيئا .. ولكن اردوغان ترك الثوار يخرجون بالباصات الخضراء ولم يجرؤ على التقدم خطوة واحدة لمنع الهزيمة .. وخيب الرجل الآمال وتجلت المشاعر الغاضبة في عملية اغتيال السفير الروسي في تركيا امام الكاميرات والصراخ ان ذلك من اجل حلب .. ورغم ان البعض رأى في ذلك تصاعد الغضب ضد روسيا لكنه ايضا نظر اليه على انه خيبة امل وتنفيس للمشاعر في تركيا لدى الجمهور العثماني ..

 

وفجأة وجد الاتراك انهم خرجوا من سورية والعراق وانقطع تواصلهم مع الجنوب وان الفتوحات التي اعطيت لهم نحو الجنوب العربي والذي انعشت الاقتصاد التركي وخاصة في المناطق الفقيرة الجنوبية والشرقية لتركيا والتي وسعت القاعدة الاردوغانية السياسية .. كل هذا توقف فجأة .. وعلى العكس امتلأ الجنوب بالمهاجرين السوريين الذين استجلبهم اردوغان للمتاجرة بهم ولكن تطاول الحرب السورية جعلهم يتحولون الى كتلة ديموغرافية غريبة مزعجة للأتراك وتؤثر في النشاط السكاني والاقتصادي ..

 

في الجنوب بدأ الأسد ينتصر .. وبدأت تركيا تخسر كل ماكسبته .. وتحولت سورية من بلد أصعد اردوغان ورفعه الى بلد تسبب في تدهور منزلة اردوغان .. فهناك ادراك ان تركيا دخلت مرحلة الصراع مع الذات لأنها عندما تفشل في التقدم نحو الامام في مشروع العثمانية فانها امام خيار العودة الى العلمانية الاتاتوركية .. لكن عملية التراجع نحو العلمانية لن تكون سهلة .. فلم تعد تركيا علمانية ولم تقدر ان تكون اسلامية حيث ان شرط نجاحها الاسلامي مرهون بالنجاح في تصدير اسلاميتها العثمانية خارج حدودها .. وميناء التصدير الرئيسي كان من المفترض ان يكون سورية .. وليس العامل الاقتصادي كسبب للتراجع الا ذريعة صغيرة رغم اهميتها في تفسير الانحسار الاردوغاني .. لكن العامل الخفي هو ادراك الاتراك ان الحرب في سورية انتهت .. وان بدائل اردوغان وخياراته للتعويض صارت محدودة جدا .. فلاهو قادر على التمدد نحو الاتحاد الاوروبي ولاهو قادر على التمدد جنوبا .. ويشبه اردوغان في عيون الاتراك والنخب السلجوقية القومية قائدا مهزوما رغم كل ماحققه .. فسورية خرجت عن السيطرة وتلاها كل الاقليم .. وسيصير الرجل هو المشكلة لردم العلاقة المحطمة مع الاقليم ..

 

الا ان سر الاسرار الذي لابد سيكشف يوما هو ان المرحلة الاردوغانية التركية لم يعد لها لزوم في الغرب .. فهو رجل مرحلة ضرورية لحروب الجيل الرابع في الشرق ومرحلة الرهان على الاسلاميين الجهاديين وتم التحضير لها مع بزوغ مشروع المحافظين الجدد الذين ارادوا نشر الكيانات الدينية في المنطقة لمواجهة بعضها وتدميرها بالتصادم .. فقد كان من المستحيل اطلاق المشروع الجهادي نحو سورية والعراق من دون تركيا العثمانية .. فالسعودية ورغم مكانتها الاسلامية لاتوازي القيمة المعنوية للخلافة التي دامت 400 سنة ولايزال دمها طريا على تراب الشرق عندما تم طعنها .. وكان من الصعب على تركيا القديمة الاتاتوركية ان تتناقض مع جمهوريتها ووصية اتاتورك (ابو الاتراك) وتسمح بمصالحة مع التاريخ وتترك الاسلاميين يدخلونها دون ان تخشى على نسيجها العلماني من التأثر بتلك الرحلة الجهادية عبر قلبها والانتشار الفيروسي في دورتها الدموية .. ولذلك تمت تنحية العسكر جانبا او طلب من الجيش ان يغض النظر عن مرحلة اردوغان .. فصمت الجيش الذي كان قبل ذلك يشم رائحة الاسلاميين على بعد أميال ويعتقلهم او يعزلهم ..

 

وعندما انتهى الدور ونضجت مرحلة جديدة لادور فيها للاسلاميين بدات الأصابع الغربية تتلاعب وهي التي رفعت البورصة التركية والليرة التركية لرفع اردوغان وهاهي تحطمها وتسحب أموالها اليوم حتى صارت الليرة التركية تهتز وترتجف وتتراجع مثلما يتراجع مكان حزب العدالة والتنمية في انتخابات تركيا .. كجسد عار امام كل نسمة مالية .. الليرة التركية هي التي صنعها حزب العدالة والتنيمية بدعم غربي .. واليوم هي ذات الليرة تعكس حال الحزب .. وكأنها ترمومتر السياسة التركية ..

 

كنت اقول على الدوام ان الشرق لايتحمل وجود رجلين منتصرين في نفس الوقت في الاقليم .. الأسد واردوغان .. ووجود احدهما يعني استحالة استمرار الاخر كما هو وجود اسرائيل وفلسطين .. يستحيل ان توجد منطقة وسطى بينهما .. اما فلسطين واما اسرائيل .. والمؤشرات تقول ان الأسد هو رجل المرحلة الشرق الاوسطية لأن عملية اقتلاعه فشلت بل على العكس انتصر الرجل في التحدي .. ولذلك سيتم التعامل الامريكي مع المرحلة الجديدة بطاقم عمل سياسي جديد في الاقليم يستدعي بعض التغييرات .. وتركيا مكان مهم للتغيير بطريقة او بأخرى ..

 

اردوغان لم يسقط طبعا لكنه يذوب تدريجيا .. كرجل من ملح .. يسقط عليه المطر .. فالرجل ذاب في انقرة واستانبول .. وصورته الملونة بالالوان المائية سقط عليها المطر وبالكاد ترك فيها ملامح .. وحزب العدالة والتنمية يذوب بالتدريج .. والدور التركي سيتم تغيير مساره ليلعب في الشرق وفق أجندة جديدة لن تجعله صديقا للجنوب العربي ..

 

ولايمكن ان يرحل اردوغان بعد اليوم الا بمجزرة كبرى في تركيا .. لأن الاسلاميين يعتقدون انها معركة حياة او موت .. ولايزال طعم الحرمان والقمع الذي عاشوه ايام العسكر تحت أضراسهم ولايمكن ان يتخلوا عن السلطة بعد اليوم لان ذلك مرتبط بذكريات قاسية لاتريد ذاكرتهم استرجاعها او المغامرة باعادة تكرارها وقد رأينا نموذجا لهم عندما حدث الانقلاب العسكري .. وهؤلاء لم يكن الانقلاب العسكري هو الذي اقلقهم بل الغياب والعودة الى مرحلة التقية السياسية .. ومع هذا يبقى مصير تركيا القادم بيد الناتو الذي ربما سيجد ان من الحصيف عدم تدمير تركيا بصراع داخلي كون الدور التركي في الناتو لايزال حيويا .. ولذك يمكن ان يتم الامر بطريقة سلسة .. وازاحة الستار عن قادم جديد .. القادم الجديد سيحدده دور تركيا الجديد في الاقليم وسورية ونوع المواجهة القادمة .. ويبدو فعلا ان مكان الميلاد هو نفسه مكان الموت عندما تكون اقدام الاقدار حمقاء وهوجاء وتهوى السخرية والاثارة .. ويمكن ان نقول في سورية اليوم: هنا ولد أردوغان وهنا سيموت … وغدا سيقول السوريون: اردوغان ولد هنا .. ومات هنا ..

  • فريق ماسة
  • 2019-04-02
  • 15789
  • من الأرشيف

أردوغان .. هنا ولد وهنا يموت .. أقدار الموت والولادة في سورية

أسوأ الاقدار هي التي تجعل مكان ولادتك هو مكان موتك .. وأسوأ الاقدار هي التي تجعل موعد ميلادك موعدا لمماتك .. وهذه هي أقدار اردوغان يولد ويموت في نفس المكان .. يبدأ في ذات المكان وتكون خاتمته في ذات المكان .. اردوغان ولد كاردوغان الأمة والخلافة العثمانية في سورية تحديدا .. ولاأشك أبدا ان قدره تحدد وانتهى كأسطورة في سورية .. واذا اردنا ان نفسر تقهقر اردوغان فعلينا ان نفهم سر صعوده .. وسر الصعود هو نفسه سر الهبوط ..   كان وجه اردوغان منذ سنوات مفعما بالحيوية والنشاط وكان يشبه بورتريه ملونة لوجه شخص يحمل ابعادا أما اليوم فانه وبالرغم من صعود نجم اردوغان في السنوات الاخيرة فان الألوان التي رسمت ملامحه تجعله يبدو مثل لوحة قديمة متروكة تحت الشمس والعوامل الجوية حتى تزول الالوان وتتحول الى طيف باهت من البقايا اللونية الحائرة الرمادية .. لايزال سر صعود الردوغان غامضا وتوقيته غامضا فهو وصل مع مرحلة انهيار القومية العربية وانحسارها بسقوط حزب البعث في العراق الذي كرس الحقبة الخليجية النفطية كمحرك للسياسة في المنطقة وجعل التأثير القومي العربي في اوهن حالاته لأن سورية عربية من غير مصر عربية وعراق عربي لاتقدر وحدها على حمل المشروع العربي القومي .. اذ ترك الاميريكون المجال للتيار الاسلامي العراقي الشيعي المنتصر والسني المتقهقر وللتفاعل العنيف بينهما ليتقدم المشهد .. وهنا كان وصول اردوغان في تركيا ايذانا ببدء مشروع اسلامي نقيض للمرحلة العربية ليحل محل التيارات القديمة التي امسكت سورية والعراق ومصر طوال عقود وآن لها ان ترحل الى المتاحف .. وكان في صعود الاسلاميين في العراق تحضير لوصول دور اردوغان الى المنطقة ..   مما لفت النظر ان اردوغان كان يمكن ان ينجح في تركيا وان يبقى في حدود تركيا والا يخرج منها .. لكنه اختير له ان يدخل من البوابة الرئيسية للمنطقة وهي بوابة الصراع العربي الصهيوني .. وهذه البوابة لايمكن الوصول اليها الا عبر منصة سورية الامامية المتقدمة لأن سورية هي التي تمسك بكل مفاتيح الصراع مع اسرائيل طالما انها ترفض السلام معها وطالما انها تأوي اهم العناصر والفصائل الفلسطينية العسكرية الرافضة لاوسلو خاصة الجهادية منها وخاصة حماس .. وطالما انها اثبتت انها نحجت في اصرارها على الرفض وتمكنت من انجاز نصر عبر حزب الله عام 2006 على غير التوقعات .. وفوق هذا تأكد ان الدور السوري في العراق المحتل كان اساسيا في لجم المشروع الامريكي .. ومن كل هذا كان لابد من الحصول على صك البراءة من دمشق وان يتم تعميده في مياه دمشق المقدسة كما كل الذين كانوا يتعمدون في دمشق ثم ينطلقون ..   وارتفع رصيد الرجل في تركيا والمنطقة العربية وهم يرونه فاتحا في دمشق قلب الشرق العربي .. الأحضان تنفتح له والاسواق والمساجد .. الاعلام السوري والمسلسلات التركية المدبلجة في سورية كل ذلك أدخل تركيا الى كل بيت في عملية تطبيع تاريخي مع العدو العثماني الذي صفحنا عنه ونسينا منه الاساءات واقفلنا دفاتر الماضي وقررنا ان نسامحه ونبدأ من جديد كشركاء وجيران وحلفاء جدد ضد العدو الجديد الاسرائيلي والغربي .. بل واعطي اردوغان في سورية دورا لايعطى الا للأصدقاء وأهل البيت فهو الوسيط المعتمد للمفاوضات بين سورية واسرائيل .. ولانقبل الا مايقول وليس ماتقوله الامم المتحدة .. كل هذا جعل اردوغان شخصية سياسية محترمة ولها وزنها في الاقليم وفي تركيا وهذا ماجعله بلا منازع زعيم تركيا الذي انتظرته طويلا لأنه دخل في قلب الشرق الاوسط وقلب العروبة الذي كان محرما على اي تركي ان يدخله منذ ان خرج الاتراك مذمومين مدحورين في بداية القرن العشرين ..   انبهار الاتراك والاسلاميين بالمشروع العثماني تعاظم وهم يرون ان القطار العثماني انطلق ووصل الى محطة تونس ومصر ولبيبا وهو في طريقه الى محطة سورية التي سيكون احتفال النصر في جامعها الاموي .. وهذه هي الفترة الذهبية لاردوغان وحقق فيها أقصى مايمكن ان يحققه زعيم تركي من شعبية في تركيا والعالم العربي .. ولكن انحدار اردوغان بدأ في عام 2015 منذ ان سقطت الطائرة الروسية .. ورغم ان هذا الحدث الهب مشاعر المعجبين والمنتظرين للخلافة الا انه خبا وانطفأ مع تراجعه السريع واعتذاره المهين لروسيا التي تعهد فيها انه لن يكرر الخطيئة .. ولكن كانت الضربة القاصمة له في معركة حلب عام 2016 وتراجع داعش في وسط سورية التي سحقها الجيش السوري وحلفاؤه .. وهناك بدأت خسائر اردوغان وبدأ التمثال يتهدم لأن خسارة حلب آلمت أنصاره وهم الذين اعتقدوا ان الرجل القوي سيخوض معركة حياة او موت ولن يترك حلب لمصيرها فهو وعد وتعهد وغضب ولابد انه سيفعل شيئا .. ولكن اردوغان ترك الثوار يخرجون بالباصات الخضراء ولم يجرؤ على التقدم خطوة واحدة لمنع الهزيمة .. وخيب الرجل الآمال وتجلت المشاعر الغاضبة في عملية اغتيال السفير الروسي في تركيا امام الكاميرات والصراخ ان ذلك من اجل حلب .. ورغم ان البعض رأى في ذلك تصاعد الغضب ضد روسيا لكنه ايضا نظر اليه على انه خيبة امل وتنفيس للمشاعر في تركيا لدى الجمهور العثماني ..   وفجأة وجد الاتراك انهم خرجوا من سورية والعراق وانقطع تواصلهم مع الجنوب وان الفتوحات التي اعطيت لهم نحو الجنوب العربي والذي انعشت الاقتصاد التركي وخاصة في المناطق الفقيرة الجنوبية والشرقية لتركيا والتي وسعت القاعدة الاردوغانية السياسية .. كل هذا توقف فجأة .. وعلى العكس امتلأ الجنوب بالمهاجرين السوريين الذين استجلبهم اردوغان للمتاجرة بهم ولكن تطاول الحرب السورية جعلهم يتحولون الى كتلة ديموغرافية غريبة مزعجة للأتراك وتؤثر في النشاط السكاني والاقتصادي ..   في الجنوب بدأ الأسد ينتصر .. وبدأت تركيا تخسر كل ماكسبته .. وتحولت سورية من بلد أصعد اردوغان ورفعه الى بلد تسبب في تدهور منزلة اردوغان .. فهناك ادراك ان تركيا دخلت مرحلة الصراع مع الذات لأنها عندما تفشل في التقدم نحو الامام في مشروع العثمانية فانها امام خيار العودة الى العلمانية الاتاتوركية .. لكن عملية التراجع نحو العلمانية لن تكون سهلة .. فلم تعد تركيا علمانية ولم تقدر ان تكون اسلامية حيث ان شرط نجاحها الاسلامي مرهون بالنجاح في تصدير اسلاميتها العثمانية خارج حدودها .. وميناء التصدير الرئيسي كان من المفترض ان يكون سورية .. وليس العامل الاقتصادي كسبب للتراجع الا ذريعة صغيرة رغم اهميتها في تفسير الانحسار الاردوغاني .. لكن العامل الخفي هو ادراك الاتراك ان الحرب في سورية انتهت .. وان بدائل اردوغان وخياراته للتعويض صارت محدودة جدا .. فلاهو قادر على التمدد نحو الاتحاد الاوروبي ولاهو قادر على التمدد جنوبا .. ويشبه اردوغان في عيون الاتراك والنخب السلجوقية القومية قائدا مهزوما رغم كل ماحققه .. فسورية خرجت عن السيطرة وتلاها كل الاقليم .. وسيصير الرجل هو المشكلة لردم العلاقة المحطمة مع الاقليم ..   الا ان سر الاسرار الذي لابد سيكشف يوما هو ان المرحلة الاردوغانية التركية لم يعد لها لزوم في الغرب .. فهو رجل مرحلة ضرورية لحروب الجيل الرابع في الشرق ومرحلة الرهان على الاسلاميين الجهاديين وتم التحضير لها مع بزوغ مشروع المحافظين الجدد الذين ارادوا نشر الكيانات الدينية في المنطقة لمواجهة بعضها وتدميرها بالتصادم .. فقد كان من المستحيل اطلاق المشروع الجهادي نحو سورية والعراق من دون تركيا العثمانية .. فالسعودية ورغم مكانتها الاسلامية لاتوازي القيمة المعنوية للخلافة التي دامت 400 سنة ولايزال دمها طريا على تراب الشرق عندما تم طعنها .. وكان من الصعب على تركيا القديمة الاتاتوركية ان تتناقض مع جمهوريتها ووصية اتاتورك (ابو الاتراك) وتسمح بمصالحة مع التاريخ وتترك الاسلاميين يدخلونها دون ان تخشى على نسيجها العلماني من التأثر بتلك الرحلة الجهادية عبر قلبها والانتشار الفيروسي في دورتها الدموية .. ولذلك تمت تنحية العسكر جانبا او طلب من الجيش ان يغض النظر عن مرحلة اردوغان .. فصمت الجيش الذي كان قبل ذلك يشم رائحة الاسلاميين على بعد أميال ويعتقلهم او يعزلهم ..   وعندما انتهى الدور ونضجت مرحلة جديدة لادور فيها للاسلاميين بدات الأصابع الغربية تتلاعب وهي التي رفعت البورصة التركية والليرة التركية لرفع اردوغان وهاهي تحطمها وتسحب أموالها اليوم حتى صارت الليرة التركية تهتز وترتجف وتتراجع مثلما يتراجع مكان حزب العدالة والتنمية في انتخابات تركيا .. كجسد عار امام كل نسمة مالية .. الليرة التركية هي التي صنعها حزب العدالة والتنيمية بدعم غربي .. واليوم هي ذات الليرة تعكس حال الحزب .. وكأنها ترمومتر السياسة التركية ..   كنت اقول على الدوام ان الشرق لايتحمل وجود رجلين منتصرين في نفس الوقت في الاقليم .. الأسد واردوغان .. ووجود احدهما يعني استحالة استمرار الاخر كما هو وجود اسرائيل وفلسطين .. يستحيل ان توجد منطقة وسطى بينهما .. اما فلسطين واما اسرائيل .. والمؤشرات تقول ان الأسد هو رجل المرحلة الشرق الاوسطية لأن عملية اقتلاعه فشلت بل على العكس انتصر الرجل في التحدي .. ولذلك سيتم التعامل الامريكي مع المرحلة الجديدة بطاقم عمل سياسي جديد في الاقليم يستدعي بعض التغييرات .. وتركيا مكان مهم للتغيير بطريقة او بأخرى ..   اردوغان لم يسقط طبعا لكنه يذوب تدريجيا .. كرجل من ملح .. يسقط عليه المطر .. فالرجل ذاب في انقرة واستانبول .. وصورته الملونة بالالوان المائية سقط عليها المطر وبالكاد ترك فيها ملامح .. وحزب العدالة والتنمية يذوب بالتدريج .. والدور التركي سيتم تغيير مساره ليلعب في الشرق وفق أجندة جديدة لن تجعله صديقا للجنوب العربي ..   ولايمكن ان يرحل اردوغان بعد اليوم الا بمجزرة كبرى في تركيا .. لأن الاسلاميين يعتقدون انها معركة حياة او موت .. ولايزال طعم الحرمان والقمع الذي عاشوه ايام العسكر تحت أضراسهم ولايمكن ان يتخلوا عن السلطة بعد اليوم لان ذلك مرتبط بذكريات قاسية لاتريد ذاكرتهم استرجاعها او المغامرة باعادة تكرارها وقد رأينا نموذجا لهم عندما حدث الانقلاب العسكري .. وهؤلاء لم يكن الانقلاب العسكري هو الذي اقلقهم بل الغياب والعودة الى مرحلة التقية السياسية .. ومع هذا يبقى مصير تركيا القادم بيد الناتو الذي ربما سيجد ان من الحصيف عدم تدمير تركيا بصراع داخلي كون الدور التركي في الناتو لايزال حيويا .. ولذك يمكن ان يتم الامر بطريقة سلسة .. وازاحة الستار عن قادم جديد .. القادم الجديد سيحدده دور تركيا الجديد في الاقليم وسورية ونوع المواجهة القادمة .. ويبدو فعلا ان مكان الميلاد هو نفسه مكان الموت عندما تكون اقدام الاقدار حمقاء وهوجاء وتهوى السخرية والاثارة .. ويمكن ان نقول في سورية اليوم: هنا ولد أردوغان وهنا سيموت … وغدا سيقول السوريون: اردوغان ولد هنا .. ومات هنا ..

المصدر : نارام سرجون


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة