موسكو تُدرِك أن الملف الكردي أصبح بيد واشنطن بالكامل. وجميع محاولاتها لاستعادته ليس المقصود منها أن تؤدّي إلى هذه النتيجة حالاً،

لا سيما بعد تمديد المُساعدات الأميركية لـ"قسد" لمدة عامين إضافيين. لكن موسكو بحسّها التاريخي لا تريد أن تصل إلى درجة القطيعة. بل تفضّل أن تترك للتاريخ فرصة استئناف العلاقات مع الكرد السوريين إن لم يكن في هذه المرحلة فليكن في مراحل لاحِقة ولو بعد عقود، وحتى ذلك الحين ستستمر كعادتها في سياسة "التوازن الحَرِج".

مرّت علاقة روسيا بالمسألة الكردية في الشرق الأوسط بمراحل عديدة ممتدة في التاريخ منذ العهد القيصري. بدءاً من الاحتضان الروسي للطموح الكردي وما رافقه من عُمق التنسيق بين الطرفين. مروراً في مرحلة الشيوعية بمرارة الخيبات التي نتجت عن إجهاض المشاريع المُشتركة. ثم وصولاً إلى ذروة التعقيد الذي توّج هذه العلاقة على خلفيّة الأزمة السورية نتيجة طبيعة التحالفات القائمة ونوعية التوازنات الدقيقة التي جعلت الورقة الكردية تتراوح بين حدّين، إما إثارة شهيّة الأطراف لاجتذابها من أجل فرض وقائع سياسية مُعيّنة، وإما اتّخاذها ذريعة لتسعير نار الحرب.

وروسيا صاحبة الباع الطويل في التعامُل مع المسألة الكردية وتشعّباتها وكواليسها، تستشعر هذه التعقيدات وخطورة تداعياتها على الساحتين الاقليمية والدولية، لكنها لا تستسلم للضغوط المُترتّبة عليها بل تستمر في تشكيل استراتيجيتها إزاء المسألة الكردية في سوريا بصبرٍ وبرودةِ أعصاب، محاولة البناء على دروس وعِبَر التاريخ من دون أن تتجاهل ضرورات المُستقبل.

قد تكون كردستان الحمراء في أذربيجان في عشرينات القرن الماضي وجمهورية مهاباد في إيران في أربعيناته، أبرز مثالين على تاريخية العلاقة بين روسيا والمسألة الكردية. لكن التفصيل الأهم هو أن هذه العلاقة لم تقتصر على جناحٍ كردي من دون آخر بل شملت الجميع "البارازانيين" و"الأوجلانيين".

وربما لا تحتاج علاقة روسيا مع البارازانيين إلى دليلٍ لإثباتها إذ أن صلاتها الوطيدة مع إقليم كردستان العراق تتحدّث عن نفسها بنفسها. غير أن علاقاتها مع الجناح الأوجلاني أو "حزب العمّال الكردستاني" لم تتّسم بذات الطابع العَلني، بل بقيت بعيدة نوعاً ما عن الأضواء. رغم أن بعض المعلومات تحدّثت عن دور للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إدارة ملف حزب العمّال الكردستاني عندما كان ضابطاً برتبة عقيد في الاستخبارات الروسية إبان الحرب الباردة.

لكنّ روسيا رغم مخزونها الثريّ من التجارب والخبرات، وأرشيفها الواسع من المعلومات، يبدو أنها أساءت تقدير اللحظة المناسبة التي ينبغي فيها تفعيل أوراق قوّتها في الملف الكردي على الساحة السورية، قبل أن تسبقها إلى ذلك الولايات المتحدة الأميركية التي استغلّت معركة عين العرب عام 2014 لتبني تحالفاً قوياً مع حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية "وحدات الحماية"، مُستقطبة بذلك إحدى الأدوات الهامّة التي كان بإمكان روسيا الاعتماد عليها لتسهيل مهمّتها العسكرية والسياسية في سوريا. وأصبح جلُّ همّ موسكو منذ ذلك الحين هو محاولة العمل على استعادة الورقة الكردية التي خسرتها.

وفي سبيل ذلك افتتحت روسيا أول ممثّلية خارجية للإدارة الذاتية الكردية في عاصمتها موسكو (وإن كانت لم تضف عليها أيّ طابع دبلوماسي)، كما دافعت عَلناً عن حق الكرد في المشاركة في العملية السياسية في جنيف وسوتشي، بل قد تكون ذهبت بعيداً في بداية الأمر عندما اقترحت دستوراً مبنياً على مبدأ الفيدرالية. كذلك فإن موسكو استضافت سيبان حمو القائد العام لوحدات الحماية عدّة مرات بهدف التنسيق في بعض المواضيع.

وحتى نهاية العام 2017 كانت الأجواء ما تزال تشير إلى إمكان حدوث اختراق استراتيجي في العلاقة بين موسكو وقوات "قسد" بما يمكن أن يترك تأثيراته على مُجمل ملف شرق الفرات، وبالتالي على الدور الأميركي في سوريا. وقد تجلّى ذلك من خلال الاجتماع الذي عُقِدَ في الخامس من كانون الأول عام 2017 بين نائب قائد قاعدة حميميم وبعض الضبّاط الكرد في ريف ديرالزور، وأفضى إلى الاتفاق على تشكيل غرفة عمليات مشتركة. لكن سُرعان ما تمكّنت واشنطن من قلب الطاولة على الاتفاق، لتأتي بعد ذلك أحداث معركة عفرين لتشكّل أول شَرْخ حقيقي بين موسكو و"قسد" لا سيما بعد أن صدر الاتّهام لروسيا بخيانة الكرد من سيبان حمو الذي كان سابقاً من أرفع قنوات التنسيق بين الطرفين.

وقد يكون المُتغيّر الحقيقي الذي جعل موسكو تفقد سيطرتها على الملف الكردي، هو التغيير الذي طرأ على علاقتها مع تركيا. إذ كانت روسيا وتركيا في السابق عدوّتين مُتخاصمتين وهو ما أتاح لروسيا تاريخياً حرية أكبر في التعاطي مع الكرد كورقةٍ من أوراق الضغط على خصومها في المنطقة وعلى رأسهم أنقرة. لكن تحسّن العلاقة بين الدولتين خلال العامين المُنصرمين قد يكون لعب دوراً كبيراً في توجّس الكرد من الدور الروسي وعدم ثقتهم بتوجّهاته حيالهم. ومهما يكن الأمر، يبدو أن العلاقة المُتوتّرة بين واشنطن وأنقرة رغم تحالفهما التاريخي، جعلت قادة الكرد يشعرون بارتياحٍ أكبر في التعامل مع واشنطن وفق حسابات تستبعد عودة علاقتها مع أنقرة إلى سابق عهدها، بينما تشير جميع المُعطيات السياسية والاقتصادية إلى أن علاقة روسيا مع تركيا مستمرّة لوقتٍ طويلٍ نسبياً.

وقد يكون التصويب الروسي مؤخّراً على شرق الفرات ودور "قسد" في تهديد وحدة الأراضي السورية، أحد المؤشّرات على قيام موسكو بإعادة قراءة موقفها من موضوع الفيدرالية وربما من المسألة الكردية بمُجملها. لكن روسيا تحاول من خلال بعض التصريحات، التمسّك بشعرة معاوية التي ما تزال تربطها مع قوات "قسد" وذلك من خلال استمرار مُطالبتها بأن يكون لهذه القوات دور في العملية السياسية، وإن برّرت ذلك بأنه قد يجنّب من ميولها الانفصالية.

 

موسكو تُدرِك أن الملف الكردي أصبح بيد واشنطن بالكامل. وجميع محاولاتها لاستعادته ليس المقصود منها أن تؤدّي إلى هذه النتيجة حالاً، لا سيما بعد تمديد المُساعدات الأميركية لـ"قسد" لمدة عامين إضافيين. لكن موسكو بحسّها التاريخي لا تريد أن تصل إلى درجة القطيعة. بل تفضّل أن تترك للتاريخ فرصة استئناف العلاقات مع الكرد السوريين إن لم يكن في هذه المرحلة فليكن في مراحل لاحِقة ولو بعد عقود، وحتى ذلك الحين ستستمر كعادتها في سياسة "التوازن الحَرِج".

  • فريق ماسة
  • 2018-11-28
  • 16533
  • من الأرشيف

روسيا و(قسد): ما جمعه التاريخ تُفرّقه المصالح

موسكو تُدرِك أن الملف الكردي أصبح بيد واشنطن بالكامل. وجميع محاولاتها لاستعادته ليس المقصود منها أن تؤدّي إلى هذه النتيجة حالاً، لا سيما بعد تمديد المُساعدات الأميركية لـ"قسد" لمدة عامين إضافيين. لكن موسكو بحسّها التاريخي لا تريد أن تصل إلى درجة القطيعة. بل تفضّل أن تترك للتاريخ فرصة استئناف العلاقات مع الكرد السوريين إن لم يكن في هذه المرحلة فليكن في مراحل لاحِقة ولو بعد عقود، وحتى ذلك الحين ستستمر كعادتها في سياسة "التوازن الحَرِج". مرّت علاقة روسيا بالمسألة الكردية في الشرق الأوسط بمراحل عديدة ممتدة في التاريخ منذ العهد القيصري. بدءاً من الاحتضان الروسي للطموح الكردي وما رافقه من عُمق التنسيق بين الطرفين. مروراً في مرحلة الشيوعية بمرارة الخيبات التي نتجت عن إجهاض المشاريع المُشتركة. ثم وصولاً إلى ذروة التعقيد الذي توّج هذه العلاقة على خلفيّة الأزمة السورية نتيجة طبيعة التحالفات القائمة ونوعية التوازنات الدقيقة التي جعلت الورقة الكردية تتراوح بين حدّين، إما إثارة شهيّة الأطراف لاجتذابها من أجل فرض وقائع سياسية مُعيّنة، وإما اتّخاذها ذريعة لتسعير نار الحرب. وروسيا صاحبة الباع الطويل في التعامُل مع المسألة الكردية وتشعّباتها وكواليسها، تستشعر هذه التعقيدات وخطورة تداعياتها على الساحتين الاقليمية والدولية، لكنها لا تستسلم للضغوط المُترتّبة عليها بل تستمر في تشكيل استراتيجيتها إزاء المسألة الكردية في سوريا بصبرٍ وبرودةِ أعصاب، محاولة البناء على دروس وعِبَر التاريخ من دون أن تتجاهل ضرورات المُستقبل. قد تكون كردستان الحمراء في أذربيجان في عشرينات القرن الماضي وجمهورية مهاباد في إيران في أربعيناته، أبرز مثالين على تاريخية العلاقة بين روسيا والمسألة الكردية. لكن التفصيل الأهم هو أن هذه العلاقة لم تقتصر على جناحٍ كردي من دون آخر بل شملت الجميع "البارازانيين" و"الأوجلانيين". وربما لا تحتاج علاقة روسيا مع البارازانيين إلى دليلٍ لإثباتها إذ أن صلاتها الوطيدة مع إقليم كردستان العراق تتحدّث عن نفسها بنفسها. غير أن علاقاتها مع الجناح الأوجلاني أو "حزب العمّال الكردستاني" لم تتّسم بذات الطابع العَلني، بل بقيت بعيدة نوعاً ما عن الأضواء. رغم أن بعض المعلومات تحدّثت عن دور للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إدارة ملف حزب العمّال الكردستاني عندما كان ضابطاً برتبة عقيد في الاستخبارات الروسية إبان الحرب الباردة. لكنّ روسيا رغم مخزونها الثريّ من التجارب والخبرات، وأرشيفها الواسع من المعلومات، يبدو أنها أساءت تقدير اللحظة المناسبة التي ينبغي فيها تفعيل أوراق قوّتها في الملف الكردي على الساحة السورية، قبل أن تسبقها إلى ذلك الولايات المتحدة الأميركية التي استغلّت معركة عين العرب عام 2014 لتبني تحالفاً قوياً مع حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية "وحدات الحماية"، مُستقطبة بذلك إحدى الأدوات الهامّة التي كان بإمكان روسيا الاعتماد عليها لتسهيل مهمّتها العسكرية والسياسية في سوريا. وأصبح جلُّ همّ موسكو منذ ذلك الحين هو محاولة العمل على استعادة الورقة الكردية التي خسرتها. وفي سبيل ذلك افتتحت روسيا أول ممثّلية خارجية للإدارة الذاتية الكردية في عاصمتها موسكو (وإن كانت لم تضف عليها أيّ طابع دبلوماسي)، كما دافعت عَلناً عن حق الكرد في المشاركة في العملية السياسية في جنيف وسوتشي، بل قد تكون ذهبت بعيداً في بداية الأمر عندما اقترحت دستوراً مبنياً على مبدأ الفيدرالية. كذلك فإن موسكو استضافت سيبان حمو القائد العام لوحدات الحماية عدّة مرات بهدف التنسيق في بعض المواضيع. وحتى نهاية العام 2017 كانت الأجواء ما تزال تشير إلى إمكان حدوث اختراق استراتيجي في العلاقة بين موسكو وقوات "قسد" بما يمكن أن يترك تأثيراته على مُجمل ملف شرق الفرات، وبالتالي على الدور الأميركي في سوريا. وقد تجلّى ذلك من خلال الاجتماع الذي عُقِدَ في الخامس من كانون الأول عام 2017 بين نائب قائد قاعدة حميميم وبعض الضبّاط الكرد في ريف ديرالزور، وأفضى إلى الاتفاق على تشكيل غرفة عمليات مشتركة. لكن سُرعان ما تمكّنت واشنطن من قلب الطاولة على الاتفاق، لتأتي بعد ذلك أحداث معركة عفرين لتشكّل أول شَرْخ حقيقي بين موسكو و"قسد" لا سيما بعد أن صدر الاتّهام لروسيا بخيانة الكرد من سيبان حمو الذي كان سابقاً من أرفع قنوات التنسيق بين الطرفين. وقد يكون المُتغيّر الحقيقي الذي جعل موسكو تفقد سيطرتها على الملف الكردي، هو التغيير الذي طرأ على علاقتها مع تركيا. إذ كانت روسيا وتركيا في السابق عدوّتين مُتخاصمتين وهو ما أتاح لروسيا تاريخياً حرية أكبر في التعاطي مع الكرد كورقةٍ من أوراق الضغط على خصومها في المنطقة وعلى رأسهم أنقرة. لكن تحسّن العلاقة بين الدولتين خلال العامين المُنصرمين قد يكون لعب دوراً كبيراً في توجّس الكرد من الدور الروسي وعدم ثقتهم بتوجّهاته حيالهم. ومهما يكن الأمر، يبدو أن العلاقة المُتوتّرة بين واشنطن وأنقرة رغم تحالفهما التاريخي، جعلت قادة الكرد يشعرون بارتياحٍ أكبر في التعامل مع واشنطن وفق حسابات تستبعد عودة علاقتها مع أنقرة إلى سابق عهدها، بينما تشير جميع المُعطيات السياسية والاقتصادية إلى أن علاقة روسيا مع تركيا مستمرّة لوقتٍ طويلٍ نسبياً. وقد يكون التصويب الروسي مؤخّراً على شرق الفرات ودور "قسد" في تهديد وحدة الأراضي السورية، أحد المؤشّرات على قيام موسكو بإعادة قراءة موقفها من موضوع الفيدرالية وربما من المسألة الكردية بمُجملها. لكن روسيا تحاول من خلال بعض التصريحات، التمسّك بشعرة معاوية التي ما تزال تربطها مع قوات "قسد" وذلك من خلال استمرار مُطالبتها بأن يكون لهذه القوات دور في العملية السياسية، وإن برّرت ذلك بأنه قد يجنّب من ميولها الانفصالية.   موسكو تُدرِك أن الملف الكردي أصبح بيد واشنطن بالكامل. وجميع محاولاتها لاستعادته ليس المقصود منها أن تؤدّي إلى هذه النتيجة حالاً، لا سيما بعد تمديد المُساعدات الأميركية لـ"قسد" لمدة عامين إضافيين. لكن موسكو بحسّها التاريخي لا تريد أن تصل إلى درجة القطيعة. بل تفضّل أن تترك للتاريخ فرصة استئناف العلاقات مع الكرد السوريين إن لم يكن في هذه المرحلة فليكن في مراحل لاحِقة ولو بعد عقود، وحتى ذلك الحين ستستمر كعادتها في سياسة "التوازن الحَرِج".

المصدر : الميادين / عبد الله سليمان علي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة