عادت عقارب السياسة الدولية لتتباطأ مع انعقاد قمة تجمع زعيمي الولايات المتحدة وروسيا. لا يُختزل السبب الرئيس في أنّ الدولتين تتقدمان في موازين القوى على ثالثتهما، وهي الصين، بل لأنّهما لا تزالان الوحيدتين اللتين تمسكان بأمن القارة الأوروبية، ولأنّهما الموجودتان عسكرياً وأمنياً في أكثر مناطق العالم توتراً، وهي الشرق الأوسط.

 

ورغم كل الهجمات الغربية، الإعلامية والسياسية، التي رافقت هذه القمة، ورغم أنّ الدولتين لم تعودا بطبيعة الحال إلى ما كانتا عليه في زمن الحرب الباردة، فلعلّ ما يكسب «قمة هلسنكي» أهميتها قد يُختصر بعاملين: الأول هو أنّها تجري في ظلّ مشهد دولي لا تنفك نقاط ارتكازه تتغيّر، والثاني أنّ الطرف الأميركي الحاضر في العاصمة الفنلندية ينتهج سياسات يبدو أنّها ستذهب بعيداً في حسابات المصلحة القومية، بما يُدخل تعديلات جمّة على دور الأخيرة ضمن المنظومة الغربية المعهودة بشكلها الحالي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

في أميركا، فإنّ أكثر ما لاقاه ترامب من انتقادات انطلق من قوله: «لا أرى أي سبب» يدفع إلى الاعتقاد بأن الروس تدخلوا في الانتخابات الرئاسية عام 2016، ما فتح عليه أبواب هجمات داخلية شديدة، من قبل «جمهوريين»، وطبعاً من قبل «ديموقراطيين» الذين قال زعيمهم في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، إنّ اداء الرئيس الأميركي كان «معيباً في المؤتمر الصحافي» المشترك مع الرئيس فلاديمير بوتين، إذ إنّه «قام بتقوية خصومنا وإضعاف دفاعاتنا ودفاعات حلفائنا». وأضاف: «لم يرَ الأميركيون في تاريخ بلادنا رئيساً للولايات المتحدة يؤيد خصما لأميركا كما فعل دونالد ترامب مع الرئيس بوتين».

الصحافة الأميركية تقاطعت بغالبيتها مع هذه الانتقادات، وقد برزت من بين مقالات عدة، مقالة لتوماس فريدمان في «نيويورك تايمز» بعنوان «ترامب وبوتين في مواجهة أميركا»، وصل فيها إلى القول: «مثل هذا السلوك من قبل رئيس أميركي خاطئ جداً، ومعاكس جداً للمصالح والقيم الأميركيّة، وهو لا يدفع إلا باتجاه استنتاج واحد: إما أن يكون دونالد ترمب عميلاً للاستخبارات الروسيّة أو هو يستمتع بلعب ذلك الدور على شاشات التلفزة. كلّ شيء حصل في هلسنكي يعزّز هذا الاستنتاج». وتوجّه إلى «الإخوة الأميركيين»، قائلاً: «نحن واقعون في مشكلة ويجب علينا اتخاذ مواقف كبرى اليوم. لقد كانت هذه لحظة فارقة في كامل تاريخ الولايات المتحدة».

ما قيل في السياسة والإعلام ضدّ القمة، اختصره ربما روبرت كاغن، وهو دبلوماسي سابق، باعتباره أنّ ترامب يُضعف الموقف الأميركي «من خلال ضعضعة تحالفاتنا وتدمير النظام العالميّ الذي تقوده أميركا، وهو يعيدنا إلى أنواع من المخاطر رأيناها في النصف الأوّل من القرن العشرين».

على صعيد آخر، فمن وجهة نظر بوتين، «الحرب الباردة انتهت منذ فترة طويلة، وأصبح عهد المواجهة الإيديولوجية الحادة بين البلدين في خبر كان، والوضع في العالم تغيّر جذرياً... اليوم تواجه روسيا والولايات المتحدة تحديات أخرى، ومنها الإخلال بتوازن آليات الأمن والاستقرار الدولي والأزمات الإقليمية وانتشار مخاطر الإرهاب والجريمة الدولية وتنامي المشاكل في الاقتصاد العالمي». بناءً على هذا التصريح، أين يمكن أن تلتقي العاصمتان؟ لا بدّ من ترقب مسارات «الحوار» الذي انطلق في هلسنكي بأربع ساعات من اللقاءات أمس، ومعرفة ما إذا كان سيُستكمل. لكن لعلّ الأكيد حتى الآن أنّ توجهات لإعادة ترتيب نقاط الاشتباك الأميركية مع روسيا، في أوروبا على وجه الخصوص، تلوح في الأفق، وهنا مكمن الهلع الغربي.

هكذا، تتباطأ عقارب السياسة الدولية، لترقّب الآتي.

 

  • فريق ماسة
  • 2018-07-16
  • 13698
  • من الأرشيف

«قمّة هلسنكي»: عقارب السياسة الدولية تتباطأ

عادت عقارب السياسة الدولية لتتباطأ مع انعقاد قمة تجمع زعيمي الولايات المتحدة وروسيا. لا يُختزل السبب الرئيس في أنّ الدولتين تتقدمان في موازين القوى على ثالثتهما، وهي الصين، بل لأنّهما لا تزالان الوحيدتين اللتين تمسكان بأمن القارة الأوروبية، ولأنّهما الموجودتان عسكرياً وأمنياً في أكثر مناطق العالم توتراً، وهي الشرق الأوسط.   ورغم كل الهجمات الغربية، الإعلامية والسياسية، التي رافقت هذه القمة، ورغم أنّ الدولتين لم تعودا بطبيعة الحال إلى ما كانتا عليه في زمن الحرب الباردة، فلعلّ ما يكسب «قمة هلسنكي» أهميتها قد يُختصر بعاملين: الأول هو أنّها تجري في ظلّ مشهد دولي لا تنفك نقاط ارتكازه تتغيّر، والثاني أنّ الطرف الأميركي الحاضر في العاصمة الفنلندية ينتهج سياسات يبدو أنّها ستذهب بعيداً في حسابات المصلحة القومية، بما يُدخل تعديلات جمّة على دور الأخيرة ضمن المنظومة الغربية المعهودة بشكلها الحالي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. في أميركا، فإنّ أكثر ما لاقاه ترامب من انتقادات انطلق من قوله: «لا أرى أي سبب» يدفع إلى الاعتقاد بأن الروس تدخلوا في الانتخابات الرئاسية عام 2016، ما فتح عليه أبواب هجمات داخلية شديدة، من قبل «جمهوريين»، وطبعاً من قبل «ديموقراطيين» الذين قال زعيمهم في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، إنّ اداء الرئيس الأميركي كان «معيباً في المؤتمر الصحافي» المشترك مع الرئيس فلاديمير بوتين، إذ إنّه «قام بتقوية خصومنا وإضعاف دفاعاتنا ودفاعات حلفائنا». وأضاف: «لم يرَ الأميركيون في تاريخ بلادنا رئيساً للولايات المتحدة يؤيد خصما لأميركا كما فعل دونالد ترامب مع الرئيس بوتين». الصحافة الأميركية تقاطعت بغالبيتها مع هذه الانتقادات، وقد برزت من بين مقالات عدة، مقالة لتوماس فريدمان في «نيويورك تايمز» بعنوان «ترامب وبوتين في مواجهة أميركا»، وصل فيها إلى القول: «مثل هذا السلوك من قبل رئيس أميركي خاطئ جداً، ومعاكس جداً للمصالح والقيم الأميركيّة، وهو لا يدفع إلا باتجاه استنتاج واحد: إما أن يكون دونالد ترمب عميلاً للاستخبارات الروسيّة أو هو يستمتع بلعب ذلك الدور على شاشات التلفزة. كلّ شيء حصل في هلسنكي يعزّز هذا الاستنتاج». وتوجّه إلى «الإخوة الأميركيين»، قائلاً: «نحن واقعون في مشكلة ويجب علينا اتخاذ مواقف كبرى اليوم. لقد كانت هذه لحظة فارقة في كامل تاريخ الولايات المتحدة». ما قيل في السياسة والإعلام ضدّ القمة، اختصره ربما روبرت كاغن، وهو دبلوماسي سابق، باعتباره أنّ ترامب يُضعف الموقف الأميركي «من خلال ضعضعة تحالفاتنا وتدمير النظام العالميّ الذي تقوده أميركا، وهو يعيدنا إلى أنواع من المخاطر رأيناها في النصف الأوّل من القرن العشرين». على صعيد آخر، فمن وجهة نظر بوتين، «الحرب الباردة انتهت منذ فترة طويلة، وأصبح عهد المواجهة الإيديولوجية الحادة بين البلدين في خبر كان، والوضع في العالم تغيّر جذرياً... اليوم تواجه روسيا والولايات المتحدة تحديات أخرى، ومنها الإخلال بتوازن آليات الأمن والاستقرار الدولي والأزمات الإقليمية وانتشار مخاطر الإرهاب والجريمة الدولية وتنامي المشاكل في الاقتصاد العالمي». بناءً على هذا التصريح، أين يمكن أن تلتقي العاصمتان؟ لا بدّ من ترقب مسارات «الحوار» الذي انطلق في هلسنكي بأربع ساعات من اللقاءات أمس، ومعرفة ما إذا كان سيُستكمل. لكن لعلّ الأكيد حتى الآن أنّ توجهات لإعادة ترتيب نقاط الاشتباك الأميركية مع روسيا، في أوروبا على وجه الخصوص، تلوح في الأفق، وهنا مكمن الهلع الغربي. هكذا، تتباطأ عقارب السياسة الدولية، لترقّب الآتي.  

المصدر : الماسة السورية/ الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة