تبحث مجتمعاتنا اليوم عن أسئلة أنتجتها التغيرات الكبرى التي جرت في أوروبا القرن التاسع عشر، وهي أسئلة متعددة الجوانب وليس من الخطأ القول إنها جميعها ناجمة عن الاضطرابات الاجتماعية التي خلقتها الثورة الصناعية. فلقد عاشت الدول الغربية ثورتها الصناعية مع البحث عن تسييد العقل وخلق القوميات والحرية والإجراءات التي تحد من الصراعات الطبقية. ولكن عملية البحث هذه، وكنتيجة منطقية للنظام الاقتصادي للرأسمالية، لم تمنع من قيام إمبراطوريات استعمارية كبرى، وفي القرن العشرين وبعد حربين عالميتين تمت تصفية الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة نسبياً، وأما القسم الأكبر من البشرية التي لم تتخلص من تخلفها الاقتصادي فقد بدأت التفكير في هويتها الذاتية ضمن شروط جديدة جداً.

بدأت النزعة القومية في أوروبا كحركات تحررية ولكن مع تحول الرأسمالية إلى صيغتها الإمبريالية في نهايات القرن التاسع عشر واتخاذ الدول الإمبريالية صيغة الأمم الواجب عليها نشر الحضارة في الدول المتخلفة، فقدت هذه النزعات التحررية والقومية قيمتها ووظيفتها وتحوّلت إلى مبادئ لتبرير السياسة التوسعية للدول الإمبريالية.

تركيا كانت مختلفة من هذه الزاوية عن العالم الغربي من جهة وعن مجتمعات المستعمرات من جهة أخرى، فمن جهة وجود كوادر الإمبراطورية التي استمرت حتى القرن العشرين أمرٌ يقرّبها من النظام الغربي، ولكن من جهة أخرى نجد أن الإمبراطورية العثمانية هي إمبراطورية من النمط القديم وهي في ذلك مختلفة عن الإمبراطوريات الحديثة التي نتجت عن النظام الرأسمالي والمتشكلة من "مراكز" و"أطراف".  ومن جهة أخرى فقدان الإمبراطورية العثمانية لاستقلالها الاقتصادي والسياسي قرّبها أكثر من الدول المستعمَرة. وهكذا تطورت المشكلة القومية عند الأتراك ضمن هذا الوضع المتناقض الناتج عن هذه الشروط الموضوعية. وحتى اليوم لم يتغلب الأتراك على مشاكل الهوية والقيم المتعلقة بموضوع موقعهم  في العالم. الناجمة عن هذا الوضع المتناقض.

مع فقدان الدولة العثمانية استقلالها الاقتصادي فقدت أيضاً استقلالها الثقافي، ولهذا السبب تشكلت الأفكار والمشاعر المتعلقة بمسألة الهوية ضمن الضوابط والإيديولوجيات التي خلقتها الثقافة الغربية.

خلال القرن التاسع عشر، استعان العلماء بفكرة العرق ليس فقط لتصنيف الناس، بل لتبرير العبودية من خلال تصوير الأفارقة على أنهم جنس أدنى، فمنذ أن عمل عالم الأحياء السويدي كارلوس لينيوس، الذي أعلن في عام 1758 على إمكانية تقسيم البشر إلى أعراق هي الأبيض (الأوروبيين)، والأحمر (الأميركيين الأصليين)، والأسود (الأفارقة)، والأصفر (الآسيويين). وألصق بكل الأعراق، باستثناء العرق الأبيض، صفات شخصية ثابتة. خلال العقود التالية، تجادل العلماء، الذين كان أسلافهم أوروبيين، حول ما إذا كان الله قد خلق كل عرق على حدة بشكل منفصل، أم أن البشر من أصل واحد لكنهم انقسموا إلى أعراق.

جون كاسبر لافاتر وعلم الفيسيونومي يمكن فهم شخصية البشر من خلال خطوط وجوههم

أنتجت الأبحاث التي أجريت على الأعراق نوعين من الهواجس: الهاجس العلمي والهاجس الأيديولوجي، فلقد تابع العلماء قوانين الطبيعة وطرحوا عدداً من الأسئلة: هل يمكن تقسيم البشر إلى أجناس اعتماداً على خصائصهم البيولوجية؟ وإن كان هذا متاحاً فما هي الأعراق الموجودة؟ وهل هذه الأعراق متساوية فيما بينها؟ هل يمكننا النظر إلى وجود علاقة بين الأعراق والحضارات عبر التاريخ؟ ولكنهم لم يتوصلوا مطلقاً إلى أجوبة على هذه الأسئلة. وعندما وضعوا أطروحاتهم كانت تحمل مواصفات الفرضية فقط. مقابل ذلك نجد الأيديولوجيين عملوا على فرض ونشر معتقد محدد من خلال إعطاءه الصبغة العلمية.. يتلخص هذا المعتقد بأن تفوق الحضارة الغربية ليس نتيجة عوامل جغرافية أو تاريخية أو اقتصادية محددة بل، نتائج خصائص بيولوجية محددة، أي أن الأوربيين متفوقين حضارياً بسبب تفوقهم العرقي، ثم انتشر هذا الاعتقاد في الأدب والشعر والموسيقى، ومع مرور الوقت ترسّخ هذا الاعتقاد في أدمغة الناس غير الغربيين أيضاً.

أثر هذا الفكر في الدولة العثمانية من خلال المستشرقين وبشكلٍ خاص من خلال علماء دراسة السلالات التركية أو التركولوجيين.. فلقد تطور الوعي القومي في الدولة العثمانية في مرحلتها الأخيرة متأثراً بالتركولوجيا أحد فروع الاستشراق. وهو فرع تطور بشكل مرتبط بالصينيولوجيا الذي أسسه الرهبان اليسوعيين في القرن السابع عشر. فلقد أدت معرفة المصادر الصينية وزيادة المعلومات حول أتراك آسيا الوسطى على ظهور العديد من المعلومات حول تاريخهم، وبعد ذلك تم تأسيس الجمعية الآسيوية وإصدار المجلة الآسيوية عام 1822 ما سرّع وتيرة الاستشراق وزاد من أهمية التركولوجيا.

ولكن أهم عمل أثر في ولادة النزعة التركية في الدولة العثمانية فهو كتاب "مدخل إلى تاريخ آسيا، الأتراك والمغول" للباحث ليون جيهون الذي أصدره عام 1896.  علما أنه لم يكن عالماً في التركولوجيا حتى أن المصادر الفرنسية تعرِّفه على أنه أديب. ولكن ربما السبب في انتشار الكتاب وشدة تأثيره هنا هو أن النزعة التركية كانت قد انتقلت من الحيّز الثقافي لتصبح حركة سياسية. وكان ليون جيهون على علاقات مباشرة مع المعارضة العثمانية الموجودة في أوروبا وكان يعمل على التأثير بها، ولذلك لا تزال الأبحاث التركية تتساءل فيما إذا كان لهذا الباحث مهمة سياسية ما أم لا؟ لا يوجد أية معطيات حول هذا الموضوع ولكن ما جاء في الكتاب وتأثيره على النزعة التركية يثير التفكير بعض الشيء. لم يقدم جيهون معلومات عن تاريخ الأتراك فقط بل قدّم تقييمات وأعطى وجهة نظره. حيث تحدث عن أنهم ليسو أصحاب عقل بل أصحاب قلب ولا يمتلكون القدرة على صنع الحضارات ولكنه في الوقت نفسه وجّه المديح لهم على اعتبارهم "أصحاب روح حربية مقاتلة" و"شجعان" و"أصحاب حسٍّ سليم" ودخولهم الإسلام،حسب الكاتب، لم يعطِ نتائج إيجابية من حيث ذكائهم وانتماءهم القومي وصاروا ممثلي آسيا المسلمة ضد أوروبا المسيحية، ووضع هؤلاء الناس، أصحاب القلوب القوية والذين يفخرون بانتمائهم القومي، كل طاقاتهم في خدمة الأجانب". وأما الشخصية الاستشراقية الثانية التي أثرت أيّما تأثير في النزعة التركية في أواخر عهد الدولة العثمانية فهو المجري اليهودي أرمينوس فيمبيري (1832 – 1913) الذي أمضى سنوات طوال داخل الدولة العثمانية، وقد أولى اهتماماً كبيراً بأتراك آسيا الوسطى، وكان يساند الانكليز ضد الروس ومن أجل هذا الهدف تجوّل في آسيا الوسطى بهيئة درويش وجمع معلومات كثيرة حول أتراك آسيا الوسطى ولفت الانتباه إلى العلاقة الكبيرة بين اللغتين التركية والمجرية وكان يدعم المشروع اليهودي وهو الذي أمّن اللقاء بين مؤسس الصهيونية ثيودرور هرتزل والسلطان عبد الحميد عام 1901.

لم تكن مصطلحات "العرق" و"الأمة" موجودة لدى الدولة العثمانية. وبقي مفهوم التاريخ لدى العثمانيين حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر عبارة عن تاريخ مقدس يعتمد على حكاية متسلسلة، وضمن هذا المفهوم كانوا يرجعون بشجرة نسبهم إلى يافث ابن النبي نوح، وضمن هذا التاريخ المقدس المعتمد على التسلسل الزمني كان لفظ "تركي" يستخدم لوصف القرويين أو العشائر التركمانية يصاحبها كلمة "فج" و"جاهل"، وأما كلمة ملة التي كانت تُستخدم لوصف المسيحيين واليهود فلم تكن تعني قومية محددة حسب التعريف الحديث للقومية بل كان تدل على الجماعة الدينية. وأما ظهور "مسألة الهوية" لدى العثمانيين فقد ظهرت في نهايات القرن الثامن عشر عندما واجهت الإمبراطورية مشاكل جديدة تقف حائلة دون قدرتها على الاستمرار. عندما بدأت تخسر الحروب وبدأت تنتعش الحركات القومية داخل الدولة العثمانية والتي كان العثمانيون ينظرون إليها على أنها عامل خطر على وحدة الأراضي العثمانية، ولذلك عملت الطبقة الإدارية في الدولة العثمانية على منع الشعوب العثمانية من البحث عن تطوير النزعات القومية لديها وكانت تواجهها بالقمع أحياناً وببعض الإصلاحات أحياناً أخرى – مع عملهم في السر على تطوير النزعة التركية – ولم تظهر النزعة التركية كتيار سياسي حتى عام 1911. ولكنها وقعت تحت تأثير الشكل الذي أخذته النزعات القومية في نهايات القرن التاسع عشر، وبعبارة أكثر دقة، لم تقع تحت تأثير مبادئ فلاسفة عصر التنوير بل تحت تأثير النزعات القومية التوسعية والعرقية، مع فارق مهم جداً وهو أن البنية الاجتماعية الاقتصادية للأتراك كانت مختلفة جداً عن البنية الاجتماعية الاقتصادية للدول الأوربية.

وفي الوقت ذاته بدأت عملية فكرية تبحث عن الأصول الأتنية للعثمانيين، ولكن هذه الأفكار لم تتحول إلى حركة أو تيار سياسي لأنه كان ينظر إليها على أنها ذات أثر تقسيمي انفصالي. واقتصرت على البحث في "أصول الأتراك" و"اللغة التركية".

في الحقيقة لم يكن المثقفون في الدولة العثمانية، التي تنظر إلى نفسها على أنها "عثمانية" و"مسلمة"، يمتلكون أي إرث ثقافي ينجدهم في بحثهم عن الهوية بينما كان الغرب قد أكمل بناء ترسانته الفكرية التي يمكنه الاستناد عليها في بحثه، خاصة وأنهم جميعهم غير مستقلين عن هيكلية دولة ويجمعهم هدف مشترك هو "إنقاذ الدولة".

درست أوروبا، التي أنتجت العرقية الحديثة، تاريخها الخاص بها بناء على ضوابط ثقافية أنتجتها بنفسها كالأنثروبولوجيا وعلم اللغة وعلم الآثار، ولكن الأبحاث التي أجرتها حول الأعراق لم تسعفها في إيجاد أسس عرقي للحضارة الأوروبية وخرجت بنتيجة تقول إن الأمم الأوروبية تمتلك قاعدة إثنية معقدة إلى أبعد حد. وبالرغم من كل ذلك استمرت هذه العرقية إلا أنها لم تصبح رأياً سائداً بكل ما للكلمة من معنى. ويمكن أن نستثني من ذلك الأفكار العرقية في ألمانية النازية التي لم تنتشر بسبب قوتها الفكرية والمعنوية بل بسبب الشروط السياسية والاقتصادية الخاصة بها. وكما نظر العديد من الانتروبولوجيين والفلاسفة إلى أن الأمم الأوربية نتاج تركيب اثني معين، كذلك الأمر نظروا إلى الأتراك بنفس المنظور. فالغرب، الذي لم يجد أسساً عرقية لحضارته بدأ يدافع عن هذه الحضارة على أسس "ثقافية"، وهنا وجد ما يميّزه عن بقية الحضارات والشعوب. وفعلاً عندما كان يطرح العرقية في القرن الثامن عشر كان في الوقت نفسه يطور مبادئه فيما يخص "سيادة الشعب" و"فصل السلطات" و"حرية الرأي". ولهذا السبب ركّز انتقاده على الشرق ليس كعرق أدنى وحسب، بل لأنه لا يعتمد على سيادة الشعب ولأنه ليس حراً وباختصار لأنه "استبدادي". وطبعاً لم تكن هذه الانتقادات موضوعية ونزيهة دائماً. ولكنها أصبحت هي الفلسفة الرسمية للغرب. وأما المثقفين العثمانيين فقد انتهجوا هذه الفلسفة ذاتها ولكن بدل أن ينتقدوا المجتمع العثماني من زاوية الديمقراطية والحرية بدؤوا عملية البحث عن عرقهم، وبدؤوا البرهنة والحديث عن أن الأتراك أسسوا العديد من الحضارات، وانقسموا إلى كابي كولو القصر من جهة وحزب معارضة داخل الزمرة الحاكمة.

استفاد أصحاب النزعة التركية في الدولة العثمانية من الأبحاث الأنثروبولوجية وأبحاث علم اللغة الموجودة في الغرب ولكنهم اعتمدوا يشكلٍ أساسي على التركولوجيا. فنجد مصطفى جلال الدين باشا (اسمه الحقيقي قسطنطين بورزيسكي) عام 1869 يحاول في كتابه "الأتراك القدامى والجدد" معتمداً على معطيات علم اللغة، البحث والبرهنة على أن الأتراك من العرق "الطورو – آري" دون امتلاكه منهجاً واضحاً وسليماً في بحثه. بينما نجد ميزانجي مراد أفندي يقول بأن "الأتراك فرع من العرق الهندو أوروبي". في الحقيقة طوال هذه المرحلة لا نرى إلاّ تأثير علماء التركولوجيا من المستشرقين الغربيين.

انهيار الدولة العثمانية ودخول الأمة التركية في صراع من أجل الاستقلال خلقت شروطاً جديدة فيما يخص الوعي القومي ومسألة الهوية. فمع موت الأحلام ببقاء الإمبراطورية ذهب معها ومات مصطلح "الأمة المقاتلة" أو "الأمة الإدارية أو الحاكمة" ليحل محله وعي جديد تحت مصطلح "الأمة المظلومة"، وفعلاً استطاع قائد حرب التحرير الوطنية مصطفى كمال أتاتورك أن يقدم الأمة التركية للرأي العام العالمي على أنها أمة مظلومة وأعلن أنه سيدافع عن حقوق هذه الأمة وبذلك استطاع القيام بثورة ثقافية من شأنها فتح الطريق أمام تغييرٍ مهم جداً في الذهنية التركية. ومن أجل تحقيق هذا الموضوع اقتضى الأمر القيام بتحليل اجتماعي واعتماد معطيات تاريخية لدعم هذا الفكر الجديد، وقد حقق أتاتورك تطوير أسس هذا التحليل خلال سنوات حرب التحرير. فطالما تم الادعاء بأن الأمة التركية "أمة مظلومة" إذاً يجب إظهار والكشف عن ظالمي هذه الأمة. وقد كان أتاتورك يرى أن هؤلاء الظالمين يمكن إدراجهم تحت عنوانين، القوى الداخلية والقوى الخارجية، وهما في حالة تحالف مع بعضهما البعض. وأما القوى الخارجية فهي الإمبريالية التي تحاول القضاء على حرب الاستقلال الوطني من أجل السيطرة على تركيا. وهذا الأمر كان واضحاً بالنسبة للجميع، ولكن من هي القوى الداخلية؟ تحدّث أتاتورك عن رؤيته حول هذا الموضوع في المؤتمر الاقتصادي في إزمير المنعقد بتاريخ 17 شباط 1923. حيث قال: "كافة الجهود والأعمال في الدولة العثمانية لم تكن من أجل تلبية آمال الأمة ومتطلباتها واحتياجاتها الحقيقية بل كانت من أجل تلبية الاحتياجات والأطماع الخاصة لهذا وذاك من الأشخاص" وأما بالنسبة للتاريخ العثماني، فلم يُكتب عن الشعب ولم يُكتب التاريخ الحقيقي بل كُتب عن السلاطين والزمرة الحاكمة حيث يقول: "لم يكن التاريخ العثماني من أوله لآخره سوى تأريخ للأعمال وتحركات الأشخاص والسلاطين والزمرة الحاكمة". شكلت هذه الأفكار فلسفة حرب التحرير في تلك المرحلة. طبعاً لم يكن من الممكن الحديث بلغة أخرى في فترة كان يخوض فيها حرباً حياتية ضد الإمبريالية من جهة وضد شركائها في الداخل أي الدولة العثمانية. كان أتاتورك يقول: "لا يوجد أية علاقة بين تركيا الجديدة وتركيا القديمة.. فالدولة العثمانية طويت في صفحات التاريخ، واليوم ولدت تركيا جديدة بدلاً منها". حتى أن كوادر الدولة ومفكريها بدؤوا في مرحلة فكرية جديدة لدرجة أن ضيا غوكالب مؤسس النزعة التركية، تخلى عن طورانيته وقال: "لا أحد يعطي للنزعة التركية صفتها الرسمية ويستطيع تطبيقها بشكلٍ حقيقي سوى الغازي مصطفى كمال باشا.

بالرغم من كل الإصلاحات التي أجراها أتاتورك بقي أصحاب النزعة القومية التركية تحت تأثير الأفكار العرقية الغربية، فهاهو فؤاد كوبرولو مؤرخ النزعة التركية يطرح موضوعاً سجالياً يحاكي الاستشراق الغربي حيث يحاول إثبات إسهامات أتراك الأوزبك في حضارات القرون الوسطى، وباختصار بقيت أفكار القومية الاتحادية ذات تأثير قوي في السنوات الأولى للجمهورية، وكانت النوادي القومية التي كانت موجودة عام 1930 وعددها 257 نادٍ تشكل حلقة وصل بين أيديولوجيا ما قبل حرب التحرير وأيديولوجيا ما بعد حرب التحرير.  أضف إلى ذلك أننا نصادف الآراء الأولى لفكرٍ جيد في نهاية العشرينات، فقد ألقى رشيد صفوت (أتابينن) محاضرة في بودابست عام 1929 قال فيها أن النزعة التركية وصلت مع أتاتورك إلى مرحلة الوعي التام، وأن أتاتورك وضع برنامجاً واضحاً من أجل أتراك الأناضول ويضيف: "لقد أثبتت الدراسات العلمية أن الأتراك هم أول من وضع أسس الحضارات الأقدم في العالم كالحضارة المصرية والحضارة الصينية وحضارة ما بين النهرين. فعلاً هذه الأفكار تعبّر عن فكرٍ جيد بدأ ينتشر في تركيا حول هوية الأتراك ومكانتهم في العالم. وقد تم تنظيم هذه الأفكار من خلال الانتقال من نوادي النزعة التركية إلى مجمع التاريخ التركي، وقد عبّر هذه الفكر عن نفسه بكل وضوح في مؤتمر التاريخ التركي الثاني المنعقد عام 1937. عبّرت البروفيسورة عائشة عفت إنان (ابنة أتاتورك بالتبني) عن هذا التفكير بكل وضوح حين قالت: "المهد الأول لكافة الحضارات العليا في العالم هو الوطن الأم للأتراك في آسيا الوسطى، والذي أسس هذه الحضارات ونشرها في كافة أنحاء العالم هم الأتراك" وقد اكتمل هذا الفكر من خلال وضع نظرية الشمس التي تقول بأن اللغة التركية هي أول وأم اللغات في العالم ومنها اشتقت بقية اللغات من خلال نشر الأتراك لحضارتهم. ولكن ما هي الأدلة العلمية على هذه النظريات؟

في الحقيقة لا يوجد أي سند علمي لها إلا الأبحاث الأوربية التي أجريت حول العرق واللغة، ولكن من أهم الشخصيات التي فتحت الطريق لبزوغ هذا الفكر هو الأنثربولوجي السويسري يوجين بيتارد (أستاذ عائشة عفت إنان في تحضير رسالة الدكتوراه)، الذي اقترح على جمعية التاريخ التركية التي تأسست عام 1924، أن يبحثوا في الجذور الأثنية للأتراك، وفي العام الذي تأسس فيه مجمع التاريخ التركي تحت اسم "جمعية تدقيق وبحث التاريخ التركي" أصدر كتاباً بعنوان "المظهر الجديد لتركيا"، وفي مؤتمر التاريخ التركي الثاني المنعقد عام 1937 شارك كرئيس فخري للمؤتمر.

جدد بيتارد في التقرير الذي قدمه في هذا المؤتمر أطروحة قديمة له حيث يقيم علاقة بين أقدم عرق قام بثورة العصر الحجري الحديث وبين شعب الأناضول ويعلن بأن الأناضول هي الأرض المقدسة التي كانت مصدر كل الحضارات. ويضع الأنثروبولوجي السويسري بيتارد فرضية تلفت الانتباه إلى العرق الذي أقام أقدم حضارة في آسيا الوسطى ويتحدث عن تركيبة واستمرارية لشعب هذه المنطقة، فبالإضافة إلى زعمه أن السومريين والحثيين كانوا أتراكاً، يؤكد أن الأتراك الذين يعيشون اليوم في الأناضول عبارة عن تركيب راسخ تصل جذوره إلى السومريين والحثيين. وبالرغم من أن بيتارد لم يجد لمزاعمه أية مكتشفات تاريخية تثبتها إلاّ أنها أخذت شكل الحقيقة المطلقة لدى أطروحة التاريخ التركي، وتطبق البروفيسورة عائشة عفت إنان أفكار بيتارد على الشكل التالي: "لم يبدأ تتريك الأناضول في القرن الحادي عشر كما يعتقد البعض، بل تم تجديد دماء الأناضول في القرن الحادي عشر بموجات هجرة لعناصر ينتمون لنفس عرق السكان الأصليين في الأناضول وهم الأتراك، وعام 1071 يدل على اللقاء الذي جرى بين الأتراك المسلمين في الأناضول مع أخوتهم". وطبعاً هذا هو السبب الذي يقف وراء تسمية لواء إسكندرون بـ هطاي أي حثاي وتعني أرض الحثيين الأتراك.

بالرغم من هذه العرقية المتشددة للتاريخ التركي كانت لثورات أتاتورك أثر هام جداً كان من شأنها خلق بورجوازية صناعية حقيقية وبالتالي رأسمالية حقيقية تنافس الغرب وقد تصل شراراتها إلى دول المشرق كلها وهذا ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي العمل سريعاً لتهيئة الظروف لوصول عدنان مندرس إلى السلطة في تركيا في الانتخابات التي جرت بتاريخ 14 أيار عام 1950 بعد تأسيس الحزب الديمقراطي بتاريخ  7 كانون الثاني 1947. ليبدأ بعدها ليفرّغ أسس العلمانية التركية من معناها ويجعلها علمانية جوفاء وأطلق العنان للطرائق الدينية ويعيد الاعتبار لسعيد النورسي مؤسس الطريقة النورجية ومعلم الداعية الديني فتح الله غولن ويغلق معاهد القرى. وفي عام 1950 يدخل حرب الكوريتين إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وينال على أثرها شرف العضوية التامة في حلف الناتو عام 1952، لتبدأ تركيا دورها الحقيقي كمخفر متقدم وأول ما قامت به هو تأسيس منظمات السوبر ناتو التي كان لها فرعان هما اتحاد الطلبة القوميين الأتراك التي من أعضائها رجب طيب أردوغان وباقي فريق حزب العدالة والتنمية، وجمعيات مكافحة الشيوعية التي كان فتح الله غولن أحد رؤساء إحدى هذه الجمعيات وطبعاً كانت الشخصيات الدينية وأقصد هنا الدين السياسي تتربى وتتأهل في مدارس فتح الله غولن التي يزيد عددها على 600 جامعة ومدرسة في كافة أنحاء العالم باستثناء الصين وإيران وسوريا.

هناك من يقول أن عدنان مندرس ساهم بنهضة صناعية في بلده ولكن يجب ألا ننسى أن التطور التقني ليس بعدد المصانع بل بالذهنية التي تقف وراء هذه المصانع. في الحقيقة لعب عدنان مندرس دوراً هاماً من أجل استمرار وقوف الذهنية الدينية الإقطاعية وليس العلمانية البورجوازية، خلف الآلات التي تنتج الصناعة في تركيا.

خاتمة:

ما أردت قوله من خلال حديثي هذا بعد الإشارة بدقة إلى تصريحات أغلب المسؤولين الأمريكيين وآخرهم مادلين أولبرايت، تلك التصريحات التي تتمحور حول: "إن تركيا بلد مهم لدرجة يجب عدم تركه للأتراك"، ما أردت قوله هو أن الغرب الرأسمالي لا يمكنه التخلي عن تركيا مهما جرى على اعتبارها الجدار الفاصل بين الغرب والشرق وعلى اعتبارها مخفر متقدم للإمبريالية الغربية والأمريكية لمحاصرة الاتحاد السوفيتي سابقاً وروسيا اليوم من جهة ومنع أية حركات تحررية أو مضايقة أية أنظمة تحررية ترفض الانصياع لإملاءات الإمبريالية الأمريكية.

فكما ورد معنا لعب الاستشراق دوراً هاماً في صياغة الأفكار القومية التركية من خلال أبحاث ليون جيهون وأرمينوس وفيمبيري يوجين بيتارد، الذي كان كتابه "المظهر الجديد لتركيا" بمثابة النظام الداخلي للقومية التركية، كما لعب الغرب الرأسمالي، عندما كان في طور الرأسمالية المنتجة التي تنتهج الحداثة والعلمانية وتسييد العقل ونشر المبادئ التي تقتضيها الصناعة، في انتهاج تركيا النظام الرأسمالي، لتكون تركيا نموذجاً لدول الشرق ولكنه أراد لها نظاماً رأسمالياً تابعاً متوّجاً بديمقراطية جوفاء وعلمانية عرجاء.

وأما في العصر الحديث وبعد أن تحولت الرأسمالية إلى رأسمالية خدمية لم تعد تنفعها الحداثة ولا الدول الوطنية ولا العلمانية ولا تسييد العقل، وهنا أيضاً جاء دور الاستخبارات الأمريكية. فمن جهة بدأت بتأهيل رجب طيب أردوغان وتدريب عبد الله غول وعلي باباجان في معهد واشنطن منذ عام 1995. ومن جهة أخرى بدأ مسؤول الاستخبارات الأمريكية غراهام فوللر بدراسة ما يسمى الإسلام المعتدل منذ بداية التسعينيات، وعندما أنهى دراسته وقدم تقريره قام المحافظون الجدد بتأسيس حزب العدالة والتنمية لكي يعمل على تفكيك الدولة التركية وتأسيس دولة تنتهج الإسلام المعتدل وبعد ذلك تصدير النموذج إلى دول الجوار بالطرق اللينة، بينما قام السفير الأمريكي في أنقرة مورتون أبرامويتز وهنري باركي، الذي يجيد التركية كما الأتراك والذي لعب دوراً في تأسيس حكومة رفاه – يول الائتلافية بتحضير الاجتماعات لرجب طيب أردوغان في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقول الباحث مردان ينارداغ والعديد من الباحثين والكتاب الأتراك: عندما ذهب أردوغان إلى الولايات المتحدة الأمريكية كانت تنتظره لقاءات مع مؤسسة راند كوروبورايشين Rand Corporation التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ومؤسسة ليهمان براظرز للوساطة Rehman Brothers (ستفلس شركة التمويل العملاقة هذه عام 2008 ما يشعل فتيل أزمة اقتصادية عالمية). وفي نهاية اللقاءات سيتعرف أردوغان على مسؤولي المؤتمر اليهودي الأمريكي (American Jewish congrees) وسيتبادل الآراء معهم حول الشرق الأوسط والعلاقات التركية الإسرائيلية".

حزب العدالة والتنمية هو نتاج مشروع الشرق الأوسط الكبير وسياسة الإسلام المعتدل الذي تم إنتاجه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. إنه مشروع سياسي تم التفكير به والتخطيط له في واشنطن وتم تنفيذه في أنقخك رة. ولا يمكن التفكير بتخلي أمريكا عن الوسائل الوظيفية بشكلٍ جدّي كحزب العدالة والتنمية ما لم تغيّر سياسات الإسلام المعتدل ومشروع الشرق الأوسط الكبير.

  • فريق ماسة
  • 2018-04-26
  • 10644
  • من الأرشيف

يدّعون أنهم حثيون وسمّوا اللواء هاتاي لغياب حرفي الحاء والثاء من لغتهم.... ماهو الدور المرسوم لتركيا

تبحث مجتمعاتنا اليوم عن أسئلة أنتجتها التغيرات الكبرى التي جرت في أوروبا القرن التاسع عشر، وهي أسئلة متعددة الجوانب وليس من الخطأ القول إنها جميعها ناجمة عن الاضطرابات الاجتماعية التي خلقتها الثورة الصناعية. فلقد عاشت الدول الغربية ثورتها الصناعية مع البحث عن تسييد العقل وخلق القوميات والحرية والإجراءات التي تحد من الصراعات الطبقية. ولكن عملية البحث هذه، وكنتيجة منطقية للنظام الاقتصادي للرأسمالية، لم تمنع من قيام إمبراطوريات استعمارية كبرى، وفي القرن العشرين وبعد حربين عالميتين تمت تصفية الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة نسبياً، وأما القسم الأكبر من البشرية التي لم تتخلص من تخلفها الاقتصادي فقد بدأت التفكير في هويتها الذاتية ضمن شروط جديدة جداً. بدأت النزعة القومية في أوروبا كحركات تحررية ولكن مع تحول الرأسمالية إلى صيغتها الإمبريالية في نهايات القرن التاسع عشر واتخاذ الدول الإمبريالية صيغة الأمم الواجب عليها نشر الحضارة في الدول المتخلفة، فقدت هذه النزعات التحررية والقومية قيمتها ووظيفتها وتحوّلت إلى مبادئ لتبرير السياسة التوسعية للدول الإمبريالية. تركيا كانت مختلفة من هذه الزاوية عن العالم الغربي من جهة وعن مجتمعات المستعمرات من جهة أخرى، فمن جهة وجود كوادر الإمبراطورية التي استمرت حتى القرن العشرين أمرٌ يقرّبها من النظام الغربي، ولكن من جهة أخرى نجد أن الإمبراطورية العثمانية هي إمبراطورية من النمط القديم وهي في ذلك مختلفة عن الإمبراطوريات الحديثة التي نتجت عن النظام الرأسمالي والمتشكلة من "مراكز" و"أطراف".  ومن جهة أخرى فقدان الإمبراطورية العثمانية لاستقلالها الاقتصادي والسياسي قرّبها أكثر من الدول المستعمَرة. وهكذا تطورت المشكلة القومية عند الأتراك ضمن هذا الوضع المتناقض الناتج عن هذه الشروط الموضوعية. وحتى اليوم لم يتغلب الأتراك على مشاكل الهوية والقيم المتعلقة بموضوع موقعهم  في العالم. الناجمة عن هذا الوضع المتناقض. مع فقدان الدولة العثمانية استقلالها الاقتصادي فقدت أيضاً استقلالها الثقافي، ولهذا السبب تشكلت الأفكار والمشاعر المتعلقة بمسألة الهوية ضمن الضوابط والإيديولوجيات التي خلقتها الثقافة الغربية. خلال القرن التاسع عشر، استعان العلماء بفكرة العرق ليس فقط لتصنيف الناس، بل لتبرير العبودية من خلال تصوير الأفارقة على أنهم جنس أدنى، فمنذ أن عمل عالم الأحياء السويدي كارلوس لينيوس، الذي أعلن في عام 1758 على إمكانية تقسيم البشر إلى أعراق هي الأبيض (الأوروبيين)، والأحمر (الأميركيين الأصليين)، والأسود (الأفارقة)، والأصفر (الآسيويين). وألصق بكل الأعراق، باستثناء العرق الأبيض، صفات شخصية ثابتة. خلال العقود التالية، تجادل العلماء، الذين كان أسلافهم أوروبيين، حول ما إذا كان الله قد خلق كل عرق على حدة بشكل منفصل، أم أن البشر من أصل واحد لكنهم انقسموا إلى أعراق. جون كاسبر لافاتر وعلم الفيسيونومي يمكن فهم شخصية البشر من خلال خطوط وجوههم أنتجت الأبحاث التي أجريت على الأعراق نوعين من الهواجس: الهاجس العلمي والهاجس الأيديولوجي، فلقد تابع العلماء قوانين الطبيعة وطرحوا عدداً من الأسئلة: هل يمكن تقسيم البشر إلى أجناس اعتماداً على خصائصهم البيولوجية؟ وإن كان هذا متاحاً فما هي الأعراق الموجودة؟ وهل هذه الأعراق متساوية فيما بينها؟ هل يمكننا النظر إلى وجود علاقة بين الأعراق والحضارات عبر التاريخ؟ ولكنهم لم يتوصلوا مطلقاً إلى أجوبة على هذه الأسئلة. وعندما وضعوا أطروحاتهم كانت تحمل مواصفات الفرضية فقط. مقابل ذلك نجد الأيديولوجيين عملوا على فرض ونشر معتقد محدد من خلال إعطاءه الصبغة العلمية.. يتلخص هذا المعتقد بأن تفوق الحضارة الغربية ليس نتيجة عوامل جغرافية أو تاريخية أو اقتصادية محددة بل، نتائج خصائص بيولوجية محددة، أي أن الأوربيين متفوقين حضارياً بسبب تفوقهم العرقي، ثم انتشر هذا الاعتقاد في الأدب والشعر والموسيقى، ومع مرور الوقت ترسّخ هذا الاعتقاد في أدمغة الناس غير الغربيين أيضاً. أثر هذا الفكر في الدولة العثمانية من خلال المستشرقين وبشكلٍ خاص من خلال علماء دراسة السلالات التركية أو التركولوجيين.. فلقد تطور الوعي القومي في الدولة العثمانية في مرحلتها الأخيرة متأثراً بالتركولوجيا أحد فروع الاستشراق. وهو فرع تطور بشكل مرتبط بالصينيولوجيا الذي أسسه الرهبان اليسوعيين في القرن السابع عشر. فلقد أدت معرفة المصادر الصينية وزيادة المعلومات حول أتراك آسيا الوسطى على ظهور العديد من المعلومات حول تاريخهم، وبعد ذلك تم تأسيس الجمعية الآسيوية وإصدار المجلة الآسيوية عام 1822 ما سرّع وتيرة الاستشراق وزاد من أهمية التركولوجيا. ولكن أهم عمل أثر في ولادة النزعة التركية في الدولة العثمانية فهو كتاب "مدخل إلى تاريخ آسيا، الأتراك والمغول" للباحث ليون جيهون الذي أصدره عام 1896.  علما أنه لم يكن عالماً في التركولوجيا حتى أن المصادر الفرنسية تعرِّفه على أنه أديب. ولكن ربما السبب في انتشار الكتاب وشدة تأثيره هنا هو أن النزعة التركية كانت قد انتقلت من الحيّز الثقافي لتصبح حركة سياسية. وكان ليون جيهون على علاقات مباشرة مع المعارضة العثمانية الموجودة في أوروبا وكان يعمل على التأثير بها، ولذلك لا تزال الأبحاث التركية تتساءل فيما إذا كان لهذا الباحث مهمة سياسية ما أم لا؟ لا يوجد أية معطيات حول هذا الموضوع ولكن ما جاء في الكتاب وتأثيره على النزعة التركية يثير التفكير بعض الشيء. لم يقدم جيهون معلومات عن تاريخ الأتراك فقط بل قدّم تقييمات وأعطى وجهة نظره. حيث تحدث عن أنهم ليسو أصحاب عقل بل أصحاب قلب ولا يمتلكون القدرة على صنع الحضارات ولكنه في الوقت نفسه وجّه المديح لهم على اعتبارهم "أصحاب روح حربية مقاتلة" و"شجعان" و"أصحاب حسٍّ سليم" ودخولهم الإسلام،حسب الكاتب، لم يعطِ نتائج إيجابية من حيث ذكائهم وانتماءهم القومي وصاروا ممثلي آسيا المسلمة ضد أوروبا المسيحية، ووضع هؤلاء الناس، أصحاب القلوب القوية والذين يفخرون بانتمائهم القومي، كل طاقاتهم في خدمة الأجانب". وأما الشخصية الاستشراقية الثانية التي أثرت أيّما تأثير في النزعة التركية في أواخر عهد الدولة العثمانية فهو المجري اليهودي أرمينوس فيمبيري (1832 – 1913) الذي أمضى سنوات طوال داخل الدولة العثمانية، وقد أولى اهتماماً كبيراً بأتراك آسيا الوسطى، وكان يساند الانكليز ضد الروس ومن أجل هذا الهدف تجوّل في آسيا الوسطى بهيئة درويش وجمع معلومات كثيرة حول أتراك آسيا الوسطى ولفت الانتباه إلى العلاقة الكبيرة بين اللغتين التركية والمجرية وكان يدعم المشروع اليهودي وهو الذي أمّن اللقاء بين مؤسس الصهيونية ثيودرور هرتزل والسلطان عبد الحميد عام 1901. لم تكن مصطلحات "العرق" و"الأمة" موجودة لدى الدولة العثمانية. وبقي مفهوم التاريخ لدى العثمانيين حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر عبارة عن تاريخ مقدس يعتمد على حكاية متسلسلة، وضمن هذا المفهوم كانوا يرجعون بشجرة نسبهم إلى يافث ابن النبي نوح، وضمن هذا التاريخ المقدس المعتمد على التسلسل الزمني كان لفظ "تركي" يستخدم لوصف القرويين أو العشائر التركمانية يصاحبها كلمة "فج" و"جاهل"، وأما كلمة ملة التي كانت تُستخدم لوصف المسيحيين واليهود فلم تكن تعني قومية محددة حسب التعريف الحديث للقومية بل كان تدل على الجماعة الدينية. وأما ظهور "مسألة الهوية" لدى العثمانيين فقد ظهرت في نهايات القرن الثامن عشر عندما واجهت الإمبراطورية مشاكل جديدة تقف حائلة دون قدرتها على الاستمرار. عندما بدأت تخسر الحروب وبدأت تنتعش الحركات القومية داخل الدولة العثمانية والتي كان العثمانيون ينظرون إليها على أنها عامل خطر على وحدة الأراضي العثمانية، ولذلك عملت الطبقة الإدارية في الدولة العثمانية على منع الشعوب العثمانية من البحث عن تطوير النزعات القومية لديها وكانت تواجهها بالقمع أحياناً وببعض الإصلاحات أحياناً أخرى – مع عملهم في السر على تطوير النزعة التركية – ولم تظهر النزعة التركية كتيار سياسي حتى عام 1911. ولكنها وقعت تحت تأثير الشكل الذي أخذته النزعات القومية في نهايات القرن التاسع عشر، وبعبارة أكثر دقة، لم تقع تحت تأثير مبادئ فلاسفة عصر التنوير بل تحت تأثير النزعات القومية التوسعية والعرقية، مع فارق مهم جداً وهو أن البنية الاجتماعية الاقتصادية للأتراك كانت مختلفة جداً عن البنية الاجتماعية الاقتصادية للدول الأوربية. وفي الوقت ذاته بدأت عملية فكرية تبحث عن الأصول الأتنية للعثمانيين، ولكن هذه الأفكار لم تتحول إلى حركة أو تيار سياسي لأنه كان ينظر إليها على أنها ذات أثر تقسيمي انفصالي. واقتصرت على البحث في "أصول الأتراك" و"اللغة التركية". في الحقيقة لم يكن المثقفون في الدولة العثمانية، التي تنظر إلى نفسها على أنها "عثمانية" و"مسلمة"، يمتلكون أي إرث ثقافي ينجدهم في بحثهم عن الهوية بينما كان الغرب قد أكمل بناء ترسانته الفكرية التي يمكنه الاستناد عليها في بحثه، خاصة وأنهم جميعهم غير مستقلين عن هيكلية دولة ويجمعهم هدف مشترك هو "إنقاذ الدولة". درست أوروبا، التي أنتجت العرقية الحديثة، تاريخها الخاص بها بناء على ضوابط ثقافية أنتجتها بنفسها كالأنثروبولوجيا وعلم اللغة وعلم الآثار، ولكن الأبحاث التي أجرتها حول الأعراق لم تسعفها في إيجاد أسس عرقي للحضارة الأوروبية وخرجت بنتيجة تقول إن الأمم الأوروبية تمتلك قاعدة إثنية معقدة إلى أبعد حد. وبالرغم من كل ذلك استمرت هذه العرقية إلا أنها لم تصبح رأياً سائداً بكل ما للكلمة من معنى. ويمكن أن نستثني من ذلك الأفكار العرقية في ألمانية النازية التي لم تنتشر بسبب قوتها الفكرية والمعنوية بل بسبب الشروط السياسية والاقتصادية الخاصة بها. وكما نظر العديد من الانتروبولوجيين والفلاسفة إلى أن الأمم الأوربية نتاج تركيب اثني معين، كذلك الأمر نظروا إلى الأتراك بنفس المنظور. فالغرب، الذي لم يجد أسساً عرقية لحضارته بدأ يدافع عن هذه الحضارة على أسس "ثقافية"، وهنا وجد ما يميّزه عن بقية الحضارات والشعوب. وفعلاً عندما كان يطرح العرقية في القرن الثامن عشر كان في الوقت نفسه يطور مبادئه فيما يخص "سيادة الشعب" و"فصل السلطات" و"حرية الرأي". ولهذا السبب ركّز انتقاده على الشرق ليس كعرق أدنى وحسب، بل لأنه لا يعتمد على سيادة الشعب ولأنه ليس حراً وباختصار لأنه "استبدادي". وطبعاً لم تكن هذه الانتقادات موضوعية ونزيهة دائماً. ولكنها أصبحت هي الفلسفة الرسمية للغرب. وأما المثقفين العثمانيين فقد انتهجوا هذه الفلسفة ذاتها ولكن بدل أن ينتقدوا المجتمع العثماني من زاوية الديمقراطية والحرية بدؤوا عملية البحث عن عرقهم، وبدؤوا البرهنة والحديث عن أن الأتراك أسسوا العديد من الحضارات، وانقسموا إلى كابي كولو القصر من جهة وحزب معارضة داخل الزمرة الحاكمة. استفاد أصحاب النزعة التركية في الدولة العثمانية من الأبحاث الأنثروبولوجية وأبحاث علم اللغة الموجودة في الغرب ولكنهم اعتمدوا يشكلٍ أساسي على التركولوجيا. فنجد مصطفى جلال الدين باشا (اسمه الحقيقي قسطنطين بورزيسكي) عام 1869 يحاول في كتابه "الأتراك القدامى والجدد" معتمداً على معطيات علم اللغة، البحث والبرهنة على أن الأتراك من العرق "الطورو – آري" دون امتلاكه منهجاً واضحاً وسليماً في بحثه. بينما نجد ميزانجي مراد أفندي يقول بأن "الأتراك فرع من العرق الهندو أوروبي". في الحقيقة طوال هذه المرحلة لا نرى إلاّ تأثير علماء التركولوجيا من المستشرقين الغربيين. انهيار الدولة العثمانية ودخول الأمة التركية في صراع من أجل الاستقلال خلقت شروطاً جديدة فيما يخص الوعي القومي ومسألة الهوية. فمع موت الأحلام ببقاء الإمبراطورية ذهب معها ومات مصطلح "الأمة المقاتلة" أو "الأمة الإدارية أو الحاكمة" ليحل محله وعي جديد تحت مصطلح "الأمة المظلومة"، وفعلاً استطاع قائد حرب التحرير الوطنية مصطفى كمال أتاتورك أن يقدم الأمة التركية للرأي العام العالمي على أنها أمة مظلومة وأعلن أنه سيدافع عن حقوق هذه الأمة وبذلك استطاع القيام بثورة ثقافية من شأنها فتح الطريق أمام تغييرٍ مهم جداً في الذهنية التركية. ومن أجل تحقيق هذا الموضوع اقتضى الأمر القيام بتحليل اجتماعي واعتماد معطيات تاريخية لدعم هذا الفكر الجديد، وقد حقق أتاتورك تطوير أسس هذا التحليل خلال سنوات حرب التحرير. فطالما تم الادعاء بأن الأمة التركية "أمة مظلومة" إذاً يجب إظهار والكشف عن ظالمي هذه الأمة. وقد كان أتاتورك يرى أن هؤلاء الظالمين يمكن إدراجهم تحت عنوانين، القوى الداخلية والقوى الخارجية، وهما في حالة تحالف مع بعضهما البعض. وأما القوى الخارجية فهي الإمبريالية التي تحاول القضاء على حرب الاستقلال الوطني من أجل السيطرة على تركيا. وهذا الأمر كان واضحاً بالنسبة للجميع، ولكن من هي القوى الداخلية؟ تحدّث أتاتورك عن رؤيته حول هذا الموضوع في المؤتمر الاقتصادي في إزمير المنعقد بتاريخ 17 شباط 1923. حيث قال: "كافة الجهود والأعمال في الدولة العثمانية لم تكن من أجل تلبية آمال الأمة ومتطلباتها واحتياجاتها الحقيقية بل كانت من أجل تلبية الاحتياجات والأطماع الخاصة لهذا وذاك من الأشخاص" وأما بالنسبة للتاريخ العثماني، فلم يُكتب عن الشعب ولم يُكتب التاريخ الحقيقي بل كُتب عن السلاطين والزمرة الحاكمة حيث يقول: "لم يكن التاريخ العثماني من أوله لآخره سوى تأريخ للأعمال وتحركات الأشخاص والسلاطين والزمرة الحاكمة". شكلت هذه الأفكار فلسفة حرب التحرير في تلك المرحلة. طبعاً لم يكن من الممكن الحديث بلغة أخرى في فترة كان يخوض فيها حرباً حياتية ضد الإمبريالية من جهة وضد شركائها في الداخل أي الدولة العثمانية. كان أتاتورك يقول: "لا يوجد أية علاقة بين تركيا الجديدة وتركيا القديمة.. فالدولة العثمانية طويت في صفحات التاريخ، واليوم ولدت تركيا جديدة بدلاً منها". حتى أن كوادر الدولة ومفكريها بدؤوا في مرحلة فكرية جديدة لدرجة أن ضيا غوكالب مؤسس النزعة التركية، تخلى عن طورانيته وقال: "لا أحد يعطي للنزعة التركية صفتها الرسمية ويستطيع تطبيقها بشكلٍ حقيقي سوى الغازي مصطفى كمال باشا. بالرغم من كل الإصلاحات التي أجراها أتاتورك بقي أصحاب النزعة القومية التركية تحت تأثير الأفكار العرقية الغربية، فهاهو فؤاد كوبرولو مؤرخ النزعة التركية يطرح موضوعاً سجالياً يحاكي الاستشراق الغربي حيث يحاول إثبات إسهامات أتراك الأوزبك في حضارات القرون الوسطى، وباختصار بقيت أفكار القومية الاتحادية ذات تأثير قوي في السنوات الأولى للجمهورية، وكانت النوادي القومية التي كانت موجودة عام 1930 وعددها 257 نادٍ تشكل حلقة وصل بين أيديولوجيا ما قبل حرب التحرير وأيديولوجيا ما بعد حرب التحرير.  أضف إلى ذلك أننا نصادف الآراء الأولى لفكرٍ جيد في نهاية العشرينات، فقد ألقى رشيد صفوت (أتابينن) محاضرة في بودابست عام 1929 قال فيها أن النزعة التركية وصلت مع أتاتورك إلى مرحلة الوعي التام، وأن أتاتورك وضع برنامجاً واضحاً من أجل أتراك الأناضول ويضيف: "لقد أثبتت الدراسات العلمية أن الأتراك هم أول من وضع أسس الحضارات الأقدم في العالم كالحضارة المصرية والحضارة الصينية وحضارة ما بين النهرين. فعلاً هذه الأفكار تعبّر عن فكرٍ جيد بدأ ينتشر في تركيا حول هوية الأتراك ومكانتهم في العالم. وقد تم تنظيم هذه الأفكار من خلال الانتقال من نوادي النزعة التركية إلى مجمع التاريخ التركي، وقد عبّر هذه الفكر عن نفسه بكل وضوح في مؤتمر التاريخ التركي الثاني المنعقد عام 1937. عبّرت البروفيسورة عائشة عفت إنان (ابنة أتاتورك بالتبني) عن هذا التفكير بكل وضوح حين قالت: "المهد الأول لكافة الحضارات العليا في العالم هو الوطن الأم للأتراك في آسيا الوسطى، والذي أسس هذه الحضارات ونشرها في كافة أنحاء العالم هم الأتراك" وقد اكتمل هذا الفكر من خلال وضع نظرية الشمس التي تقول بأن اللغة التركية هي أول وأم اللغات في العالم ومنها اشتقت بقية اللغات من خلال نشر الأتراك لحضارتهم. ولكن ما هي الأدلة العلمية على هذه النظريات؟ في الحقيقة لا يوجد أي سند علمي لها إلا الأبحاث الأوربية التي أجريت حول العرق واللغة، ولكن من أهم الشخصيات التي فتحت الطريق لبزوغ هذا الفكر هو الأنثربولوجي السويسري يوجين بيتارد (أستاذ عائشة عفت إنان في تحضير رسالة الدكتوراه)، الذي اقترح على جمعية التاريخ التركية التي تأسست عام 1924، أن يبحثوا في الجذور الأثنية للأتراك، وفي العام الذي تأسس فيه مجمع التاريخ التركي تحت اسم "جمعية تدقيق وبحث التاريخ التركي" أصدر كتاباً بعنوان "المظهر الجديد لتركيا"، وفي مؤتمر التاريخ التركي الثاني المنعقد عام 1937 شارك كرئيس فخري للمؤتمر. جدد بيتارد في التقرير الذي قدمه في هذا المؤتمر أطروحة قديمة له حيث يقيم علاقة بين أقدم عرق قام بثورة العصر الحجري الحديث وبين شعب الأناضول ويعلن بأن الأناضول هي الأرض المقدسة التي كانت مصدر كل الحضارات. ويضع الأنثروبولوجي السويسري بيتارد فرضية تلفت الانتباه إلى العرق الذي أقام أقدم حضارة في آسيا الوسطى ويتحدث عن تركيبة واستمرارية لشعب هذه المنطقة، فبالإضافة إلى زعمه أن السومريين والحثيين كانوا أتراكاً، يؤكد أن الأتراك الذين يعيشون اليوم في الأناضول عبارة عن تركيب راسخ تصل جذوره إلى السومريين والحثيين. وبالرغم من أن بيتارد لم يجد لمزاعمه أية مكتشفات تاريخية تثبتها إلاّ أنها أخذت شكل الحقيقة المطلقة لدى أطروحة التاريخ التركي، وتطبق البروفيسورة عائشة عفت إنان أفكار بيتارد على الشكل التالي: "لم يبدأ تتريك الأناضول في القرن الحادي عشر كما يعتقد البعض، بل تم تجديد دماء الأناضول في القرن الحادي عشر بموجات هجرة لعناصر ينتمون لنفس عرق السكان الأصليين في الأناضول وهم الأتراك، وعام 1071 يدل على اللقاء الذي جرى بين الأتراك المسلمين في الأناضول مع أخوتهم". وطبعاً هذا هو السبب الذي يقف وراء تسمية لواء إسكندرون بـ هطاي أي حثاي وتعني أرض الحثيين الأتراك. بالرغم من هذه العرقية المتشددة للتاريخ التركي كانت لثورات أتاتورك أثر هام جداً كان من شأنها خلق بورجوازية صناعية حقيقية وبالتالي رأسمالية حقيقية تنافس الغرب وقد تصل شراراتها إلى دول المشرق كلها وهذا ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي العمل سريعاً لتهيئة الظروف لوصول عدنان مندرس إلى السلطة في تركيا في الانتخابات التي جرت بتاريخ 14 أيار عام 1950 بعد تأسيس الحزب الديمقراطي بتاريخ  7 كانون الثاني 1947. ليبدأ بعدها ليفرّغ أسس العلمانية التركية من معناها ويجعلها علمانية جوفاء وأطلق العنان للطرائق الدينية ويعيد الاعتبار لسعيد النورسي مؤسس الطريقة النورجية ومعلم الداعية الديني فتح الله غولن ويغلق معاهد القرى. وفي عام 1950 يدخل حرب الكوريتين إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وينال على أثرها شرف العضوية التامة في حلف الناتو عام 1952، لتبدأ تركيا دورها الحقيقي كمخفر متقدم وأول ما قامت به هو تأسيس منظمات السوبر ناتو التي كان لها فرعان هما اتحاد الطلبة القوميين الأتراك التي من أعضائها رجب طيب أردوغان وباقي فريق حزب العدالة والتنمية، وجمعيات مكافحة الشيوعية التي كان فتح الله غولن أحد رؤساء إحدى هذه الجمعيات وطبعاً كانت الشخصيات الدينية وأقصد هنا الدين السياسي تتربى وتتأهل في مدارس فتح الله غولن التي يزيد عددها على 600 جامعة ومدرسة في كافة أنحاء العالم باستثناء الصين وإيران وسوريا. هناك من يقول أن عدنان مندرس ساهم بنهضة صناعية في بلده ولكن يجب ألا ننسى أن التطور التقني ليس بعدد المصانع بل بالذهنية التي تقف وراء هذه المصانع. في الحقيقة لعب عدنان مندرس دوراً هاماً من أجل استمرار وقوف الذهنية الدينية الإقطاعية وليس العلمانية البورجوازية، خلف الآلات التي تنتج الصناعة في تركيا. خاتمة: ما أردت قوله من خلال حديثي هذا بعد الإشارة بدقة إلى تصريحات أغلب المسؤولين الأمريكيين وآخرهم مادلين أولبرايت، تلك التصريحات التي تتمحور حول: "إن تركيا بلد مهم لدرجة يجب عدم تركه للأتراك"، ما أردت قوله هو أن الغرب الرأسمالي لا يمكنه التخلي عن تركيا مهما جرى على اعتبارها الجدار الفاصل بين الغرب والشرق وعلى اعتبارها مخفر متقدم للإمبريالية الغربية والأمريكية لمحاصرة الاتحاد السوفيتي سابقاً وروسيا اليوم من جهة ومنع أية حركات تحررية أو مضايقة أية أنظمة تحررية ترفض الانصياع لإملاءات الإمبريالية الأمريكية. فكما ورد معنا لعب الاستشراق دوراً هاماً في صياغة الأفكار القومية التركية من خلال أبحاث ليون جيهون وأرمينوس وفيمبيري يوجين بيتارد، الذي كان كتابه "المظهر الجديد لتركيا" بمثابة النظام الداخلي للقومية التركية، كما لعب الغرب الرأسمالي، عندما كان في طور الرأسمالية المنتجة التي تنتهج الحداثة والعلمانية وتسييد العقل ونشر المبادئ التي تقتضيها الصناعة، في انتهاج تركيا النظام الرأسمالي، لتكون تركيا نموذجاً لدول الشرق ولكنه أراد لها نظاماً رأسمالياً تابعاً متوّجاً بديمقراطية جوفاء وعلمانية عرجاء. وأما في العصر الحديث وبعد أن تحولت الرأسمالية إلى رأسمالية خدمية لم تعد تنفعها الحداثة ولا الدول الوطنية ولا العلمانية ولا تسييد العقل، وهنا أيضاً جاء دور الاستخبارات الأمريكية. فمن جهة بدأت بتأهيل رجب طيب أردوغان وتدريب عبد الله غول وعلي باباجان في معهد واشنطن منذ عام 1995. ومن جهة أخرى بدأ مسؤول الاستخبارات الأمريكية غراهام فوللر بدراسة ما يسمى الإسلام المعتدل منذ بداية التسعينيات، وعندما أنهى دراسته وقدم تقريره قام المحافظون الجدد بتأسيس حزب العدالة والتنمية لكي يعمل على تفكيك الدولة التركية وتأسيس دولة تنتهج الإسلام المعتدل وبعد ذلك تصدير النموذج إلى دول الجوار بالطرق اللينة، بينما قام السفير الأمريكي في أنقرة مورتون أبرامويتز وهنري باركي، الذي يجيد التركية كما الأتراك والذي لعب دوراً في تأسيس حكومة رفاه – يول الائتلافية بتحضير الاجتماعات لرجب طيب أردوغان في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقول الباحث مردان ينارداغ والعديد من الباحثين والكتاب الأتراك: عندما ذهب أردوغان إلى الولايات المتحدة الأمريكية كانت تنتظره لقاءات مع مؤسسة راند كوروبورايشين Rand Corporation التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ومؤسسة ليهمان براظرز للوساطة Rehman Brothers (ستفلس شركة التمويل العملاقة هذه عام 2008 ما يشعل فتيل أزمة اقتصادية عالمية). وفي نهاية اللقاءات سيتعرف أردوغان على مسؤولي المؤتمر اليهودي الأمريكي (American Jewish congrees) وسيتبادل الآراء معهم حول الشرق الأوسط والعلاقات التركية الإسرائيلية". حزب العدالة والتنمية هو نتاج مشروع الشرق الأوسط الكبير وسياسة الإسلام المعتدل الذي تم إنتاجه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. إنه مشروع سياسي تم التفكير به والتخطيط له في واشنطن وتم تنفيذه في أنقخك رة. ولا يمكن التفكير بتخلي أمريكا عن الوسائل الوظيفية بشكلٍ جدّي كحزب العدالة والتنمية ما لم تغيّر سياسات الإسلام المعتدل ومشروع الشرق الأوسط الكبير.

المصدر : الماسة السورية/أحمد الإبراهيم باحث متخصص بالشأن التركي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة