وميض قويّ يصعق عينيّ سائق السيارة المسرعة على أوتوستراد المزّة بعد منتصف الليل. الكاميرا التقطت لوحة السيّارة، وصباحاً تُسجّل المخالفة في «فرع المرور». حركة السير خفيفة، بعد نهارٍ طويل أمضاه السوريون في شوارع دمشق وأسواقها، يستعدّون لعطلة عيد الأضحى.

شرطيّ السير في ساحة الأمويين مثابر على عمله، والساحة المضاءة تسمح له برؤية المخالفين من بعيد، فيكمن لمن يتحدّث على الهاتف أثناء القيادة، ومن يُهمل حزام الأمان، ومن يظنّ أن فوق رأسه «ريشة» ولا يريد الالتزام بقرار نزع الزجاج العازل من دون ترخيص. وهو، لا يأبه إلّا لسلطة الدولة، فيُحرّر المحاضر ولا يناقش، وليعترض المعترضون عند من يدعمهم... إن وُجد من يجرؤ. هيبة الدولة فوق كلّ اعتبار.

 

في الطريق من ميسلون إلى قلب العاصمة السورية، تبدو من بعيد بلدات ريف دمشق الجنوبي الغربي، المعضميّة وداريا وعرطوز والجديدة وأطراف خان الشيح، مضاءة رغم الدمار والحرب والرّكام. هناك ما يكفي من الكهرباء، بعد سبع سنوات حرب، للقول إن الإرادة أقوى من الظروف، وأمضى من التآمر، وأكثر جذرية من الإرهاب. شرطيّ السير والكهرباء وعمّال النظافة والحدائق التي عادت إليها روحها، أبسط مظاهر الدولة الراسخة في سوريا.

 

فاضلة المدن

 

خير الغوطة يعود دفقاً إلى دمشق. في سوق «التنابل» في الشعلان، البلاد تعجّ على طاولات الباعة. خُضَر من الغوطة وتين من جبل الشيخ وعنب من السويداء وبطيخ من درعا، وفاكهة صيفية دافئة من الساحل، وفستق حلبي من حماة وحلب. ألوف مؤلّفة من السوريين والدمشقيين في المدينة التي تنبض بأكثر من ستّة ملايين نسمة، يجوبون الشوارع، من ساحة عرنوس والسبع بحرات والحريقة والشعلان، إلى مدحت باشا وسوق الحميدية، إلى حي الميدان وساحة المرجة وساحة الجلاء.

 

 

شرطيّ السير والكهرباء أبسط مظاهر الدولة الراسخة

 

قذيفة «الهاون» تركت وسماً على أرض الزاروب قرب باب توما. حفرة صغيرة وآثار شظايا. مخالب وحش حَفرت في حجر الأرضية العتيقة قبل أكثر من عام. استشهد هنا خمسة مدنيين، وأكمل بعدها الآخرون توقهم إلى الحياة. الليل في المدينة القديمة طقسٌ من الفرح، لم يرهبه خوف ولا موت. حانات ومطاعم وزوايا سهر وموسيقى تضجّ بزوارها. وآخرون في المدينة يحتفلون بالعيد على طريقتهم، يذبحون الأضاحي في الشوارع، ويوزّعون على المحتاجين... وما أكثرهم.

ألم يتوقّع المشاركون قبل أسبوع، في معرض دمشق الدولي، انتحارياً يغتالهم أو قذيفة هاون تصطادهم، بتوقيع إرهابيين في عين ترما أو عربين القريبة؟ بلى. توقّعوا. لكنّهم ذهبوا، بالسيارات والشاحنات والدراجات وسيراً على الأقدام.

ثمّة ما تغيّر هنا. في العام الماضي، عطشت دمشق يوم هدّد الإرهابيون بتفجير نبع بردى، وقُطع عنها النفط في عزّ البرد. عيون الناس فيها تعب ألفي عام، وعذابات أحبائهم المفقودين وبيوت مهدّمة وتهجير من أقاصي البلاد وقلبها، جراح لا تضمدها أزمنة، فقراء ومعوزون، وسوريون بعضهم ينامون جوعى... (ومن قال إن سوريّاً واحداً قد يجوع يوماً؟). رغم ذلك، حزن المدينة تخدّره الابتسامات، ولهفة الناس بعضهم على بعض. دمشق ليست المدينة الفاضلة، لكنّها فاضلة المدن.

 

جوبر

 

أصوات بضع قذائف مدفعية تنطلق من قاسيون، تقضّ هدوء المدينة في صباح العيد. الغبار يرتفع في جوبر الملاصقة لساحة العباسيين، ثم يدوّي الصوت مجدداً، وتطير الحمامات الممشحة واليمامات البنية، صوب المدينة الآمنة. الجيش، في العام الماضي، حفر خندقاً بعمق خمسين متراً وعرض أربعة أمتار حول تماس جوبر مع العاصمة، بقِطْرٍ من حوالى 3 كلم، وأغرقه بالمياه. إنها الطريقة الوحيدة، لقطع أنفاق الإرهابيين نحو العاصمة. وهم لجأوا إلى الهاون والصواريخ لتهديد العاصمة، باسم الحرية. الآن، انتهى التهديد من غالبية الأحياء الجنوبية، سوى جوبر وعين ترما شرقاً، ومخيم اليرموك والحجر الأسود جنوباً. لكن التسوية فى جوبر معلّقة، كيف؟ ولماذا؟ القطريون؟ السعوديون؟ أميركا؟ لا وضوح، المهم أن تبقى ورقة ضغط على دمشق، ولو يائسة.

الجيش الآن ينفّذ عملية عسكرية في الحي، ويسيطر على كتل وأبنية، متقدماً في عمق جوبر وعين ترما. والإرهابيون في جوبر يعاندون «جهاز المناعة»، في جرح يتعافى كل يوم ويتقلّص الاحمرار حوله.

 

طمأنينة لا «عنجهية»

 

باكراً، في صباح العيد، اتخذت الأجهزة الأمنية إجراءات مشدّدة في محيط مساجد العاصمة البارزة. بدا كأن الرئيس بشّار الأسد سيصلّي صلاة العيد في أحدها. قرّر الرئيس أن يسجد خلف إمامٍ في مسجد في قارة، أبرز قرى القلمون الغربي، معلناً اطمئنانه الكامل للحدود اللبنانية ـــ السورية. لم تكن قارة أصلاً بلدة للمسلّحين، احتلوها أوّلاً بترهيب الوطنيين من أهلها، وجرف الضعفاء منهم بالمال والخوف والنفاق إلى شرك العداء للدولة. مثلها مثل غالبية قرى القلمون الغربي، التي يعود أهلها المهجرون إليها. الدولة التي يرأسها الأسد ليست «نظاماً علوياً» ولا «نصيرياً». لو كانت كذلك، لسقطت باكراً. «النظام السوري» هو أدقّ توصيف للدولة السورية، وهو صورة عن المجتمع حتى عن توزيعه الديموغرافي. الحرب خيضت بكتلة واحدة: الدولة والمجتمع والجيش. كثيرون لا يفهمون طبيعة الجيش السوري. دوره طوال حكم الأسد الأب، كان مدنياً أكثر منه عسكرياً. بناء لحمة وطنية وانعكاس فعلي للمجتمع. أثمر الزرع.

القيادة السورية طوال الأزمة لم تكن أكثر اطمئناناً من الآن. ولهذه الراحة النفسية توصيفها، حتى لا تتحوّل إلى عنجهية توقع أصحابها في وهم القوّة. تدرك القيادة محورية سوريا، وأن الحرب عليها لم تتوقّف منذ فجر التاريخ، ولن تتوقّف.

يقول أحد القادة الأمنيين، إن سوريا تمتهن لعبة الوقت، ومنذ الرئيس الراحل حافظ الأسد احترفت إرهاق خصومها. ومثل صبيّة نذرها أهلها، لا تُهزم، فتأتي التسويات على حساب أعدائها. وهذه سياسة. سوريا لم تسقط، والآخرون يتخبّطون في أزماتهم الداخلية؛ القطريون والسعوديون والأتراك والأوروبيون. الأميركيون يبيعون ويشترون، وإسرائيل لا تعجبها النتيجة. المنتصرون في الميدان يبتعدون عن الغرور، حتى لا يضيع النصر في السياسة.

أدونيس

قبل أكثر من عقد، سرق بعضهم مصطلح «ربيع دمشق». كان تآمراً معلوماً باسم الربيع. وبعد سنوات، أَكَلَنا الربيع المسروق موتاً وتعصّباً. الآن دمشق تعيش ربيعها. أرضٌ غُمّست بدم أبنائها حتى الباطن، ثمّ قامت كـ«زهرة لوزٍ» في قصيدة نزار، أو كشقيقة نعمان سقاها دم أدونيس الذي قتله الخنزير، فولدت الفصول.

ربيع دمشق، خريف أعدائها.

  • فريق ماسة
  • 2017-09-04
  • 12792
  • من الأرشيف

ربيع دمشق... خريف أعدائها

وميض قويّ يصعق عينيّ سائق السيارة المسرعة على أوتوستراد المزّة بعد منتصف الليل. الكاميرا التقطت لوحة السيّارة، وصباحاً تُسجّل المخالفة في «فرع المرور». حركة السير خفيفة، بعد نهارٍ طويل أمضاه السوريون في شوارع دمشق وأسواقها، يستعدّون لعطلة عيد الأضحى. شرطيّ السير في ساحة الأمويين مثابر على عمله، والساحة المضاءة تسمح له برؤية المخالفين من بعيد، فيكمن لمن يتحدّث على الهاتف أثناء القيادة، ومن يُهمل حزام الأمان، ومن يظنّ أن فوق رأسه «ريشة» ولا يريد الالتزام بقرار نزع الزجاج العازل من دون ترخيص. وهو، لا يأبه إلّا لسلطة الدولة، فيُحرّر المحاضر ولا يناقش، وليعترض المعترضون عند من يدعمهم... إن وُجد من يجرؤ. هيبة الدولة فوق كلّ اعتبار.   في الطريق من ميسلون إلى قلب العاصمة السورية، تبدو من بعيد بلدات ريف دمشق الجنوبي الغربي، المعضميّة وداريا وعرطوز والجديدة وأطراف خان الشيح، مضاءة رغم الدمار والحرب والرّكام. هناك ما يكفي من الكهرباء، بعد سبع سنوات حرب، للقول إن الإرادة أقوى من الظروف، وأمضى من التآمر، وأكثر جذرية من الإرهاب. شرطيّ السير والكهرباء وعمّال النظافة والحدائق التي عادت إليها روحها، أبسط مظاهر الدولة الراسخة في سوريا.   فاضلة المدن   خير الغوطة يعود دفقاً إلى دمشق. في سوق «التنابل» في الشعلان، البلاد تعجّ على طاولات الباعة. خُضَر من الغوطة وتين من جبل الشيخ وعنب من السويداء وبطيخ من درعا، وفاكهة صيفية دافئة من الساحل، وفستق حلبي من حماة وحلب. ألوف مؤلّفة من السوريين والدمشقيين في المدينة التي تنبض بأكثر من ستّة ملايين نسمة، يجوبون الشوارع، من ساحة عرنوس والسبع بحرات والحريقة والشعلان، إلى مدحت باشا وسوق الحميدية، إلى حي الميدان وساحة المرجة وساحة الجلاء.     شرطيّ السير والكهرباء أبسط مظاهر الدولة الراسخة   قذيفة «الهاون» تركت وسماً على أرض الزاروب قرب باب توما. حفرة صغيرة وآثار شظايا. مخالب وحش حَفرت في حجر الأرضية العتيقة قبل أكثر من عام. استشهد هنا خمسة مدنيين، وأكمل بعدها الآخرون توقهم إلى الحياة. الليل في المدينة القديمة طقسٌ من الفرح، لم يرهبه خوف ولا موت. حانات ومطاعم وزوايا سهر وموسيقى تضجّ بزوارها. وآخرون في المدينة يحتفلون بالعيد على طريقتهم، يذبحون الأضاحي في الشوارع، ويوزّعون على المحتاجين... وما أكثرهم. ألم يتوقّع المشاركون قبل أسبوع، في معرض دمشق الدولي، انتحارياً يغتالهم أو قذيفة هاون تصطادهم، بتوقيع إرهابيين في عين ترما أو عربين القريبة؟ بلى. توقّعوا. لكنّهم ذهبوا، بالسيارات والشاحنات والدراجات وسيراً على الأقدام. ثمّة ما تغيّر هنا. في العام الماضي، عطشت دمشق يوم هدّد الإرهابيون بتفجير نبع بردى، وقُطع عنها النفط في عزّ البرد. عيون الناس فيها تعب ألفي عام، وعذابات أحبائهم المفقودين وبيوت مهدّمة وتهجير من أقاصي البلاد وقلبها، جراح لا تضمدها أزمنة، فقراء ومعوزون، وسوريون بعضهم ينامون جوعى... (ومن قال إن سوريّاً واحداً قد يجوع يوماً؟). رغم ذلك، حزن المدينة تخدّره الابتسامات، ولهفة الناس بعضهم على بعض. دمشق ليست المدينة الفاضلة، لكنّها فاضلة المدن.   جوبر   أصوات بضع قذائف مدفعية تنطلق من قاسيون، تقضّ هدوء المدينة في صباح العيد. الغبار يرتفع في جوبر الملاصقة لساحة العباسيين، ثم يدوّي الصوت مجدداً، وتطير الحمامات الممشحة واليمامات البنية، صوب المدينة الآمنة. الجيش، في العام الماضي، حفر خندقاً بعمق خمسين متراً وعرض أربعة أمتار حول تماس جوبر مع العاصمة، بقِطْرٍ من حوالى 3 كلم، وأغرقه بالمياه. إنها الطريقة الوحيدة، لقطع أنفاق الإرهابيين نحو العاصمة. وهم لجأوا إلى الهاون والصواريخ لتهديد العاصمة، باسم الحرية. الآن، انتهى التهديد من غالبية الأحياء الجنوبية، سوى جوبر وعين ترما شرقاً، ومخيم اليرموك والحجر الأسود جنوباً. لكن التسوية فى جوبر معلّقة، كيف؟ ولماذا؟ القطريون؟ السعوديون؟ أميركا؟ لا وضوح، المهم أن تبقى ورقة ضغط على دمشق، ولو يائسة. الجيش الآن ينفّذ عملية عسكرية في الحي، ويسيطر على كتل وأبنية، متقدماً في عمق جوبر وعين ترما. والإرهابيون في جوبر يعاندون «جهاز المناعة»، في جرح يتعافى كل يوم ويتقلّص الاحمرار حوله.   طمأنينة لا «عنجهية»   باكراً، في صباح العيد، اتخذت الأجهزة الأمنية إجراءات مشدّدة في محيط مساجد العاصمة البارزة. بدا كأن الرئيس بشّار الأسد سيصلّي صلاة العيد في أحدها. قرّر الرئيس أن يسجد خلف إمامٍ في مسجد في قارة، أبرز قرى القلمون الغربي، معلناً اطمئنانه الكامل للحدود اللبنانية ـــ السورية. لم تكن قارة أصلاً بلدة للمسلّحين، احتلوها أوّلاً بترهيب الوطنيين من أهلها، وجرف الضعفاء منهم بالمال والخوف والنفاق إلى شرك العداء للدولة. مثلها مثل غالبية قرى القلمون الغربي، التي يعود أهلها المهجرون إليها. الدولة التي يرأسها الأسد ليست «نظاماً علوياً» ولا «نصيرياً». لو كانت كذلك، لسقطت باكراً. «النظام السوري» هو أدقّ توصيف للدولة السورية، وهو صورة عن المجتمع حتى عن توزيعه الديموغرافي. الحرب خيضت بكتلة واحدة: الدولة والمجتمع والجيش. كثيرون لا يفهمون طبيعة الجيش السوري. دوره طوال حكم الأسد الأب، كان مدنياً أكثر منه عسكرياً. بناء لحمة وطنية وانعكاس فعلي للمجتمع. أثمر الزرع. القيادة السورية طوال الأزمة لم تكن أكثر اطمئناناً من الآن. ولهذه الراحة النفسية توصيفها، حتى لا تتحوّل إلى عنجهية توقع أصحابها في وهم القوّة. تدرك القيادة محورية سوريا، وأن الحرب عليها لم تتوقّف منذ فجر التاريخ، ولن تتوقّف. يقول أحد القادة الأمنيين، إن سوريا تمتهن لعبة الوقت، ومنذ الرئيس الراحل حافظ الأسد احترفت إرهاق خصومها. ومثل صبيّة نذرها أهلها، لا تُهزم، فتأتي التسويات على حساب أعدائها. وهذه سياسة. سوريا لم تسقط، والآخرون يتخبّطون في أزماتهم الداخلية؛ القطريون والسعوديون والأتراك والأوروبيون. الأميركيون يبيعون ويشترون، وإسرائيل لا تعجبها النتيجة. المنتصرون في الميدان يبتعدون عن الغرور، حتى لا يضيع النصر في السياسة. أدونيس قبل أكثر من عقد، سرق بعضهم مصطلح «ربيع دمشق». كان تآمراً معلوماً باسم الربيع. وبعد سنوات، أَكَلَنا الربيع المسروق موتاً وتعصّباً. الآن دمشق تعيش ربيعها. أرضٌ غُمّست بدم أبنائها حتى الباطن، ثمّ قامت كـ«زهرة لوزٍ» في قصيدة نزار، أو كشقيقة نعمان سقاها دم أدونيس الذي قتله الخنزير، فولدت الفصول. ربيع دمشق، خريف أعدائها.

المصدر : فراس الشوفي -- الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة