دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
عندما ينظر المرء الى الضجيج الإعلامي وما يرافقه من تصريحات للمسؤولين الأميركيين، تبدو متناقضة وعصية على الفهم، يتهيّأ للمرء أن إدارة ترامب الجديدة تعاني من تخبّط في خطابها السياسي ورؤيتها الاستراتيجية عموماً،
وتلك المتعلقة بالشرق الاوسط وبمنطق الأزمات الأخرى في العالم، ابتداء بأزمة القرن وأوكرانيا، مروراً بموضوع الاتفاق النووي مع إيران، وصولاً إلى الغطرسة التي يمارسها الوحش الإمبريالي الأميركي في منطقة شبه الجزيرة الكورية وبحر الصين الجنوبي.
ولكن حقيقة الأمر، أي جوهر السياسة الأميركية المتعلقة بمناطق التوتر المشار إليها أعلاه. هي أن الاستراتيجية الأميركية لم يطرأ عليها أي تغيّر على الإطلاق. إذ إن ثوابت السياسة الخارجية الأميركية التي كانت متّبعة من الإدارات الأميركية السابقة لا زالت على حالها تماماً. علماً أن هذه الثوابت او الأهداف الاستراتيجية معنى الهدف الاستراتيجي هو: الهدف النهائي لكامل مسرح العمليات في كل أنحاء ميدان الصراع أو الحرب، والذي هو في هذه الحالة في العالم بأسره… أي الهدف الذي يؤدي تحقيقه الى السيطرة الكاملة على مسرح العمليات… أي النصر على العدو . نقول إن تلك الأهداف تتمثل في ما يلي:
أولاً: الحفاظ على أمن القاعدة العسكرية الإمبريالية المقامة على أرض فلسطين والمسماة «اسرائيل»، لكونها إحدى اهم ادوات الاستعمار القديم والجديد في تفتيت العالم العربي والإسلامي وهدر إمكانياته ومنعه من التطور والتنمية، وبالتالي منعه من التحوّل كتلة دولية ولاعباً أساسياً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
ثانياً: السيطرة على منابع النفط والغاز في المنطقة الممتدة من سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية وصولاً لحدود الصين الغربية. وذلك ليس لضمان تدفق النفط الى الدول الغربية واستمرار نهب ثروات الدول المنتجة لهاتين المادتين الهامتين استراتيجياً أي على صعيد كامل مسرح العمليات الدولي وإنما لاستعمال مصادر الطاقة المذكورة في الصراع الدولي الحالي وفي صراع الولايات المتحدة المقبل مع الصين. إذ إن الولايات المتحدة بشكل خاص والدول الغربية بشكل عام تخشى من التطور الاقتصادي الهائل الذي تحققه الصين خاصة بِعد ان وصل حجم اقتصادها الى حجم الاقتصاد الأميركي مما يجعل من الصين القوة الاقتصادية الاولى على صعيد العالم، والتي لا تمكن منافستها على المستوى التجاري، وذلك للعديد من الأسباب التي لا مجال لمعالجتها هنا.
ثالثاً: المحافظة على التحالف السياسي والعسكري مع الدول العربية الرجعية والعميلة للاستعمار، وذلك للحفاظ على القواعد الأميركية والغربية الأخرى الموجودة في تلك الدول منذ خمسينيات القرن الماضي… وخاصة في السعودية وجنوب اليمن قبل التحرير، وكذلك في ما أصبح يُعرف بدولة الإمارات العربية المتحدة قبل أن «تستقل» عن التاج البريطاني سنة ١٩٧١. تلك القواعد التي عادت إلى مستوى نشاطها في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لا بل إنها وسعت كثيراً من هذا النشاط، بحيث أصبحت تستعمل للعدوان المباشر وشن الهجمات البرية والبحرية وأجواء على العديد من الدول العربية كما حصل في غزو العراق وفي حرب تموز ٢٠٠٦ ضد لبنان، حيث قامت قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي المسؤولة عن منطقة الشرق الأوسط بتزويد الجيش «الإسرائيلي» بكميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، خاصة صواريخ جو أرض، المخزنة في قواعد الجيش الأميركي في العراق قبل الانسحاب الأميركي من العراق طبعاً والسعودية وقطر وصولاً الى الهجمات الاميركية الجوية والبحرية المستمرة ضد اليمن حتى قبل بدء العدوان الأميركي السعودي الواسع على هذا البلد العربي الصامد والمنتصر بإذن الله.
وليس آخراً العدوان الأميركي على الشعب الليبي ومقدراته جواً وبحراً، انطلاقاً من القواعد الاميركية إياها والتي تواصل عدوانها على سيادة الدولة السورية براً وجواً وبحراً وتمعن تقتيلاً في مواطني قلعة العروبة الصامدة سورية.
كل هذا خدمة لمصالح الولايات المتحدة والدول الغربية الاستعمارية الآنية وكذلك كحلقة في عمليات التطويق الاستراتيجي للصين من خلال تثبيت قواعدهم العسكرية في عموم منطقة غرب آسيا وصولاً إلى حدود الصين الغربية والشمالية الغربية وذلك في إطار الاستعدادات للمواجهة مع الصين مستقبلاً. فمن المعروف أن الطبيعة الامبريالية العدوانية للولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى لا يمكنها أن تبحث وسائل للتعاون المشترك في حل المعضلات الدولية عن طريق الحوار والتفاهم وإنما تبحث دائماً عن حجج وأعذار لشنّ مزيد من الحروب التي تخدم طبيعتهم الجامحة نحو السيطرة على الشعوب وإخضاعها…
اذاً، هذه هي الاستراتيجية الأميركية الجديدة القديمة ذات الثوابت غير القابلة للتغيير، بينما أدوات تحقيق هذه الاستراتيجية هي التي تتغيّر ويتم تطويعها كي تلائم كل مرحلة من مراحل الصراع سواء في «الشرق الاوسط» او على صعيد العالم. أي أن التغيير الذي طرأ على السياسات الأميركية قد اقتصر على تعديلات على الأساليب والأدوات المستخدمة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الأميركية. وقد شملت هذه التعديلات المناحي التالية:
١ التحول من الدخول في حروب واسعة ومكلفة جدا، على الصعيدين البشري والمالي، وغير مضمونة النجاح كما حصل في حربي أفغانستان والعراق، الى ضربات عسكرية محدودة جوية او بحرية او باستخدام القوات الخاصة والقوات المحمولة جوا للقيام بعمليات خاطفة في ارض العدو او خلف خطوط العدو.
اي ان الولايات المتحدة لن تقوم بإرسال عشرات آلاف الجنود الأميركيين الى اي مكان في العالم بعد اليوم بل ستعتمد الأسلوب الموضح أعلاه.
٢ الاعتماد على القوى المحلية العميلة للإمساك بالأرض تحت قيادة أميركية، وبغض النظر عما إذا كانت هذه القوى العميلة «دولاً» كالسعودية ومشيخات الخليج والأردن، أو ميليشيات محلية كداعش والنصرة ومسمياتها الأخرى الى جانب ما يطلق عليه جيش سورية الجديد وجيش الجنوب وغيره من التسميات المشبوهة السائرة في مشاريع فرض السيطرة على الوطن العربي.
٣ فتنة الحرب، أي زيادة استعار الحرب بين مكونات المجتمعات العربية، كما فعلت الولايات المتحدة في فيتنام، أي تسليح فئات لتحارب فئات أخرى في مختلف الدول العربية. وهذا ما بدأته الولايات المتحدة عندما أوجدت داعش والنصرة في العراق ثم في سورية وبقية الدول العربية. وهذا هو هدفها الحالي من وراء عمليات التسليح والتدريب لقوى عشائرية بعينها في سورية والعراق وبالتعاون مع الاردن ومن دون التنسيق لا مع الحكومة السورية ولا مع الحكومة العراقية…
ولكن على الرغم من كل المؤامرات التي تقوم بها الولايات المتحدة بالتعاون مع أذنابها المحليين من صهاينة وعثمانيين جدد ورجعية عربية، إلا أن كل مشاريعهم هذه محكومة بالفشل المحتوم وذلك للأسباب التالية:
– تماسك وصمود محور المقاومة الأسطوري، وكذلك ثبات الموقف الروسي الداعم لسورية والعراق في مواجهة مشاريع الهيمنة والإخضاع القسري.
– محدودية المقدرة العسكرية الأميركية في ميادين القتال ما يؤدي الى محدودية الدور الأميركي في عملية الصراع السياسي. إذ إن الهزيمة او الهزائم المتلاحقة التي لحقت بعصابات الاٍرهاب التابعة للولايات المتحدة وأذنابها الإقليميين من داعش الى النصرة إلى آخر قائمة مسمّيات تنظيمات الجريمة والتخريب قد وصلت إلى حد أن الإدارة الأميركية الجديدة قد وجدت نفسها مضطرة للتدخل الصاروخي في الميدان السوري، على أمل ان تحافظ على دور لها في العملية السياسية السورية التي لا بد أن تتم بعد إلحاق الهزيمة الكاملة بقوى الإرهاب العميلة والدول والقوى العميلة للإرهاب في الوطن العربي.
– الوجود العسكري الروسي الكثيف والفاعل في الميدان السوري.
– وكذلك الدعم الإيراني المتعدد الوجوه للدولة والجيش السوري وما لإيران من وجود فاعل على الارض، وما لتضحيات القيادة الايرانية والعسكريين الإيرانيين وشهدائهم.
– أي أن الأميركي ورغم عنترياته وألعابه النارية من توماهوك الى غيره، والتي لا تخيف الأسود وإنما تعبر عن ارتفاع الياس والقنوط الذي يصيبه نتيجة قناعته بفشل مشاريعة الشرق أوسطية الأخرى، نقول إنه رغم ذلك مضطر للحوار ليس مع روسيا فقط وإنما مع إيران أيضاً ولو بشكل غير مباشر عندما يحين الوقت وتأزف الساعة لإسدال الستار على حقبة العصابات المسلحة في كل من سورية والعراق. وهذا يعني أن سورية وحلفاءها، وعلى عكس الوحش الرأسمالي الامبريالي الأميركي، لن يكون لديهم مانع من التوصل الى تفاهم مع العالم الجديد ينظم علاقات الحلفاء معه على أساس احترام أنظمة القانون الدولي احتراماً كاملاً.
من هنا فإن الادارة الاميركية ليست في وضع تفرض فيه شروطاً لتحقيق تسويات تخدم مصالحها، لا في «الشرق الأوسط «ولا في أي من ميادين الصراع على المستوى الكوني، لأسباب عديدة لا مجال لمعالجتها في هذا الإطار.
لذلك فإن خياراتها محدودة وتنحصر في الاحتمالات التالية:
أ الإقرار بالهزيمة النهائية ورفع يدها عن منطقتنا العربية والإسلامية التي تسميها الشرق الاوسط، وذلك تمشياً مع الحقائق التي تحكم ميادين الصراع والتي تقول بوضوح إن من يمسك الأرض هم ليسوا الولايات المتحدة وعملاءها وأذنابها وإنما ابطال محور المقاومة من جيش سورية الى الوحدات العسكرية الإيرانية الى جانب ابطال حزب الله والقوى الرديفة الأخرى ومساعدة الحليف الروسي اللامحدودة وعلى الصعد كلها.
ب استمرار التذرّع بمحاربة داعش والمضي قدماً في عمليات التمشيط المذهبي والتعبئة المقيتة ضد ايران الشقيقة، والتي تواصل دعمها للقضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومنذ انتصار الثورة الإسلامية في ايران في العام ١٩٧٩.
– وفي ظل موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية الحاليّة في كافة ميادين الصراع وفي ظل عجز المحور الأميركي عن حسم أي من الصراعات الدائرة منذ سنين نتيجة عجز أدواته عن إلحاق الهزيمة بمعسكر المقاومة ونتيجة مراكمة امكانيات محور المقاومة من علمية الى عسكرية الى غير ذلك، وبشكل يصعب تخيّله، فان إدارة ترامب لن تكون قادرة على إلغاء الاتفاق النووي مع ايران ولا على تعليق العمل به، خاصة أن ترامب يؤمن بنظرية الصفقة بمعنى انه سيواصل العمل بنظام الاتفاق النووي مع بعض التعديلات، اذا كان رفع العقوبات كنتيجة للالتزام الولايات المتحدة بالاتفاق أو تعليق العمل بها كلياً او جزئياً سيعود بالفائدة على الولايات المتحدة. وما صفقة البوينغ التي وقعت حديثاً مع ايران إلا مثال على حجم الفائدة التي ستجنيها الولايات المتحدة من وراء الاتفاق.
– وعليه فلا مفر لإدارة ترامب الجديدة من العودة الى سياسة الإدارات الاميركية القديمة، والأكثر حنكة في إدارة الصراعات الدولية، والتي مؤداها أن من الضروري التعاون مع العدو لتحقيق الانتصار على العدو الأكثر خطورة. فاذا أراد ترامب القضاء على العدو الأكثر خطورة على مصالح الولايات المتحدة، ألا وهو داعش، فعليه ان يتخذ العبرة من تحالف الادارة الأميركية في أربعينيات القرن الماضي مع الاتحاد السوفياتي في سبيل تحقيق النصر على المانيا النازية .اي انه لا بد من تحالفه مع روسيا وإيران وسورية في سبيل القضاء على داعش والتفاهم مع القوى المنتصرة حلف المقاومة على ضمان مصالح معينة للولايات المتحدة في الوطن العربي.
وكما يقول المثل: ما الذي يُجبرك على تجرُّع المرّ…
إلا الأمرّ منه؟
بعدنا طيّبين قولوا الله.
المصدر :
البناء / محمد صادق الحسيني
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة