..لايمكنك أن تصل الى اليقين مالم تمعن في الشك .. ولايكشف الأسرار ويسقط عنها الاقنعة الا عين الشك .. ولذلك لايصل الى الايمان المطلق من لم يداهمه الشك وان كان ينام في قلب الكعبة كل يوم أو يصلب على نفس الصليب الذي مات عليه السيد المسيح ..

 

والشك هو الذي يجب أن يسائل اردوغان وحكمه ويقيسه بمرحلة مصطفى كمال أتاتورك الذي أعلن نهاية الخلافة وقيام الجمهورية .. لان مصطفى كمال لم يستطع حتى هذه اللحظة من الهروب من تهمة العمالة للمخابرات البريطانية التي صنعته كبطل قومي لتركيا أنقذها من براثن الهزيمة وهو يحارب عدة جيوش (باستثناء الجيش البريطاني) وكانت النتيجة أن مصطفى كمال أخذ تركيا من الشرق الى الغرب وانتزع منها شيفرة الخلافة وهي الحرف العربي القرآني الذي يصلها بأربعمائة عام متواصلة .. ولايزال سر مصطفى كمال غير قادر على الهروب من الشك بعلاقته بالمخابرات البريطانية التي خدمته وخدمها .. وقد قامت جمهورية أتاتورك في نفس الفترة التي أقيمت فيها مملكة آل سعود ومملكة بني هاشم الأردنية على يد الانكليز الذين صنعوا لبلاد نجد والحجاز قائدا اسمه عبد العزيز آل سعود وصنعوا منه زعيما بانتصارات عسكرية .. ثم صمموا للعرب ثورة الشريف حسين وصنعوا لها قائدا ليكون سريره مفرخة للملوك "الجواسيس" تمثلت بأسرة الشريف حسين وسلالته .. والبريطانيون بارعون جدا في صناعة الزعماء والقادة لأنهم يعرفون أن الشعوب تتبع الزعماء فبدلا من مواجهة الشعوب فان الأفضل وضع اليد على لجام الشعب .. فهم يرون أن الشعوب ثيران هائجة أو جياد لاتقاد الا باللجام .. ولالجام للشعوب مثل ملوكها وزعمائها .. فبدلا من ترويض الجواد اصنع له لجاما ثقيلا ..

 

وهذه المقاربة التاريخية لنشأة الجمهورية الاتاتوركية التي اختار الانكليز لها العلمانية لالغاء طابعها الديني تفصلها اليوم عن خلافة أردوغان مئة سنة تقريبا .. فقد دفن اردوغان جمهورية كمال اتاتورك منذ أيام لأن وظيفتها انتهت وظهر أن مهمتها الحالية في ولادة الشرق الأوسط الجديد (الديني والمذهبي) لاتستطيع القيام بها دولة علمانية بل دولة دينية تتفاعل مع السديم المذهبي الهائج .. فأعيدت لها صفتها الدينية عبر حكم العدالة والتنمية ..

 

في ظروف نهوض الاسلام السياسي من ثورة الامام الخميني في ايران لم تعد تنفع النزعة القومية التي قادها صدام حسين لايقاف التمدد الثوري الايراني وفكر الدين الثوري ولم تعد مملكة آل سعود قادرة على التنطح العقائدي لهذه المهمة بسبب ظهور بثور وبذور فساد المملكة وتبذير أمرائها وحياتهم الباذخة وكان لابد من اطلاق العدو الطبيعي للموجة الخمينية الطاغية .. ولم يكن هناك افضل من العثمانية الصاعدة .. فالجمهور العربي المسلم مشدود بالنوستالجيا والحنين الى الدولة القوية المركزية التي شكلت المظلة العقائدية .. "وكان المذهب السني محرجا بسبب تمكن المذهب الشيعي "من تطوير نموذج للحكم الاسلامي فريد وقدم تجربة للثورة الفكرية والايديويولوجية الجهادية أصابت المثقفين الاسلاميين العرب بالصدمة وهو يظهرون عاجزين عن انجاز الثورة الاسلامية التي وعد بها الاخوان المسلمون وغيرهم طوال عقود .. وكان أفضل مرشح في نظر الغربيين للقيام بدور العدو الطبيعي للاسلام السياسي بنسخته الشيعية هو تركيا العثمانية .. وهنا لايمكن فصل احتلال العراق عن مصادفة غريبة في نجاح حزب العدالة والتنمية وصعود نجم لاعب الكرة التركي وبائع البطيخ أردوغان في نفس الوقت الذي هبط فيه نجم صدام حسين معه الى الحفرة التي روّج الأميريكون أنهم وجدوه فيها .. ففي العراق ظهرت الحاجة الماسة لقيادة للجمهور السني اليتيم الذي بدا مظلوما بعد أن اطيح بحكم السنة بالقوة .. وبدا المثقفون العرب يتلفتون حولهم بحثا عن رمز اسلامي قوي .. وكان القائد الجديد أردوغان قد اكتملت صناعته .. خطيب مفوه وذو صوت عال "كبائع بطيخ "وممثل بارع ومناور .. ونموذج عصري للخميني التركي السني .. انه النموذج المطلوب والمفصّل على مقاس الجمهور التائق لقائد مناظر للولي الفقيه ..

 

ومن يحار في السؤال عن سبب بقاء رجب طيب أردوغان في السلطة كل هذا الوقت وهو ينتقل من نصر انتخابي الى نصر آخر وكأنه طائر الفينيق فانه اما أن يكون من أولئك السذج الذين ينامون في قلب الكفر وفي سرير الرذيلة وهم يعتقدون أنهم في قلب الكعبة واما أنه من أولئك الواهمين بأن تركيا دولة تلعب اللعبة الديمقراطية بجدارة دون أن يكون للغرب أي دور فيما يجري فيها .. فالغرب لايسمح بأي ديمقراطية لاتتوافق مع مصالحه وتوجهاته .. وتجربة الزعيم النمساوي هايدر خير دليل لأن هايدر امتدح هتلر ونجح في الانتخابات بشكل غير متوقع فقاطعت أوروبة النمسا وحاصرتها حتى أرغم هايدر على التراجع والتخلي عن نصره الديمقراطي الناجز من أجل الشعب النمساوي الذي قاطعته أوروبة لأسابيع متتالية .. أما أردوغان فانه يهاجم أوروبة ويتبجح أنه أبو الاسلام السياسي وأنه يريد احياء الامبراطورية العثمانية ألد اعداء أوروبة التي حاصرت فيينا .. وهي اسوا الذكريات العثمانية في الوعي الاوروبي .. ومع ذلك فانه لايحظى الا بأصوات تلفزيونية ناقدة .. ولكن لاأحد يعلن مقاطعته أو محاصرته اقتصاديا ولاتخرج فتوى واحدة من رجال الاعمال والمال لسحب الاستثمارات الهائلة في البورصة التركية .. ولايقدم الاتحاد الاوربي على منع السياحة اليه لتدمير عموده الاقتصادي القائم على السياحة كما فعل الروس وجعلوا فنادقه شبه فارغة عندما أسقط لهم طائرة السوخوي .. والرجل يتعامل علنا مع داعش والنصرة وكل المجموعات الارهابية ويصدر الارهابيين واللاجئين الى اوروبة ومع ذلك تبقى اوروبة مستكينة له وكأنها عاجزة بلا حول ولاقوة ولاتقوم باي رد فعل وكأن يد السلطان هي العليا .. بالرغم من أن السلطان يخوض حربا عالمية يحارب فيها ايران وروسيا والعراق وسورية ومصر والصين ..

 

ماهو سر اردوغان؟؟ وكيف يغامر رجل مثله لاتزال صناديق الاقتراع بالكاد تعطيه نجاحا صعبا بأصوات 51% من الناخبين ولايبالي بأصوات 49% يعارضونه ويتصرف وكانه يحصل على أصوات 90% رغم أن السياسي الذي يفوز فوزا صعبا يخشى أن يخسر نقطة أو نقطتين بسبب اي قرار غير مدروس .. الا أردوغان الذي لايهزم ولايقهر .. فهو لايبالي بالأكراد ويطحنهم ويسحقهم ويزج بقياداتهم في السجن .. ويناطح تيار فتح الله غولن القوي .. وهو يعلي الخطاب المذهبي والاثني في بلد مليء بالمتفجرات المذهبية والعرقية .. ومع هذا فانه لايسقط .. فهل هو ابن الاله أم روح محمد الفاتح.. أم مصطفى كمال أتاتورك آخر بتصميم انكليزي بنسخة عثمانية يراد له أن يكون أبا الأتراك الجدد؟

 

والحقيقة أن سقوط اردوغان لم يكن يوما وهما نهذي به أو حلما يداعبنا بل انعكاسا لحقيقة وواقع ينقله لنا مثقفون ونخب تركية تناصبه العداء وتتوجس منه .. فهو محاصر بكل أسباب الخسارة وظهر ضعفه وترنحه في انتخابات عام 2015 عندما اهتز حزب العدالة والتنمية وكان عليه تشكيل حكومة ائتلافية ولكن اردوغان أعاد الانتخابات بعد ان هيأ طريقة الفوز والتلاعب على قواعد اللعبة بمباركة أوروبة التي لم ترفع صوتها كما تفعل عندما لاتروق لها المكائد الانتخابية ..

 

ان سبب بقاء اردوغان جاء من الحاجة اليه بسبب الدور التركي في الحرب السورية .. وأردوغان مدين للحرب السورية في بقائه لأن كل برنامجه الانتخابي في البقاء يستمده من تداعيات الحرب على سورية .. لأن مشروع الغرب القاضي بخلق حاجز داعش بين ايران والعراق وسورية على امتداد نهر الفرات يستحيل أن ينجح دون العون التركي .. كما ان جبهة النصرة في الشمال لاتقدر على الصمود دون الدعم التركي المطلق .. وهذان التنظيمان هما عماد مشروع الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد .. فهما يرسمان حدود المذاهب بالدم وهما الاسفين الذي يمكن أن يقسم سورية .. ولايمكن ان تقاد الحملة الدينية الطائفية في المنطقة بحزب تركي علماني بل بحزب ديني يجمع حوله السنة الباحثين عن عمق مذهبي لاعلماني .. ولايمكن المخاطرة بتغييب شخص أردوغان عن الساحة التركية لما قد يحمله هذا الغياب من ضعف في معسكر الاسلام السياسي الذي قد يهتز اذا غاب ملهمه الروحي والرجل الساحر الذي التفت حوله الجماعات الاسلامية من المحيط الى الخليج وتحول الى مغناطيس تتبعه جماعات الاسلام السياسي كالمنومة مغناطيسيا وتهاجر اليه حتى من غزة المحاصرة .. تماما كما كانت الأحزاب الشيوعية العربية تنسخ التجربة السوفييتية وتسير معها كظلها .. ولذلك لايبالي اردوغان باي اعتبار انتخابي فالمال الخليجي يسرع اليه كلما أوعز البريطانيون بذلك .. والانتقادات الاوروبية لاردوغان مجرد كلام ونباح دون عض .. بل ان النباح يزيد من التفاف الاتراك حوله وهم يرون ان مستقبلهم صار غامضا في ظل السعار الغربي نحو تركيا ..

 

وحتى الانقلاب العسكري التركي الذي لاتزال أسراره تتكشف رويدا رويدا جاء لتثبيت الرجل بعد اهتزاز شرعيته في انتخابات عام 2015 .. وبدا تثبيت اردوغان في الحكم بعد اعادة الانتخابات والزج بقادة الأحزاب الكردية في السجن وكأنه طعن في التشكيك بشعبيته وشرعيته .. حيث ظهر بعد الانقلاب وكأنه عاد بقوة الشعب وليس بالتحايل على قوانين الانتخابات .. والحقيقة هي انه عاد بقوة المتطرفين الاسلاميين الذين أزاحوا من طريقهم بعنف كل من يمكن أن يحول بينهم وبين الحكم المطلق حتى انجاز مهمة الشرق الاوسط الكبير الذي لاتقدر على انجازه الا تركيا الاسلامية بحكم مطلق التي توقف التمدد الايراني والتي تثبت دولة سنية يحاول الغرب صناعتها بين سورية والعراق وترضعها من أثدائها العثمانية حتى يشتد عودها لأن لاأمل لها الا بالثدي العثماني وهي محاصرة غربا وشرقا .. وربما كان من نتائج الدكتاتورية الاسلامية التركية التي يريدها الغرب أن تكون مثل قنبلة موقوتة هو استقطاب المجتمع التركي وابقائه متوترا ريثما تحين لحظة تقسيمه لأن الديكتاتورية الاسلامية لايمكن التنبؤ برد فعلها اذا ماخسرت السلطة في صناديق الاقتراع أو في انقلاب عسكري .. فهي تتصرف وكأنها في مهمة تاريخية وجهادية وان ليس من حقها فقدان السلطة بل حماية الخلافة التي خسرتها في حرب عالمية ولن تقبل بخسارة ثانية لها مهما بلغ الثمن .. حتى وان كانت الخسارة ديمقراطية في صناديق انتخاب ..

 

أهمية تركيا اليوم جاءت من دورها السوري فقط ودون مراوغة واجتهادات وتبريرات عن اسطورة الاقتصاد المتفوق الاسلامي وغير ذلك .. واستمرار الحرب السورية هو الذي يمد بعمر أردوغان الذي صار حاجة غربية لاستمرار الحرب على روسية والصين وايران من البوابة السورية ولذلك تم التمديد له بمشروع النظام الرئاسي حتى عام 2028 وهو عام يوافق نهاية الفترة الثانية للأسد لأن مشروع الشرق الاوسط الكبير تعثر ولم ينجز في الزمن المرسوم في الربيع العربي ويقدر له أن يتعثر لسنوات بعد أن ثبت ان الأسد يستحيل اسقاطه .. وقد قدم أردوغان أوراق اعتماده من جديد عقب الانتخابات الأخيرة بالقول بأن سورية تقسم قطعة قطعة .. وهو تعهد قديم يعيد تقديمه لمن صنعه وكلفه بمهمته وهي بناء قطع الشرق الأوسط الكبير قطعة قطعة .. وتقسيم سورية هو قلب الشرق الأوسط الجديد وقلب مهمته التي كلف بها منذ سنوات .. والشرق الاوسط الجديد بخرائطه الدموية يعتمد عليه .. ولكن ثبات الأسد في دمشق جعل مشروع التقسيم صعبا للغاية .. وهو مشروع لايتحقق الا بغياب الأسد وبقاء اردوغان .. وينتهي بغياب اردوغان وبقاء الأسد .. ولذلك بقي اردوغان ..

 

اردوغان كان قد بدأ مشروعه من سورية التي ساعدت في صعوده وسمحت له بالتدفق في قضايا المنطقة ومنحته صفة الوسيط الوحيد في المفاوضات مع اسرائيل بعد مسرحية دافوس ومرمرة ثم ساعدته اقتصاديا لانعاش اقتصاد شرق الاناضول على حساب اقتصاد شمال سورية وهذا ماساعد الكتلة الانتخابية في شرق الاناضول وهي الكتلة الاسلامية على الانتعاش والثراء ومن ثم اجتياح الاقتصاد التركي في غرب الاناضول مما اثر على الوزن الانتخابي لغرب الأناضول العلماني الذي لم يسترد موقعه منذ تلك اللحظة الفاصلة ..

ولكن كما بدأ أردوغان مشروعه من سورية فان استمراره مرتبط بسورية .. ومن كانت بدايته واستمراره من سورية فان نهايته لاشك لايمكن ان تكون الا من سورية .. وان بيته العثماني أوهن من بيت العنكبوت الاسرائيلي ولن يصمد اذا هبت عليه الريح أو جزء من الريح التي هبت على سورية .. انه منطق النشوء والوجود والبقاء والخلود .. بأن لحظة الموت تقررها لحظة الميلاد .. فميلاده كان في سورية .. وموته سيكون في سورية .. مهما طال الزمن .. ولايزال هناك شيء خفي تنتظره تركيا والمنطقة ستجعل بائع البطيخ يدرك أن تركيا مجرد كومة بطيخ .. وأن تكسير وتقسيم سورية لايشبه تقسيم البطيخ على الاطلاق .. لكن البطيخة التي ستتكسر هي التي تقف فوق كتفيه .. وبامكانه انتظار معركة ادلب ليتحقق من ذلك ..

 

  • فريق ماسة
  • 2017-04-25
  • 8619
  • من الأرشيف

لماذا لايسقط اردوغان .. ولماذا لاتقسم سورية؟؟

..لايمكنك أن تصل الى اليقين مالم تمعن في الشك .. ولايكشف الأسرار ويسقط عنها الاقنعة الا عين الشك .. ولذلك لايصل الى الايمان المطلق من لم يداهمه الشك وان كان ينام في قلب الكعبة كل يوم أو يصلب على نفس الصليب الذي مات عليه السيد المسيح ..   والشك هو الذي يجب أن يسائل اردوغان وحكمه ويقيسه بمرحلة مصطفى كمال أتاتورك الذي أعلن نهاية الخلافة وقيام الجمهورية .. لان مصطفى كمال لم يستطع حتى هذه اللحظة من الهروب من تهمة العمالة للمخابرات البريطانية التي صنعته كبطل قومي لتركيا أنقذها من براثن الهزيمة وهو يحارب عدة جيوش (باستثناء الجيش البريطاني) وكانت النتيجة أن مصطفى كمال أخذ تركيا من الشرق الى الغرب وانتزع منها شيفرة الخلافة وهي الحرف العربي القرآني الذي يصلها بأربعمائة عام متواصلة .. ولايزال سر مصطفى كمال غير قادر على الهروب من الشك بعلاقته بالمخابرات البريطانية التي خدمته وخدمها .. وقد قامت جمهورية أتاتورك في نفس الفترة التي أقيمت فيها مملكة آل سعود ومملكة بني هاشم الأردنية على يد الانكليز الذين صنعوا لبلاد نجد والحجاز قائدا اسمه عبد العزيز آل سعود وصنعوا منه زعيما بانتصارات عسكرية .. ثم صمموا للعرب ثورة الشريف حسين وصنعوا لها قائدا ليكون سريره مفرخة للملوك "الجواسيس" تمثلت بأسرة الشريف حسين وسلالته .. والبريطانيون بارعون جدا في صناعة الزعماء والقادة لأنهم يعرفون أن الشعوب تتبع الزعماء فبدلا من مواجهة الشعوب فان الأفضل وضع اليد على لجام الشعب .. فهم يرون أن الشعوب ثيران هائجة أو جياد لاتقاد الا باللجام .. ولالجام للشعوب مثل ملوكها وزعمائها .. فبدلا من ترويض الجواد اصنع له لجاما ثقيلا ..   وهذه المقاربة التاريخية لنشأة الجمهورية الاتاتوركية التي اختار الانكليز لها العلمانية لالغاء طابعها الديني تفصلها اليوم عن خلافة أردوغان مئة سنة تقريبا .. فقد دفن اردوغان جمهورية كمال اتاتورك منذ أيام لأن وظيفتها انتهت وظهر أن مهمتها الحالية في ولادة الشرق الأوسط الجديد (الديني والمذهبي) لاتستطيع القيام بها دولة علمانية بل دولة دينية تتفاعل مع السديم المذهبي الهائج .. فأعيدت لها صفتها الدينية عبر حكم العدالة والتنمية ..   في ظروف نهوض الاسلام السياسي من ثورة الامام الخميني في ايران لم تعد تنفع النزعة القومية التي قادها صدام حسين لايقاف التمدد الثوري الايراني وفكر الدين الثوري ولم تعد مملكة آل سعود قادرة على التنطح العقائدي لهذه المهمة بسبب ظهور بثور وبذور فساد المملكة وتبذير أمرائها وحياتهم الباذخة وكان لابد من اطلاق العدو الطبيعي للموجة الخمينية الطاغية .. ولم يكن هناك افضل من العثمانية الصاعدة .. فالجمهور العربي المسلم مشدود بالنوستالجيا والحنين الى الدولة القوية المركزية التي شكلت المظلة العقائدية .. "وكان المذهب السني محرجا بسبب تمكن المذهب الشيعي "من تطوير نموذج للحكم الاسلامي فريد وقدم تجربة للثورة الفكرية والايديويولوجية الجهادية أصابت المثقفين الاسلاميين العرب بالصدمة وهو يظهرون عاجزين عن انجاز الثورة الاسلامية التي وعد بها الاخوان المسلمون وغيرهم طوال عقود .. وكان أفضل مرشح في نظر الغربيين للقيام بدور العدو الطبيعي للاسلام السياسي بنسخته الشيعية هو تركيا العثمانية .. وهنا لايمكن فصل احتلال العراق عن مصادفة غريبة في نجاح حزب العدالة والتنمية وصعود نجم لاعب الكرة التركي وبائع البطيخ أردوغان في نفس الوقت الذي هبط فيه نجم صدام حسين معه الى الحفرة التي روّج الأميريكون أنهم وجدوه فيها .. ففي العراق ظهرت الحاجة الماسة لقيادة للجمهور السني اليتيم الذي بدا مظلوما بعد أن اطيح بحكم السنة بالقوة .. وبدا المثقفون العرب يتلفتون حولهم بحثا عن رمز اسلامي قوي .. وكان القائد الجديد أردوغان قد اكتملت صناعته .. خطيب مفوه وذو صوت عال "كبائع بطيخ "وممثل بارع ومناور .. ونموذج عصري للخميني التركي السني .. انه النموذج المطلوب والمفصّل على مقاس الجمهور التائق لقائد مناظر للولي الفقيه ..   ومن يحار في السؤال عن سبب بقاء رجب طيب أردوغان في السلطة كل هذا الوقت وهو ينتقل من نصر انتخابي الى نصر آخر وكأنه طائر الفينيق فانه اما أن يكون من أولئك السذج الذين ينامون في قلب الكفر وفي سرير الرذيلة وهم يعتقدون أنهم في قلب الكعبة واما أنه من أولئك الواهمين بأن تركيا دولة تلعب اللعبة الديمقراطية بجدارة دون أن يكون للغرب أي دور فيما يجري فيها .. فالغرب لايسمح بأي ديمقراطية لاتتوافق مع مصالحه وتوجهاته .. وتجربة الزعيم النمساوي هايدر خير دليل لأن هايدر امتدح هتلر ونجح في الانتخابات بشكل غير متوقع فقاطعت أوروبة النمسا وحاصرتها حتى أرغم هايدر على التراجع والتخلي عن نصره الديمقراطي الناجز من أجل الشعب النمساوي الذي قاطعته أوروبة لأسابيع متتالية .. أما أردوغان فانه يهاجم أوروبة ويتبجح أنه أبو الاسلام السياسي وأنه يريد احياء الامبراطورية العثمانية ألد اعداء أوروبة التي حاصرت فيينا .. وهي اسوا الذكريات العثمانية في الوعي الاوروبي .. ومع ذلك فانه لايحظى الا بأصوات تلفزيونية ناقدة .. ولكن لاأحد يعلن مقاطعته أو محاصرته اقتصاديا ولاتخرج فتوى واحدة من رجال الاعمال والمال لسحب الاستثمارات الهائلة في البورصة التركية .. ولايقدم الاتحاد الاوربي على منع السياحة اليه لتدمير عموده الاقتصادي القائم على السياحة كما فعل الروس وجعلوا فنادقه شبه فارغة عندما أسقط لهم طائرة السوخوي .. والرجل يتعامل علنا مع داعش والنصرة وكل المجموعات الارهابية ويصدر الارهابيين واللاجئين الى اوروبة ومع ذلك تبقى اوروبة مستكينة له وكأنها عاجزة بلا حول ولاقوة ولاتقوم باي رد فعل وكأن يد السلطان هي العليا .. بالرغم من أن السلطان يخوض حربا عالمية يحارب فيها ايران وروسيا والعراق وسورية ومصر والصين ..   ماهو سر اردوغان؟؟ وكيف يغامر رجل مثله لاتزال صناديق الاقتراع بالكاد تعطيه نجاحا صعبا بأصوات 51% من الناخبين ولايبالي بأصوات 49% يعارضونه ويتصرف وكانه يحصل على أصوات 90% رغم أن السياسي الذي يفوز فوزا صعبا يخشى أن يخسر نقطة أو نقطتين بسبب اي قرار غير مدروس .. الا أردوغان الذي لايهزم ولايقهر .. فهو لايبالي بالأكراد ويطحنهم ويسحقهم ويزج بقياداتهم في السجن .. ويناطح تيار فتح الله غولن القوي .. وهو يعلي الخطاب المذهبي والاثني في بلد مليء بالمتفجرات المذهبية والعرقية .. ومع هذا فانه لايسقط .. فهل هو ابن الاله أم روح محمد الفاتح.. أم مصطفى كمال أتاتورك آخر بتصميم انكليزي بنسخة عثمانية يراد له أن يكون أبا الأتراك الجدد؟   والحقيقة أن سقوط اردوغان لم يكن يوما وهما نهذي به أو حلما يداعبنا بل انعكاسا لحقيقة وواقع ينقله لنا مثقفون ونخب تركية تناصبه العداء وتتوجس منه .. فهو محاصر بكل أسباب الخسارة وظهر ضعفه وترنحه في انتخابات عام 2015 عندما اهتز حزب العدالة والتنمية وكان عليه تشكيل حكومة ائتلافية ولكن اردوغان أعاد الانتخابات بعد ان هيأ طريقة الفوز والتلاعب على قواعد اللعبة بمباركة أوروبة التي لم ترفع صوتها كما تفعل عندما لاتروق لها المكائد الانتخابية ..   ان سبب بقاء اردوغان جاء من الحاجة اليه بسبب الدور التركي في الحرب السورية .. وأردوغان مدين للحرب السورية في بقائه لأن كل برنامجه الانتخابي في البقاء يستمده من تداعيات الحرب على سورية .. لأن مشروع الغرب القاضي بخلق حاجز داعش بين ايران والعراق وسورية على امتداد نهر الفرات يستحيل أن ينجح دون العون التركي .. كما ان جبهة النصرة في الشمال لاتقدر على الصمود دون الدعم التركي المطلق .. وهذان التنظيمان هما عماد مشروع الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد .. فهما يرسمان حدود المذاهب بالدم وهما الاسفين الذي يمكن أن يقسم سورية .. ولايمكن ان تقاد الحملة الدينية الطائفية في المنطقة بحزب تركي علماني بل بحزب ديني يجمع حوله السنة الباحثين عن عمق مذهبي لاعلماني .. ولايمكن المخاطرة بتغييب شخص أردوغان عن الساحة التركية لما قد يحمله هذا الغياب من ضعف في معسكر الاسلام السياسي الذي قد يهتز اذا غاب ملهمه الروحي والرجل الساحر الذي التفت حوله الجماعات الاسلامية من المحيط الى الخليج وتحول الى مغناطيس تتبعه جماعات الاسلام السياسي كالمنومة مغناطيسيا وتهاجر اليه حتى من غزة المحاصرة .. تماما كما كانت الأحزاب الشيوعية العربية تنسخ التجربة السوفييتية وتسير معها كظلها .. ولذلك لايبالي اردوغان باي اعتبار انتخابي فالمال الخليجي يسرع اليه كلما أوعز البريطانيون بذلك .. والانتقادات الاوروبية لاردوغان مجرد كلام ونباح دون عض .. بل ان النباح يزيد من التفاف الاتراك حوله وهم يرون ان مستقبلهم صار غامضا في ظل السعار الغربي نحو تركيا ..   وحتى الانقلاب العسكري التركي الذي لاتزال أسراره تتكشف رويدا رويدا جاء لتثبيت الرجل بعد اهتزاز شرعيته في انتخابات عام 2015 .. وبدا تثبيت اردوغان في الحكم بعد اعادة الانتخابات والزج بقادة الأحزاب الكردية في السجن وكأنه طعن في التشكيك بشعبيته وشرعيته .. حيث ظهر بعد الانقلاب وكأنه عاد بقوة الشعب وليس بالتحايل على قوانين الانتخابات .. والحقيقة هي انه عاد بقوة المتطرفين الاسلاميين الذين أزاحوا من طريقهم بعنف كل من يمكن أن يحول بينهم وبين الحكم المطلق حتى انجاز مهمة الشرق الاوسط الكبير الذي لاتقدر على انجازه الا تركيا الاسلامية بحكم مطلق التي توقف التمدد الايراني والتي تثبت دولة سنية يحاول الغرب صناعتها بين سورية والعراق وترضعها من أثدائها العثمانية حتى يشتد عودها لأن لاأمل لها الا بالثدي العثماني وهي محاصرة غربا وشرقا .. وربما كان من نتائج الدكتاتورية الاسلامية التركية التي يريدها الغرب أن تكون مثل قنبلة موقوتة هو استقطاب المجتمع التركي وابقائه متوترا ريثما تحين لحظة تقسيمه لأن الديكتاتورية الاسلامية لايمكن التنبؤ برد فعلها اذا ماخسرت السلطة في صناديق الاقتراع أو في انقلاب عسكري .. فهي تتصرف وكأنها في مهمة تاريخية وجهادية وان ليس من حقها فقدان السلطة بل حماية الخلافة التي خسرتها في حرب عالمية ولن تقبل بخسارة ثانية لها مهما بلغ الثمن .. حتى وان كانت الخسارة ديمقراطية في صناديق انتخاب ..   أهمية تركيا اليوم جاءت من دورها السوري فقط ودون مراوغة واجتهادات وتبريرات عن اسطورة الاقتصاد المتفوق الاسلامي وغير ذلك .. واستمرار الحرب السورية هو الذي يمد بعمر أردوغان الذي صار حاجة غربية لاستمرار الحرب على روسية والصين وايران من البوابة السورية ولذلك تم التمديد له بمشروع النظام الرئاسي حتى عام 2028 وهو عام يوافق نهاية الفترة الثانية للأسد لأن مشروع الشرق الاوسط الكبير تعثر ولم ينجز في الزمن المرسوم في الربيع العربي ويقدر له أن يتعثر لسنوات بعد أن ثبت ان الأسد يستحيل اسقاطه .. وقد قدم أردوغان أوراق اعتماده من جديد عقب الانتخابات الأخيرة بالقول بأن سورية تقسم قطعة قطعة .. وهو تعهد قديم يعيد تقديمه لمن صنعه وكلفه بمهمته وهي بناء قطع الشرق الأوسط الكبير قطعة قطعة .. وتقسيم سورية هو قلب الشرق الأوسط الجديد وقلب مهمته التي كلف بها منذ سنوات .. والشرق الاوسط الجديد بخرائطه الدموية يعتمد عليه .. ولكن ثبات الأسد في دمشق جعل مشروع التقسيم صعبا للغاية .. وهو مشروع لايتحقق الا بغياب الأسد وبقاء اردوغان .. وينتهي بغياب اردوغان وبقاء الأسد .. ولذلك بقي اردوغان ..   اردوغان كان قد بدأ مشروعه من سورية التي ساعدت في صعوده وسمحت له بالتدفق في قضايا المنطقة ومنحته صفة الوسيط الوحيد في المفاوضات مع اسرائيل بعد مسرحية دافوس ومرمرة ثم ساعدته اقتصاديا لانعاش اقتصاد شرق الاناضول على حساب اقتصاد شمال سورية وهذا ماساعد الكتلة الانتخابية في شرق الاناضول وهي الكتلة الاسلامية على الانتعاش والثراء ومن ثم اجتياح الاقتصاد التركي في غرب الاناضول مما اثر على الوزن الانتخابي لغرب الأناضول العلماني الذي لم يسترد موقعه منذ تلك اللحظة الفاصلة .. ولكن كما بدأ أردوغان مشروعه من سورية فان استمراره مرتبط بسورية .. ومن كانت بدايته واستمراره من سورية فان نهايته لاشك لايمكن ان تكون الا من سورية .. وان بيته العثماني أوهن من بيت العنكبوت الاسرائيلي ولن يصمد اذا هبت عليه الريح أو جزء من الريح التي هبت على سورية .. انه منطق النشوء والوجود والبقاء والخلود .. بأن لحظة الموت تقررها لحظة الميلاد .. فميلاده كان في سورية .. وموته سيكون في سورية .. مهما طال الزمن .. ولايزال هناك شيء خفي تنتظره تركيا والمنطقة ستجعل بائع البطيخ يدرك أن تركيا مجرد كومة بطيخ .. وأن تكسير وتقسيم سورية لايشبه تقسيم البطيخ على الاطلاق .. لكن البطيخة التي ستتكسر هي التي تقف فوق كتفيه .. وبامكانه انتظار معركة ادلب ليتحقق من ذلك ..  

المصدر : نارام سرجون


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة