دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لا مكان للمصادفة في الميدان السوري. فالمعادلات الإقليمية والدولية شديدة التعقيد التي يرزح هذا الميدان تحتها جعلت من المتعذّر حدوث أي أمر مهما بدا صغيراً وتافهاً من دون أن تتلطّى وراءه جملةٌ من الدوافع والمصالح لمختلف الأطراف المؤثرة فيه.
فكيف الحال إذا كان الحدث على درجة من الأهمية الإستراتيجية، ويتعلق، فوق ذلك، بتنظيم «داعش» الذي أجمعت دول العالم على محاربته وتتنافس أطراف كثيرة على وراثة الأراضي التي يسيطر عليها؟ قد يكون احتمال المصادفة هنا شبه معدوم. لكنه بالتأكيد سيصبح معدوماً عندما نكون أمام مشهد يقوم من خلاله تنظيم داعش بتنفيذ انسحابات متتالية ومتسارعة من مناطق بعضها ذات أهمية كبيرة، من دون أي قتال وفي ظل عدم وجود ضرورة موجبة؟.
لا شك في أنه سيكون من قبيل السذاجة تفسير هذه الانسحابات بأسباب سطحية أو الركون إلى رواية الفصائل المسلحة بأنها هي التي أجبرت التنظيم على الانسحاب خلال ساعات معدودة، في حين أنها كانت عاجزة طوال سنوات عن وقف تقدم التنظيم في تلك المناطق نفسها.
في مثل هذه الحالات لا تكون هناك حسابات معقدة تتلطى خلفها دوافع ومصالح وحسب، بل لا بد أن يكون «وراء الأكمة ما وراءها».
وهذا يقودنا إلى موضوع الانسحابات المفاجئة التي يقوم بها تنظيم «داعش» من مناطق في القلمون الشرقي وأخرى في البادية السورية، منذ عدة أيام، في مشهد هادئ لا يوحي بأجواء المعارك التي يخوضها التنظيم عادةً للتمسك بالأرض التي يسيطر عليها. فماذا وراء أكمة هذه الانسحابات؟ وهل هي مصادفة أم ضرورة اضطر التنظيم إليها أم الأمر أكبر وأعقد من ذلك؟
يذهب البعض إلى أن التنظيم اضطر إلى القيام بهذه الانسحابات بسبب الضغوط الهائلة التي يتعرض لها في العراق وسورية حيث يقاتل على عدة جبهات ضد خصوم أقوياء، ويعتقد هؤلاء أن التنظيم أصبح يعاني من مشكلة في عدد المقاتلين ولا يستطيع الانتشار على مساحات كبيرة لذلك بدأ بالانسحاب من بعض المناطق لتجميع عناصره في الجبهات الساخنة.
ويدعّم هذا الفريق رأيه بأنه بعد طرد «جند الأقصى» من مناطق انتشاره في إدلب وريف حماة والبادية، خسر تنظيم «داعش» آخر ممر كان يستخدمه لإيصال الإمدادات إلى مناطق سيطرته في البادية والقلمون، وهو ما زاد الضغوط عليه وخاصة بعد أن شنت الفصائل المسلحة ضده حملتي «سرجنا الجياد» و«طرد البغاة»، فوجد أنه لا قبل له بالمواجهة في غياب خطوط الإمداد ما دفعه إلى الانسحاب.
لكن هناك فريق ثان لديه وجهة نظر مختلفة تماماً. حيث لا يخفي هذا الفريق أن انسحاب «داعش» لم يكن من قبيل الضعف والانهيار، بل جاء نتيجة مفاوضات. وفي هذا السياق أشار القيادي السابق في «جبهة النصرة» أبو محمد صالح الحموي، وكان يشغل منصب «أمير حماة» وعضو مجلس الشورى، إلى «قيام الفصائل الإسلامية بالتفاوض مع داعش من أجل إقناعه بالانسحاب من سورية بكاملها والذهاب إلى العراق، مقابل أن يأخذ معه ما يشاء من مقاتلين ومهاجرين وأسلحة» وأضاف الحموي في تغريدات له على حسابه على «تويتر» أن «داعش اشترط عدة شروط للموافقة على الانسحاب لكن الفصائل رفضتها» وبذلك انتهت المفاوضات بحسب الحموي. وتجدر الإشارة إلى أن الحموي رغم عزله من «جبهة النصرة» ما زال مطلعاً على كواليس الأحداث بحكم علاقاته المتشعبة، كما أن منصبه السابق كـ «أمير حماة» يؤهله بشكل خاص لمعرفة الكثير من خفايا ما يدور في البادية وقطاعات الفصائل فيها.
غير أن إخفاق المفاوضات حول الانسحاب من جميع مناطقه في سورية، لا يعني عدم إمكان وجود مفاوضات مع داعش بخصوص الانسحاب من مناطق معينة. وهذا ما أكده الناشط المعارض عبدالله عبدالكريم، وهو من مدينة القريتين في ريف حمص، القريبة من منطقة المحسا التي تعتبر آخر أهم معاقل داعش التي لم ينسحب منها. ولم يكتف الناشط بالإشارة إلى وجود اتفاق بل ذكر أن لديه معلومات حول أطراف الاتفاق ومضمونه فقال في تغريدة على حسابه على تويتر إن «انسحاب تنظيم داعش من البادية تم بالاتفاق مع طرف نتحفظ على ذكر اسمه في الوقت الحالي». وحول مضمون الاتفاق ذكر الناشط أن انسحاب التنظيم لن يقتصر على البادية والقلمون بل سيشمل أيضاً «ريف حماة الشرقي». ولكن لماذا يقوم التنظيم بهذه الانسحابات الواسعة؟ أجاب الناشط لأن الاتفاق قضى بأن «الطرف الذي اتفق مع التنظيم يلتزم بتأمين السلاح وإرساله إلى التنظيم عبر وسطاء» مشيراً إلى أن هذا «لا يعني وجود اتفاق بين التنظيم وبين الوسطاء لكنه تقاطع مصالح فقط».
وينبغي وضع أكثر من خطين تحت عبارة «تقاطع مصالح» لأنها تشير إلى وجود غايات وأبعاد لهذا الاتفاق قد تتجاوز موضوع الانسحاب من بعض المناطق، إلى السعي لخلق واقع جديد تتحقق فيه مصالح الطرفين.
هنا ينبغي الرجوع إلى ما ذكره الناشط حول شمول ريف حماة الشرقي بالاتفاق، لأن انسحاب داعش من مناطقه في الريف الشرقي سيعني أن الفصائل المسلحة سيكون لها خط إمداد يمتد من الحدود التركية في الشمال وصولاً إلى المناطق التي انسحب منها التنظيم في البادية بالقرب من الحدود الأردنية جنوباً. وقد تكون هذه هي مصلحة الفصائل من وراء الاتفاق لأن قنوات الدعم التي طالما حجبت عنها بفعل الطوق الذي فرضه الجيش السوري عليها خلال السنوات الماضية، ستعود إليها وتزيد من قوتها.
والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا تحتاج الفصائل المدعومة من قبل الأردن وواشنطن إلى فتح خط إمداد مع تركيا في حين هي على الحدود الأردنية ويمكنها تلقي الدعم من مسافة أقرب؟ ثم ضد من ستقاتل إذا حصلت على الدعم الكافي؟ هل ستقاتل ضد داعش وهي التي اتفقت معه عبر الطرف الثالث (الذي لم يذكر الناشط من يكون) أم ضد الجيش السوري مخاطرةً في هذه الحالة بالتصادم مع روسيا باعتبارها حليفاً لدمشق وإحدى الدول الضامنة لوقف إطلاق النار؟.
تعيدنا هذه الأسئلة إلى بداية القول إنه لا مكان للمصادفة في الميدان السوري، لكن مع التأكيد بأن وراء الأكمة ما وراءها، سواء صدقت معلومات الناشط أم لم تصدق.
المصدر :
عبد اللـه علي
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة