سالت دماء أمس في دمشق. ما عاد أحد يهتم. نعدّ الشهداء والجرحى ونمضي. تسيل الدماء في بغداد، ما عاد أحد يهتم، نعد الشهداء والجرحى ونمضي. يتكوم جائع يمني فوق جثة والدته الشهيدة، يبكي حجر التراث العمراني العريق في اليمن، لا نذرف دمعة بعد، ننظر الى الجائع والجسد النحيل الممدد شهيدا ونمضي. تغرق ليبيا بالفتنة تلو الفتنة، لا نأبه نعد القبائل والعشائر والشهداء والجرحى ونمضي، ينوء الصومال تحت مجاعته واقتتال قبائله وارهابه، فلا نعد فيه أحدا ولا ننتبه للشهداء والجرحى ونمضي ...

 

أينكم أيها المثقفون الفارغون التائهون بين رغبة بالحصول على جائزة هنا ومكرُمة هناك؟ اتوجد ثقافة عربية عريقة بلا دمشق وبغداد؟ أتنتصب قوافي الشعر بلا بغداد ودمشق؟ أيفخر تاريخٌ بلا صنعاء والقدس ودمشق وبغداد؟ عمّا تكتبون بالله عليكم؟ عن مهرجانات التصفيق لمن يدفع أكثر؟ عن أسواق النخاسة الفكرية التي اشترتكم فقتلت ابداعكم وشرّعت ضمائركم وباعت أقلامكم بدرهمين من الفضة او التنك او الرمل؟

 

اينكم أيها العَلمانيون الذين كنتم تقضّون مضاجعنا بأفكار تريدونها بديلة للأديان، وها انتم تغرقون بفتن مدّعي الأديان، فتصبحون أبواقا لهذا المذهب ضد ذاك، وتنتصرون لشيخ هنا وخليفة هناك وتفرحون لمن يقطع باسم الدين وهو يبسمل ويحمدل فوق جسد مرتجف يبسمل ويحمدل كي يكون الذبح اقل ألما؟

اينكم أيها اليساريون الذين بقيتم تناهضون " الامبريالية" حتى فتحت لكم الأمبريالية نفسها أبوابها فذهبتم تسترزقون فيها، هذا يعطي درسا في الجامعة وذاك يأخذ منحة من " رأسمالي" ليعلم أولاده ؟ هل كنتم شيوعيين واشتراكيين فقط لعجزكم عن الوصول الى الراسمالية، وحين فتحت لكم قميصها غرقتم ترضعون خيرها من ثدييها كالخراف؟

أينكم أيها الكتّاب الأحرار، الذين تهللون لكل " ثورة" حتى ولو كانت " عورة"، فتدفعون بالناس الى ساحات الموت ، ثم تختبئون تحت الأسرّة بانتظار من سيربح، لكي تكتبوا عنه وله ومعه ؟

ان الثقافة في بلادنا يا سادة، صارت كبنات الليل، تنتظر عند قارعة التاريخ وأمام حدود الجغرافيا، من يعتليها ليمضي بها صوب ما يريد وأنى شاء. ان الثورات الحقيقية التي نجحت هي التي قامت على اكتاف مثقفين حقيقيين مؤمنين بقضايا شعوبهم ، لا بمثقفين يقفون كالنعاج في الصفوف الطويلة يصفقون لصاحب السعادة والسمو والسيادة يغدق عليهم بعض فضّة.

 

كم كان جميلا مظفر النواب، وهو يحشرج قصيدته " القدس عروس عروبتكم" حين وصفكم قائلا : "

من باع فلسطين سوى الثوار الكتبة؟

وهذا الثوري المتخم بالصدف البحري ببيروت

تكرّش حتى عاد بلا رقبة ؟"

 

 

ان دمشق أيها المثقفون المتكرشون من تخمة الراشي، هي أقدم مدن التاريخ وأعرقها. هي "دمشقا" التي ذُكرت في رسائل تل العمارنة. أي انها كانت هنا منذ الآف السنين. أي انها كانت هنا قبل القديس توما وكل الأنبياء والرسل أي قبل ١٤ قرنا من قدوم القديس توما الى بابه. أي قبل النبي والمسيح. رواها "بردى" من مائه كما تروي الأم جنينها من العروق. رواها حتى جفّ او يكاد. قاومت الغزاة مذ رأت النور. دمرها الأشوريون ثم قامت. غزاها الفرس الأخمينيون ثم انتصبت. جار عليها الاسكندر المقدوني ثم ركلته وشمخت. جاءها اليونان والرومان وظن القائد الغازي بومبي انه باحتلالها سوف يجعلها غربية الاتجاه والثقافة والحضارة، ركلته وازدادت عزة وكرامة وعادت أجمل، جاءها البيزنطيون ورحلوا، ثم كانت مفاتيحها للعرب المسلمين، فكانت لعبيدة بن الجراح وللأمويين والعباسيين والفاطميين. جاءها القرامطة والعثمانيون والسلاجقة والايوبيون وغزاها المغول..... دمرها المغول وأحرقوا ما فيها وقتلوا وشردوا ناسها، لكنها قامت. جاءها المماليك من مصر ثم العثمانيون من الجوار، والفرنسيون من الغرب ... صبرت، تحملت، تألمت، تجلدت، ثم ثارت وركلت الغزاة وطردتهم من أبوابها السبعة....جلست تأكل البرازق والمعمول المغزول على رحيق الورد ووريد القلب وتضحك. ها هو الجامع الأموي الذي حلم العثمانيون الجدد بالصلاة فيه يوما ما ، يرسّخ هويته وهوية الدمشقيين. لا يزال عربيا مسلما يرجّع صدى الكنائس العربية والسريانية والاشورية والكلدانية، فلا هو استقر معبدا لالهة الآراميين، ولا معبدا للرومان وجوبيتيرهم، وانما صار في التاريخ الإسلامي للمدينة مكانا لصلاة المسلمين والمسيحيين على السواء ...بات نموذجا يُحتذى من القدس حتى المغرب الأقصى..... فكيف لا تكون دمشق، قلب العروبة النابض، وقلب الإسلام النابض، وقلب المسيحية النابض، وقلب الاشوري والكلداني والسرياني والكردي النابض، كيف لا تكون قلب كل مؤمن بالحياة والمقاومة والصبر؟ كيف لا تنتفض يوما ما لتركل كل الغزاة وكل الملتحين زورا والملتحفين زورا باسم الدين....

ان دمشق وبغداد وصنعاء والقدس وطرابلس وغيرها من العواصم الجريحة ستلفظكم أيها المدعون الثقافة وانتم من الثقافة براء......

 

ملاحظة : لا يزال ثمة شيوعيون وعلمانيون واشتراكيون ومثقفون شرفاء. نتحدث فقط عمن باع نفسه

 

  • فريق ماسة
  • 2017-03-15
  • 13975
  • من الأرشيف

يا مثقفي الوطن العربي....أينكم؟

سالت دماء أمس في دمشق. ما عاد أحد يهتم. نعدّ الشهداء والجرحى ونمضي. تسيل الدماء في بغداد، ما عاد أحد يهتم، نعد الشهداء والجرحى ونمضي. يتكوم جائع يمني فوق جثة والدته الشهيدة، يبكي حجر التراث العمراني العريق في اليمن، لا نذرف دمعة بعد، ننظر الى الجائع والجسد النحيل الممدد شهيدا ونمضي. تغرق ليبيا بالفتنة تلو الفتنة، لا نأبه نعد القبائل والعشائر والشهداء والجرحى ونمضي، ينوء الصومال تحت مجاعته واقتتال قبائله وارهابه، فلا نعد فيه أحدا ولا ننتبه للشهداء والجرحى ونمضي ...   أينكم أيها المثقفون الفارغون التائهون بين رغبة بالحصول على جائزة هنا ومكرُمة هناك؟ اتوجد ثقافة عربية عريقة بلا دمشق وبغداد؟ أتنتصب قوافي الشعر بلا بغداد ودمشق؟ أيفخر تاريخٌ بلا صنعاء والقدس ودمشق وبغداد؟ عمّا تكتبون بالله عليكم؟ عن مهرجانات التصفيق لمن يدفع أكثر؟ عن أسواق النخاسة الفكرية التي اشترتكم فقتلت ابداعكم وشرّعت ضمائركم وباعت أقلامكم بدرهمين من الفضة او التنك او الرمل؟   اينكم أيها العَلمانيون الذين كنتم تقضّون مضاجعنا بأفكار تريدونها بديلة للأديان، وها انتم تغرقون بفتن مدّعي الأديان، فتصبحون أبواقا لهذا المذهب ضد ذاك، وتنتصرون لشيخ هنا وخليفة هناك وتفرحون لمن يقطع باسم الدين وهو يبسمل ويحمدل فوق جسد مرتجف يبسمل ويحمدل كي يكون الذبح اقل ألما؟ اينكم أيها اليساريون الذين بقيتم تناهضون " الامبريالية" حتى فتحت لكم الأمبريالية نفسها أبوابها فذهبتم تسترزقون فيها، هذا يعطي درسا في الجامعة وذاك يأخذ منحة من " رأسمالي" ليعلم أولاده ؟ هل كنتم شيوعيين واشتراكيين فقط لعجزكم عن الوصول الى الراسمالية، وحين فتحت لكم قميصها غرقتم ترضعون خيرها من ثدييها كالخراف؟ أينكم أيها الكتّاب الأحرار، الذين تهللون لكل " ثورة" حتى ولو كانت " عورة"، فتدفعون بالناس الى ساحات الموت ، ثم تختبئون تحت الأسرّة بانتظار من سيربح، لكي تكتبوا عنه وله ومعه ؟ ان الثقافة في بلادنا يا سادة، صارت كبنات الليل، تنتظر عند قارعة التاريخ وأمام حدود الجغرافيا، من يعتليها ليمضي بها صوب ما يريد وأنى شاء. ان الثورات الحقيقية التي نجحت هي التي قامت على اكتاف مثقفين حقيقيين مؤمنين بقضايا شعوبهم ، لا بمثقفين يقفون كالنعاج في الصفوف الطويلة يصفقون لصاحب السعادة والسمو والسيادة يغدق عليهم بعض فضّة.   كم كان جميلا مظفر النواب، وهو يحشرج قصيدته " القدس عروس عروبتكم" حين وصفكم قائلا : " من باع فلسطين سوى الثوار الكتبة؟ وهذا الثوري المتخم بالصدف البحري ببيروت تكرّش حتى عاد بلا رقبة ؟"     ان دمشق أيها المثقفون المتكرشون من تخمة الراشي، هي أقدم مدن التاريخ وأعرقها. هي "دمشقا" التي ذُكرت في رسائل تل العمارنة. أي انها كانت هنا منذ الآف السنين. أي انها كانت هنا قبل القديس توما وكل الأنبياء والرسل أي قبل ١٤ قرنا من قدوم القديس توما الى بابه. أي قبل النبي والمسيح. رواها "بردى" من مائه كما تروي الأم جنينها من العروق. رواها حتى جفّ او يكاد. قاومت الغزاة مذ رأت النور. دمرها الأشوريون ثم قامت. غزاها الفرس الأخمينيون ثم انتصبت. جار عليها الاسكندر المقدوني ثم ركلته وشمخت. جاءها اليونان والرومان وظن القائد الغازي بومبي انه باحتلالها سوف يجعلها غربية الاتجاه والثقافة والحضارة، ركلته وازدادت عزة وكرامة وعادت أجمل، جاءها البيزنطيون ورحلوا، ثم كانت مفاتيحها للعرب المسلمين، فكانت لعبيدة بن الجراح وللأمويين والعباسيين والفاطميين. جاءها القرامطة والعثمانيون والسلاجقة والايوبيون وغزاها المغول..... دمرها المغول وأحرقوا ما فيها وقتلوا وشردوا ناسها، لكنها قامت. جاءها المماليك من مصر ثم العثمانيون من الجوار، والفرنسيون من الغرب ... صبرت، تحملت، تألمت، تجلدت، ثم ثارت وركلت الغزاة وطردتهم من أبوابها السبعة....جلست تأكل البرازق والمعمول المغزول على رحيق الورد ووريد القلب وتضحك. ها هو الجامع الأموي الذي حلم العثمانيون الجدد بالصلاة فيه يوما ما ، يرسّخ هويته وهوية الدمشقيين. لا يزال عربيا مسلما يرجّع صدى الكنائس العربية والسريانية والاشورية والكلدانية، فلا هو استقر معبدا لالهة الآراميين، ولا معبدا للرومان وجوبيتيرهم، وانما صار في التاريخ الإسلامي للمدينة مكانا لصلاة المسلمين والمسيحيين على السواء ...بات نموذجا يُحتذى من القدس حتى المغرب الأقصى..... فكيف لا تكون دمشق، قلب العروبة النابض، وقلب الإسلام النابض، وقلب المسيحية النابض، وقلب الاشوري والكلداني والسرياني والكردي النابض، كيف لا تكون قلب كل مؤمن بالحياة والمقاومة والصبر؟ كيف لا تنتفض يوما ما لتركل كل الغزاة وكل الملتحين زورا والملتحفين زورا باسم الدين.... ان دمشق وبغداد وصنعاء والقدس وطرابلس وغيرها من العواصم الجريحة ستلفظكم أيها المدعون الثقافة وانتم من الثقافة براء......   ملاحظة : لا يزال ثمة شيوعيون وعلمانيون واشتراكيون ومثقفون شرفاء. نتحدث فقط عمن باع نفسه  

المصدر : الماسة السورية/ سامي كليب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة