دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
كلما قررنا أن نخوض مواجهة فكرية مع ماتنتجه المعارضات العربية عموما والسورية خصوصا نجد أنفسنا اننا امام تحد أخلاقي لم نعهده من قبل في أي نقاش مع أي خصم ..
ونجد أنفسنا كل يوم أمام حيرة جديدة في تفسير كلام ومنطق المعارضين الصادم الذي لم يتوقف عن فلسفة الصدمة والروع في طروحاته المدهشة في غرائبيتها ..مثل التوسل للناتو لقصف البلاد .. البحث عن الفصل السابع لرهن البلاد للدول الغربية .. اعادة سورية للاحتلال العثماني .. تمجيد الملكية الوهابية السعودية الظلامية .. جهاد النكاح ..
وكلما قررنا أن نفسر مبالغات المعارضة وأساطيرها في وصف الأحداث نجد أنفسنا أيضا امام تحد سيكولوجي ونحن نواجه اسلوب الأسطرة وأسلوب الف ليلة وليلة الذي يدخل على الرواية السياسية وتفسيراتها للأخبار والتقارير .. ونحتاج الى قدر كبير من التدقيق العقلاني للفصل بين أسلوب المبالغة القصصية المشوق للأساطير الميثولوجية وللحكايات الشعبية التي تحكي بسذاجة حكاية الزير سالم وعنترة بن شداد .. فلاشك أن السردية التي تقدمها المعارضات العربية السياسية فيها شيء من مبالغة الحكواتية في المقاهي التي تدغدغ سذاجة المستمعين وعقولهم البسيطة ..
ويستطيع أحدنا ان يفهم أن المعارضين يريدون ادانة النظام السوري كما يقولون وهم يرون أنهم في وضع يبرر لهم استعمال كل الوسائل اللاأخلاقية في تصوير حربهم مع الدولة السورية على أنها حرب ضد الوحشية والقمع وأنها تقاتل من أجل الحرية والكرامة .. ولكن لايستطيع أن يفهم لماذا تتبرع المعارضة السورية لتبرئة جاسوس اسرائيلي مثل كوهين من تهمة التجسس وتصويره بطلا أمميا ..
فالجاسوس الاسرائيلي الشهير ايليا كوهين قدمته روايات المعارضة الأخيرة - هكذا ودون مقدمات - على أنه ليس جاسوسا على الاطلاق بل مناضل يهودي وبطل لم يأت للتجسس الى سورية .. والرواية المعارضة تضرب بعرض الحائط كل الروايات التي سردت عن هذا الجاسوس وتضرب رواية المخابرات المصرية وعدة أجهزة استخبارات دولية .. والغريب أنها تضرب حتى الرواية الاسرائيلية نفسها التي تباهي بعملية كوهين التي تعتبرها مفخرة عمليات الموساد (قبل عملية زرع عزمي بشارة) .. بل ان ضباط الموساد لم يخطر ببالهم هذا التفسير والتقديم للبطل االاسرائيلي كوهين الذي تبرعت الثورة السورية بكشف اللثام عن مهمته الحقيقية وذلك في سبيل تجريم النظام السوري الذي يقاتلها .. فاسرائيل لاتزال تقول انه أحد ابطالها وأبنائها البررة الذين ذهبوا في مهمة تجسس ناجحة صارت أسطورة في عالم الجاسوسية الناجح ولم تغير الرواية الاسرائيلية منذ خمسين سنة .. ولكن المعارضة السورية ودون أن يطلب منها أحد تبرئة كوهين من تهمة التجسس صارت تقدم تفسيرات عجيبة لمهمة كوهين في سورية .. فهو -حسب رواية المعارضة - لم يأت الى سورية جاسوسا بل أتى في مهمة ملاحقة الضباط الألمان النازيين الذين آواهم النظام السوري .. وتضيف الرواية المعارضة أن كوهين انما جاء أيضا بمهمة مساعدة ضباط بعثيين للوصول الى السلطة رصدت اسرائيل حركتهم المبعثرة فأرسلت كوهين ليمدهم بالخبرة والتقاهم ونسج معهم بدايات الحكم البعثي .. الذي لايزال مستمرا حتى اليوم ..
طبعا ماتريد رواية المعارضة ان تقوله ساذج للغاية وساقط الى حد بعيد .. فالرجل صار فجأة بريئا من تهمة التجسس .. لكنه كان يبحث عن نازيين في سورية .. والغاية من هذه التبرئة اظهار النظام السوري البعثي حسب هذه الرواية على أنه امتداد للنظام النازي (عدو الانسانية) لأنه وفق هذا الزعم آوى الضباط النازيين الألمان الذين يشتركون معه في فلسفة الابادة ويلاحقهم العالم .. والنظام السوري الحالي هو امتداد أيضا للنظام البعثي الذي أسسه كوهين مع مجموعة من الضباط البعثيين .. وهذه رسالة تشويش أخرى للعرب تسير بالقارئ الى اتجاه مناقض وهي أن النظام السوري (صديق النازيين وحبيبهم) هو منتج من منتجات الموساد السرية ..
نام أيليا كوهين في قبره المجهول عشرات السنين .. وصدرت عن اسرائيل عشرات البيانات والقصص والتقارير ولكن لم يقل اي تقرير منذ لحظة اعدامه عام 1965 فيها أن كوهين كان يبحث عن ضباط نازيين مختفين في سورية رغم ان هذا الادعاء كان يمكن لاسرائيل أن تستخدمه للضغط على الحكومة السورية لمنع اعدامه .. وحده معارض سوري فذ اكتشف أن المغفور له كوهين وصل الى دمشق في مهمة رئيسية لاعلاقة لها بالتجسس بل هي البحث عن الضباط النازيين الذين فتكوا بالشعب اليهودي لأن دمشق كانت وكرا لهم وهي التي قدمت لهم الملاذ .. أما المهمة الثانية فهي اسطورية لأن كوهين وصل ليمول مجموعات من البعثيين تشممت اسرائيل نيتهم للوصول الى السلطة فساعدتهم ومولتهم عبر كوهين .. وهكذا وبمنتهى الصفاقة والسذاجة والتناقض يصبح حزب البعث امتدادا للنازية ولكنه في نفس الوقت منتج اسرائيلي وخدع العرب والشعوب لانه كان في الحقيقة حزبا اسرائيليا يحكم دمشق (وليس العراق لأن الهجوم الآن كان على بعث سورية وليس على حزب العراق) !!! .. ولذلك أغفلت الرواية المعارضة الهوليوودية ان كان بعثيو العراق أيضا من انتاج الاسرائيليين .. ويصبح كوهين مثل جيمس بوند الذي يلاحق المجرمين الى أقاصي لأرض .. ولكنه يختفي فجأة مثل الأبطال والفدائيين ..
أما لماذا أعدم الضباط البعثيون الجاسوس جيمس بوند كوهين المختص باصطياد النازيين والذي وصل في مهمة لتقوية البعثيين أنفسهم؟؟ فهذا أمر لم تجب عنه المعارضة في الرواية الهوليوودية التي لاتقدم حتى قصاصة واحدة كوثيقة .. حتى عنترة بن شداد يملك وثائق على بطولاته أكثر من هذه الرواية السخيفة ..
وقد قررت أن اساعد المعارضة في تقديم تفسير ذلك حسب منطق الاسطورة المعارضة الساذج وسأوفر عليهم الجهد و اقول نيابة عنهم كوني صرت أعرف منطقهم: ان الضباط البعثيين فتكوا بكوهين وأعدموه لأنهم ناكرون للجميل وغدارون .. فالغدر والطعن في الظهر طبعهم .. كما أن اصول التجسس والوصول الى الحكم يقتضي اجراء مسرحية (مثل مسرحيات كوهين التركي اردوغان الذي مثّل علينا مسرحيتي دافوس ومرمرة) .. وقد غض الموساد النظر عن اعدام كوهين ليقدم البعثيين على أنهم وطنيون ولكنهم في الحقيقة عملاء للموساد دمروا الشعب السوري الى ان صار الشعب السوري لا يطيق ذلك فتمرد في ثورة عارمة تحاول اسرائيل اخمادها بمساعدة ايران وحزب الله الذي قام بتمثيلية حرب تموز عام 2006 ليقنع العرب والمسلمين انه حزب مقاوم ..
طبعا كلنا نذكر أن النائب الاسرائيلي عزمي بشارة قدم طلبا للمعارضين السوريين منقولا عن أيوب قرا وجاء على شكل اقتراح منه ليحصلوا على تأييد غربي كاسح عبر اللوبي اليهودي وهو التعهد للبحث عن رفاة كوهين عند الوصول الى السلطة واعادتها الى أسرته كبادرة سلام خاصة واثبات لحسن النية في مرحلة مابعد الأسد .. وقد تلقى الاقتراح وعدا من المعارضين السوريين في الدوحة ان كوهين ليس همهم وليس جزءا من تراثهم بل من تراث البعث .. بل ان قاتل كوهين قتلهم ايضا ويستحق منهم التعاطف ..
لاغرابة ان يصاب أحدنا بالحيرة عندما يحاول أن يفسر اصرار المعارضة على تقديم كل شيء لاسرائيل الجولان والسلام وحتى براءة اسرائيل من كل جرائمها رغم أن الثوار الذين لم يسامحوا النظام كما يقولون على جرائمه قرروا مسامحة اسرائيل على جرائمها بل وتبرئتها حتى من تهمة صغيرة هي التجسس علينا التي تفاخر بها اسرائيل نفسها .. ففي الحرب على سورية مسحت اسرائيل ذاكرة العالم بصور صنعتها لها المعارضة السورية .. وصارت اسرائيل ممرضة وملاك الرحمة الذي يسعف الجرحى ويضمد جروح الشعب الذي يكرهها وحاربها ورفضها عندما ألمّت به نائبة الاستبداد .. ونسي العالم مجازر اسرائيل في غزة ولبنان وفلسطين ومصر .. بل ونسي العالم النازيين والهولوكوست وسجن غوانتانامو وسجن ابو غريب والمعارضة السورية تقدم بدائل أكثر وحشية في سجون النظام وسجن صيدنايا وصور قيصر ..
ان تبرئة كوهين عملية صغيرة جدا في سياق عملية كبيرة أضخم منها انطلقت منذ اللحظة الأولى للحرب السورية .. فنحن نلاحظ أن مايسمى المعارضة السورية لم تكن تقوم بادانة النظام السوري فقط بل كانت تقوم في عملية موازية دوما بتبرئة اسرائيل على نطاق واسع للتمهيد لعملية تطبيع وكي للوعي تأخذ شكل التطبيع الثقافي والسياسي مع الدولة العبرية ..
حيث يتفق جميع الكتاب المعارضين السوريين منذ ذلك الوقت تقريبا وبشكل ملفت للنظر عند سرد فظائع النظام السوري على ترويج وتكرار لازمة مقدسة تقول دوما: ان اسرائيل نفسها لم تفعل بنا مافعله النظام السوري .. ومافعله بنا حزب الله .. وستجدون هذه العبارة ملازمة كثيرا لتصريحات المعارضين منذ الايام اللأولى للحرب على سورية في تكرار مثير للريبة والشك من عملية المقارنة دوما بين اسرائيل والنظام الذي تحاربه المعارضة .. وهذا طبعا جزء من عملية ترويض عقلي ونفسي للتقارب الشعبي مع الاسرائيليين ضد الدولة السورية وحلفائها .. وتم تكرار العبارة منذ بداية الأحداث حتى قبل أن تصل الامور الى معارك في الأحياء وكانت تسمع في شوارع درعا ومظاهراتها وفي مظاهرات حمص لمجرد صدام بين المتظاهرين وقوات الأمن .. وكان الجميع يكرر مع المناوشات الأولى وسقوط أولى الضحايا ان اسرائيل لم تفعل بنا هذا .. واللي بيقتل شعبه خاين .. حتى شارون صار حبيبنا .. وكان هذا كافيا لان يرتكب المعارضون كل الجرائم التي لم تخطر لنا على بال بشكل بشع وهستيري وخال من الانسانية من نهش القلوب والنحر والسبي وحرق الأحياء وقلع العيون وقصف المدن والمدنيين واطلاق الفتاوى الغريبة الشاذة في تبرير الاغتصاب والزنا لأنه يثار من نظام قتله أكثر مما قتلته اسرائيل ..
وكانت اسرائيل لاتراقب فقط عن كثب بل كانت غرف عملياتها تحرض على هذه الأفعال الرهيبة والأقوال التي تقارن بين اسرائيل و"النظام" السوري وتنتظر أن ينفعل خطاب الدولة السورية ويقول بأن اسرائيل نفسها لم تفعل بالشعب السوري ذلك .. وهي هدية ثمينة تنتظرها اسرائيل لتبرئتها من الوحشية بلسان الدولة التي اتهمتها بالوحشية وحرضت عليها منذ ستين عاما .. ولكن الدولة الوطنية الواعية بالرغم من هذا التوحش الذي سلكته المعارضة ومناظر اعدام الجنود السوريين على يد المعارضة واذلال الأسرى وذبحهم لم تقل يوما ان الاسرائيليين لم يفعلوا بنا مافعلته المعارضة السورية .. ولم تقل بأن اسرائيل لم تقتل أسرانا وتعذبهم هكذا .. وكانت تستطيع قول ذلك ببساطة للتحريض على المعارضة وتجييش السوريين ..
الدولة الوطنية السورية التزمت الصمت بشكل محير ولم تنفعل لأسباب عدة .. وهي أنها بمثل هذه التصريحات تقدم خدمة مجانية لاسرائيل التي تروج لمقولة انها محاطة بقبائل بدائية وشعوب همجية تعترف الآن سواء كانت أطرافا رسمية أو معارضة ان اسرائيل لاتتفوق عليها في همجيتها .. والسبب الأهم الذي جعل الخطاب السوري متعقلا ولايقع في الفخ هو أن هناك حقيقة راسخة وساطعة وهي أن مايحدث الآن بيد المعارضة من فظائع هو من فعل اسرائيل خلف الكواليس واستمرار لوحشيتها عبر لعبة الثورة السورية حيث تقتل اسرائيل وتعذب وتقطع الرؤوس وتعدم الطيارين والعسكرين والخبراء السوريين ومهندسي الصواريخ والباحثين النوويين بيد مواطنين سوريين وعرب ومسلمين وتدمر الاقتصاد وتفقر الشعب الذي رفض قبولها وبنى محور مقاومة وتضرب له محطات الطاقة والمياه والسدود والآثار.. وهذه كلها ليست الا أهدافا في بنك الأهداف الاسرائيلية .. كل مايحدث في الشرق هو عملية اسرائيلية - غربية صرفة واننا نموت بيد اسرائيلية - غربية لكنها تستعمل العرب والمسلمين والسوريين بمهارة فائقة ..
رغم أننا يمكن ان نرد على المعارضة بالقول أن اسرائيل لم تفعل بنا مافعلتموه فاننا لايمكن أن نقولها ونرفض المقارنة .. ولايصح ان نقولها .. لأننا بذلك نقدم اسرائيل فعلا على أنها القوة الأخلاقية التي تحارب قوى لاتملك أخلاقا باعترافنا نحن عندما نكثر من تأثيم المعارضة وتفضيل أخلاق اسرائيل عليها ..
اذا أردنا أن نقول الحقيقة عارية فهي أن المعارضة مارست الخيانة العظمى .. والخائن يفعل مايطلب منه العدو فقط ومافعلته المعارضة هو ماطلب منها اسرائيليا .. ويكون ماحدث فينا هو مافعلته اسرائيل بنا باستخدام الخونة والعملاء .. وعندما نفتك بهؤلاء القتلة ونهدم اماراتهم وتنظيماتهم الاسلامية فان اسرائيل تتوجع .. وتنزف .. وتتألم .. ويئن الجيش الاسرائيلي .. ويتلوى كوهين في قبره المفقود على اخوته ..
آه ياكوهين أيها الجاسوس .. كم أخ لك لم تلده أمك ..
المصدر :
نارام سرجون
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة