دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
قبل ثماني سنوات، كان الآلاف يهللون في برلين للرجل الأسمر الطويل، يرتقي المنصة برشاقة، ليوزع ابتساماته معلناً عهداً جديداً في عالم تحكمه أميركا مع أول رئيس أسود في تاريخها. بعد ثماني سنوات، ها هو يعود للوداع، فيأتي كلامُه كمن يوزع وصاياه في خطاب هزيمة.
رأسٌ غزاه الشيب، مع وجه ممتقع بالعبوس حينما يشرد منقباً عن الكلام، يستطرد ليتذكر أنه يُحدّث العالم عن أميركا سيسكن بيتَها الأبيض دونالد ترامب. ليست أقل من مصيبة في نظر الحلفاء الأوروبيين. كان واضحاً أن انتصار «الترامبية» هزيمة لأميركا باراك أوباما، وهزيمة أيضاً لحلفائها المرتعبين من انتشار عدواها. بعدما حلت المصيبة لا شيء مضمونا، كانت وصيته تقول بوضوح.
الرئيس الأميركي التقى المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل في آخر جولة أوروبية له. يجتمع أيضا اليوم مع زعماء الدول الكبيرة الأخرى: بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، اسبانيا. ولا واحد منهم ينام قرير العين على حكمه. لم يتعافوا بعد من الأزمة المالية، مع مصاعب اقتصادية تترسب في القاعدة الشعبية، ناشرة الغضب والإحباط، ليواجهوا النتيجة مع أزمة سياسية تهدد القارة بانتصارات جديدة لـ «الترامبية» المعششة فيها. لا يكفي كل ذلك، ليأتي الحديث عن «الأزمة الأمنية»، بعد وعيد الرئيس الأميركي المنتخب بنزع الحاضنة العسكرية الأميركية.
خلال حديثه إلى جانب ميركل، حاول أوباما الطمأنة بالتشديد على أن «الناتو» راسخ بوصفه «دعامة الأمن العالمي»، أن «أمن وسلام أوروبا مصلحة أساسية» لواشنطن، أن «الالتزام» بأوروبا ليس محطّ تشكيك، أن الاتحاد الاوروبي «أحد أهم الإنجازات في العالم»، أن الشراكة راسخة وقائمة على القيم والمبادئ، لكن كل ذلك لا يحمل حصانة ذاتية. إشارة تجنب معها أوباما تكرار الانتقادات للأوروبيين بضعف إنفاقهم العسكري، بما يعني قسطهم من تكاليف مظلة «الناتو»، فهذا آخر ما يريده مستضيفوه، بعدما نشر ترامب ما يكفي من الهلع والتشكيك بصلابة الشراكة العابرة للأطسي. ميركل باقتضاب، وسرعة، قالت إنه لا حاجة للتذكير: «إنه حلفنا (العسكري)، واستمرار هذا الاختلال غير ممكن على المدى الطويل».
خطة التحرك الأوروبي أعلنت أخيراً تحت عنوان البحث عن «الاستقلالية الاستراتيجية»، عبر إقامة اتحاد دفاعي وأمني، على أمل أنه يمكن يوماً تعويض الضمانة العسكرية الأميركية: استكشاف إمكانيات التعاون الدفاعي أينما أمكن، من إنشاء هياكل قيادة مشتركة وصولاً إلى دعم مشاريع صناعية عسكرية أوروبية. النقاش يتقاذف القضية يوميا في أوروبا، على مستوى صنّاع القرار، النقاش العام، وكذا بالنسبة لمراكز الأبحاث.
لكنه نقاش ليس جديداً. القضية طرحت سابقا، وحينها أوحى الأوروبيون أيضا أنهم سيتحركون على صعيد الاتحاد الدفاعي. لماذا ستكون هذه المرة مختلفة؟ السؤال وجهته «السفير» لرئيس الاركان الايطالي السابق فيشينزو كامبوريني، فهو الآن يترأس مركز أبحاث «معهد الدراسات الدولية»، القادم إلى بروكسل للمساهمة في هذا النقاش. ردّ على الفور: «الآن بات الملك عارياً. لأنه لم يعد لدينا ولدى السياسيين أعذار إضافية للتراجع. الوضع في العالم يتغير تغيرا دراماتيكيا، وليس لدينا سوى خيار واحد علينا القيام به»، في إشارة إلى العمل لبناء الدفاع الأوروبي المشترك.
دراماتيكية العالم لم تتوقف، التهديدات التي تساق كانت موجودة في الطوق الأوروبي بأشكال مختلفة، ما المختلف فعلاً هذه المرة؟ يرد الجنرال كامبوريني «الأمور الآن باتت أكثر نضوجا للمضي في هذا الخيار، فليس أمامنا غيره. لأن الولايات المتحدة لن تكون إلى جانبنا بعد الآن، المسألة لا تتعلق بترامب أو بكلينتون، بل بتراجع أميركا عن انخراطها القوي كما في السابق»، قبل أن يضيف «سنواجه المشاكل بدون أمل أن الأخ الأكبر سيأتي ليدعمنا. علينا أن نجمع قدراتنا لأن ما يحدث في العالم الآن يتطلب وجود أحد يكون عامل استقرار».
تلك الكلمات كانت قد لخّصتها بروكسل بصيغة مختلفة، حالما طرحت تنفيذ الاستراتيجية الدولية، متحدثة عن «الطلب المتنامي» في العالم على التكتل الأوروبي بوصفه «قوة عظمى تؤمن بالتعدد».
الرئيس الأميركي حدد الأولويات الأمنية مع أوروبا ببضع نقاط أساسية، رغم أن ترامب وضع علامات استفهام أمام كل منها: مواصلة الالتزام بالاتفاق النووي مع إيران، الاستمرار بترك باريس وبرلين تقودان الدفة في الأزمة الأوكرانية، مع الالتزام المتجدد بالعقوبات المفروضة على روسيا حتى «التطبيق الكامل» لاتفاق «مينسك» الناظم للصراع الاوكراني. ميركل أعادت التأكيد على أن التعامل مع روسيا سيبقى «بأدوات سياسية لإنجاز تسويات سياسية».
فرنسا وألمانيا تنخرطان في التفاوض مع روسيا وأوكرانيا، ليكون الملف محصورا بما سُميّ «مجموعة النورماندي». الرسالة الأوكرانية لأوباما كانت بمثابة «الشكر» للدور الأوروبي، كما قالت لـ «السفير» مصادر واسعة الاطلاع. تقول المصادر إنه «حينما انتشر الصراع المسلح في شرق أوكرانيا، استشار أوباما الزعماء الأوروبيين حول كيفية التصرف، فقد كان يواجه ضغوطاً قوية من الجمهوريين للانخراط العسكري»، قبل أن تؤكد أن «زعماء فرنسا وألمانيا وايطاليا رددوا أمامه موقفاً مشتركاً: الانخراط الأميركي عسكرياً سيكون خطيراً جداً لأنه سيجر إلى حرب طويلة، لذلك سيكون على أميركا أن تعدّ نفسها لالتزام عسكري طويل الأمد».
وفق تلك الرواية، تمّ بنجاح تجميد الصراع الأوكراني، مع الاقتصار على استخدام سلاح العقوبات ضد موسكو. إحدى التبعات، بقصد أو بدونه، كانت تغذية الصراع العسكري في سوريا. العقوبات متواصلة، من المتوقع أن تجددها أوروبا بداية العام المقبل، فالقضية تصدرت نقاشات أوباما الأوروبية. الرئيس الأميركي أشار إلى روسيا بما يضعها في مرمى أسلحة السياسة الغربية، معتبرا أنها «دولة مهمة» لكونها «قوة عظمى عسكريا»، في إشارة إلى أداتها الوحيدة لتحقيق نفوذها الدولي.
لذلك، وفق أوباما، هناك «مصلحة في العمل مع روسيا والحصول على تعاونها». قال إنه يأمل أن يواصل ترامب هذا المسار من «النهج البناء»، لكن على ألا يتردد في الوقوف في وجه موسكو حينما «تتعارض القيم»، محذرا من نهج «عقد بعض الصفقات مع روسيا حتى لو كانت تؤذي الناس، أو تنتهك المعايير الدولية، أو تترك الدول الأصغر هشة، أو تخلق مشاكل طويلة الأجل في مناطق مثل سوريا».
هذه المرّة، تجاوز أوباما التفصيل في الانتقادات لموسكو ولدمشق، متحدثا كمن يفترض أن هناك إطار تفاهم لا يزال صالحا. ردد هنا أن الطريقة التي سيحلّ فيه الصراع السوري ستكون عبر «اعتراف من روسيا والاستعداد للضغط على الأسد»، على أساس أن «السلام المستدام» القادر على استعادة الدولة «يتطلب موافقة الشعب، لا يمكن الحصول على هذه الموافقة عبر قصفهم،» وفق زعمه ، قبل أن يستدرك «لم يقوموا بهذا الانتقال حتى الآن لكن سنواصل هذا المسار». ميركل، من جهتها، مهّدت لموقفها بسلسلة انتقادات للرئيس السوري بشار الأسد، كأنها تردّ على عرضٍ ببناء حجّة، قبل أن تختم «لذا لا أراه كحليف».
القضية السورية ستكون حاضرة على طاولة حديث أوباما مع الزعماء الأوروبيين. حديث مصادر أوروبية لـ «السفير» أظهر أن «خيار التقسيم» في سوريا مطروحٌ أيضا على الطاولة، كما أن الأوروبيين لم يحسموا موقفاً موحداً منه، رغم وجود أصوات عديدة تعتبر أنه «لن يجلب السلام». على ما يبدو، الرئيس الأميركي يريد سماع رأي الأوروبيين في القضية، إضافة إلى حاجة أوروبا للحديث بصوت واحد إلى الادارة المقبلة، مع كل المجهول المحيط بخياراتها.
الأكيد بالنسبة للأوروبيين أن العمل لتأمين مظلة دفاعية بات خياراً مفروضاً الآن. باريس التي كانت علاقتها مع «الأطلسي» إشكالية، انسحبت منه وعادت، مغتبطة بإمكانية أن تلعب قوتها العسكرية المهمّة دوراً محورياً، يوازن الكفّة مقابل القيادة الاقتصادية لألمانيا. ميركل معنية شخصياً بتقديم الإجابات، فهي ستحاول العودة مستشارة لمرة رابعة في انتخابات الصيف المقبل. المتحدث باسم السياسة الخارجية في حزبها رودرينغ كايسوتر يقول معلقاً على المأزق الأمني للقارة إن «الدرع النووية الأميركية وضماناتها الأمنية لا بدّ منها لأوروبا.. على أوروبا البدء بالتخطيط لأمنها إذا رفعت أميركا تكلفة الدفاع بحدة على القارة أو قررت المغادرة تماما».
بعض من لديهم باع طويل في هذا النقاش متشككون جدا. يعلق وزير خارجية السويد السابق كارل بيلدت على ذلك بالقول إنه «حينما يقال غالبا إن الولايات المتحدة تمثل 70 في المئة من الإنفاق الدفاعي للناتو، فعلينا ألا ننسى أن هذا الإنفاق الأميركي عالميّ، مع هدف واضح هو أن تكون 60 في المئة من القوات البحرية والجوية (الأميركية) موجودة في منطقة آسيا - الهادئ»، معتبراً أن مهادنة ترامب لروسيا في أوكرانيا «ستشجع من دون شك عملية زعزعة استقرار من المرجّح أنها لن تكون أبدا مقصورة على أوروبا».
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة