دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
قُبيل معركتين مصيريتين متوقعتين في الفترة المقبلة في كلٍّ من مدينتي حلب والرقة، تتبلور شيئاً فشيئاً خريطةٌ جديدة لتوزّع القوى فوق الأراضي السورية، وكيفية تفاعلها في ما بينها، وفق شبكات معقدة من المصالح الآنية والمستقبلية لكل طرف.
جندي من الجيش السوري داخل نفق في بلدة الحويقة في دير الزور السبت الماضي (أ ف ب)
وفيما تتزاحم غالبية هذه القوى فوق الشطر الغربي من البلاد، وتحديداً في محافظة حلب ومحيطها، يبدو الشطر الشرقي أقلّ ازدحاماً، خصوصاً في ظل عدم وضوح مصير معركة الرقة وماهية الأطراف المشاركة فيها، ودور كلّ منها، وذلك مع عدم التغافل عن أنّ ما يجري غرباً سيكونُ له دورٌ في تحديد العديد من مسار التطورات شرقاً، خصوصاً ما يجري في مدينتي منبج والباب.
ولم يعد خافياً أن عملية «درع الفرات» لم تؤدّ إلى طرد «داعش» من الشريط الحدودي مع تركيا، الممتد بين جرابلس وحتى إعزاز، وحسب، بل هي توّجت أنقرة باعتبارها اللاعب الرئيسي في تلك المنطقة، وسط تراجع واضح للدور الأميركي.
هذا الأمر انعكس بسرعة على علاقة الفصائل بعضها ببعض، حيث تراجع دور ما يسمّى «فصائل البنتاغون»، والمقصود بها الفصائل المدعومة من الولايات المتحدة، وهي «الحمزة» و«المعتصم» و «اللواء 51»، مقابل تزايد دور الفصائل الإسلامية والتركمانية المدعومة من أنقرة، وعلى رأسها «أحرار الشام» و «نور الدين الزنكي». والأخيرة انضمت إليها خلال يومين ثلاثة فصائل هي «أحرار سوريا» و«سيوف الشهباء» و«جيش الشمال».
ويبدو أن «حركة نور الدين الزنكي» يجري تحضيرها تركياً لتقوم بأدوار أساسية في المرحلة المقبلة، سواءً في أحياء حلب الشرقية أو في ريف حلب الشمالي.
وأشارت «السفير» في تقرير سابق إلى أن الصراع الذي حصل في إعزاز حول «حاجز الذهب» كان من تجليات القوة التركية المتنامية ورغبتها في توجيه الرسائل إلى حلفائها وخصومها للاعتراف لها بهذا الدور. وكانت الرسالة الأبرز موجهةً إلى واشنطن، وقد أثبتت التطورات اللاحقة صحة ذلك، إذ بعد مرور ساعات قليلة على الرسالة التركية، كان شمال حلب على موعد مع تطورات لافتة تصبُّ جميعها في إطار التضارب بين أنقرة وحلفائها مقابل واشنطن وحلفائها.
فمن جهة، أعلنت «قوات سوريا الديموقراطية» نيتها الانسحاب من مدينة منبج، وهو مطلب تركي قديم. وتدلُّ الاستجابة إليه (ولو ظاهرياً) بعد مرور كل هذا الوقت على مدى النفوذ التركي المستجد في المنطقة. ومن جهة أخرى، أعلن «التحالف الدولي» أنه لا يدعم فصائل «درع الفرات» المدعومة تركياً في عمليتها الرامية للسيطرة على مدينة الباب.
وقال المتحدث باسم «التحالف» الكولونيل جون دوريان في تصريح للصحافيين في مقر وزارة الدفاع الأميركية، أمس الأول، إن «لنا قوات شاركت مع تركيا والقوات المتحالفة معها لبعض الوقت في كثير من العمليات في شمال سوريا، لكنها لا تشارك في الزحف نحو الباب»، مؤكداً أن «التحالف لا يشن ضربات جوية لدعم العملية أيضاً».
وتزامنت تلك التصريحات مع تلويح تركي غير مسبوق بأن الهدف التالي بعد مدينة الباب قد يكون مدينة عفرين، الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» المدعومة أميركياً، وذلك بحسب ما ذكرته شبكة «سي أن أن» التركية نقلاً عن هيئة أركان الجيش التركي قبل يومين.
وتأتي مجمل هذه التطورات لتؤكد انحسار الدور الكردي، واضطراره للتراجع أمام تقدم الدور التركي في مناطق غرب نهر الفرات على الأقل. ومما لا شك فيه، أن «قسد» لم تكن لتكرر إعلان نيتها الانسحاب من منبج، برغم أنها ادّعت انسحابها منها في وقت سابق، لولا إحساسها بوطأة الضغط الذي شكّله الحضور التركي. وقد بدا لافتاً أن الإعلان عن الانسحاب أعقبه تقدم جديد لقوات «قسد» في مناطق شرق الباب بمحاذاة بلدة قباسين، حيث سيطرت على ثماني قرى كانت بقبضة تنظيم «داعش»، ما جعلها على تماس مع قوات «درع الفرات» التي سيطرت على قباسين مؤخراً.
وأكد بعض النشطاء في المنطقة لـ «السفير» أنه منذ الإعلان عن الانسحاب لم يخرج من منبج سوى رتلٍ واحد اتجه لتعزيز جبهات القتال في الرقة، فيما شكك بعضهم في جدية الانسحاب الكردي، بل إن بعض النشطاء الأكراد تحدثوا صراحة عن «أن ما يقال في الإعلام مختلف تماماً عما يجري على الأرض»، من دون توضيح ما يعنيه ذلك.
ومن غير الواضح حتى الآن ما هي مدلولات التطورات المشار إليها والمآلات التي يمكن أن تصلها، خصوصاً على صعيد العلاقة بين تركيا وأميركا من جهة، وأميركا والأكراد من جهة أخرى، وما هي انعكاسات هذه التطورات على معركة عزل الرقة. وقد تكون الأطراف جميعها بانتظار أن تتضح توجهات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب حول العديد من القضايا ذات التأثير.
فهل عدم مشاركة «التحالف الدولي» في «معركة الباب» هو تعبير غير مباشر عن رفض واشنطن لدخول تركيا إلى هذه المدينة، أم هو أسلوب أميركي للرد على الرسالة التركية السابقة، والقول إن لديها وسائل يمكنها استخدامها لضبط الاندفاعة التركية التي يبدو أنها خرجت عن الخطوط الحمراء المرسومة لها؟
كذلك هل انسحاب «قسد» من منبج هو انسحاب حقيقي هذه المرة، أم هو مجرد خطوة إعلامية؟ وفي هذه الحالة، لماذا جاءت هذه الخطوة في هذا التوقيت، هل لحفظ ماء وجه أنقرة التي لطالما هددت باقتحام منبج بسبب عدم انسحاب «قسد» منها، وبالتالي سحب صاعق التفجير في الأزمة بين الطرفين عبر إعلان وهمي؟ أم أن الغاية منها تتعلق بمعركة الرقة، وهذه المرة لحفظ ماء وجه «قسد» التي أعلنت أكثر من مرة أنها لا تقبل بمشاركة تركيا في المعركة، لكنها اضطرت للتراجع عن هذا الموقف بسبب الضغوط الكبيرة عليها. والحال كذلك هو أنها لا ترغب بأن يؤخذ عليها مرور الأرتال التركية من أراضٍ تسيطر عليها للمشاركة في معركة الرقة، فأعلنت الانسحاب من منبج لئلا تقع في هذا الفخ، باعتبار منبج أنسب الطرق لتصل تركيا وحلفاؤها إلى الرقة؟
ويبدو أن المسؤولين الأتراك مصممون على اقتحام مدينة الباب، وهذا ما تشير إليه تصريحاتهم العلنية على الأقل، وآخرها تصريح وزير الدفاع فكري ايشيق، أمس، حيث أوضح أن «المرحلة التالية من الهجوم التركي في سوريا (الذي يطلق عليه اسم درع الفرات) تهدف إلى الزحف جنوباً وتطهير مناطق منها مدينة الباب من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية». ولم يكتف ايشيق بذلك، بل أكد أنه «من المتوقع استكمال تأمين حدودنا تأميناً تاماً في النصف الأول من 2017»، وهو ما يشير إلى خطة تركية طويلة الأمد.
ويبدو أن التقدم نحو الباب تحول دونه العديد من العراقيل، هذا بالإضافة إلى امتناع «التحالف الدولي» عن المشاركة فيه، وأهم هذه العراقيل يتمثل بالدفاع الشرس الذي يبديه «داعش» أمام قوات «درع الفرات» المتقدمة، في واحدة من المعارك القليلة حتى الآن التي تشهد اشتباكات عنيفة بين الطرفين.
وفي هذا السياق، تمكن «داعش» من استعادة السيطرة على بلدة قباسين بعد ساعات من سيطرة «درع الفرات» عليها، وهو ما يعني مبدئياً ابتعاد هذه القوات عن مدينة الباب، لكن الأهم أنه يمنح تركيا مزيداً من الوقت ربما للتباحث مع الأطراف المعنية بخصوص مصير المدينة، خصوصاً أن رئيس وزرائها بن علي يلديريم سيزور موسكو عما قريب.
ومن العراقيل أيضاً ما يجري من تقدم لـ «قسد» شرق مدينة الباب، حيث سيطرت على قرى محاذية لبلدة قباسين، كما أصبحت تحاصر تقريباً بلدة العريمة الواقعة تحت سيطرة «داعش» من ثلاث جهات، ما سيسهل لها السيطرة عليها، وتشكل بذلك خطراً حقيقياً على أي قوات تتقدم نحو الباب، ما يُرجح عدم حسم مصير المدينة في المدى القريب، وتحديداً قبل زيارة رئيس الوزراء التركي لموسكو، إلا إذا قررت أنقرة خوض مغامرة من النوع الثقيل.
من جهة أخرى، تعرضت معركة «غضب الفرات» الهادفة إلى عزل الرقة لنكسة هي الأخرى، إذ تمكن تنظيم «داعش» من استعادة بلدة تلّ السمن بعد ساعات من خسارتها. وكانت التوقعات تشير إلى أن المعركة الحقيقية ستبدأ في بلدة تل السمن، باعتبارها بداية المنطقة الخضراء التي تنتشر فيها الغابات والمزارع، وهو ما يعطي سلاح القنص فعالية كبيرة بسبب سهولة التواري عن الأنظار، وهو ما حدث بالفعل، حيث كان لقناصي «داعش» الدور الأبرز في إجبار «غضب الفرات» على الانسحاب من تل السمن.
المصدر :
عبد الله سليمان علي
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة