دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
من النادر ان تُعَبر السلطات السعودية والمتحدثين باسمها عن اي اسف او تقديم اعتذار، لضحايا قصف “طائرات حزمها” في اليمن، فهي تعتبر اعمال القتل هذه مشرعة، ومبررة، وطائراتها تقتل وتدمر من اجل عودة عبد ربه منصور هادي الى سدة الحكم مجددا، ولذلك فان تعبيرها عن “الاسف” وليس “الاعتذار”، عن مجزرة مجلس العزاء في القاعة الكبرى في صنعاء جاء سابقة فريدة من نوعها، تكشف عن عمق الازمة التي تعيشها على الصعيدين الاقليمي والدولي، وادراكها ان اساليب المكابرة والافكار والتعالي على الخصم لم تعد مفيدة.
الرسالة التي بعث بها مندوب السعودية الدائم في الامم المتحدة الى مجلس الامن الدولي وتحمل هذا الاسف، وتؤكد الالتزام الكامل بالقانون الدولي لحقوق الانسان، والتأكيد على اتخاذ كل التدابير الممكنة لحماية المدنيين، تشكل اعترافا اوليا متدحرجا بالمسؤولية عن هذه المجزرة، ومحاولة الالتفاف على اي مبادرة لاجراء تحقيق دولي فيها.
التعبير عن الاسف الا يكفي، فقصف مجلس عزاء، وايا كان مبرره، لا يرتقي فقط الى خانة جرائم الحرب ضد الانسانية، وانما يشكل خروجا على اخلاقيات الحروب والخصومات، مثلما يعكس نزعات انتقامية شريرة لا تحتكم الى اي قيم او اعراف دينية او قبلية او انسانية.
القيادة العسكرية السعودية التي اتخذت قرار القصف هذا، مارست الكذب علنا، عندما قالت ان طائراتها لم تقم بأي عمليات هجومية في المنطقة، فمن الذي يملك طائرات لم تتوقف عن قصف اليمنيين الابرياء منذ 18 شهرا غيرها؟ وهل جرى تدمير اليمن بالكامل بما في ذلك المدارس والمستشفيات والمزارع والاعراس، بحيث لم يبق شيء يتم قصفه غير مجلس عزاء في شخصية وطنية معروفة بتسامحها ونزعتها السلمية؟
من المؤكد ان هناك من ضلل المُضلِيين (بضم الميم وكسر اللام)، او بالاحرى القيادة العسكرية السعودية، واذاقها من السم نفسه، عندما مرر اليها معلومات بأن الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، والسيد عبد الملك الحوثي يتواجدان في المجلس لتقديم واجبات العزاء لوزير الداخلية ابن الفقيد (اللواء جلال الروشان)، فاعتقدت هذه القيادة ان هناك صيدا ثمينا يستحق القصف وكل ما يمكن ان يترتب على هذه المجزرة من ردود فعل.
اليمنيون دهاة بالفطرة، ولا نستبعد ان يكونوا قد دسوّا على القيادة السعودية من يضللها، ويوقعها في شر اعمالها، والمشكلة ان هذه القيادة لا تتعلم دروس التاريخ والحروب في اليمن، وربما في غير اليمن ايضا، بدليل ان معظم قراراتها ورهاناتها الاخيرة لم تكن صائبة في معظمها، والقائمة تطول.
الرئيس علي عبد الله صالح فاجأ مجلس العزاء الذي اقيم لصديقه وحليفه التاريخي عبد الكريم الارياني بحضوره، مثلما كرر الشيء نفسه في المظاهرة المليونية الاخيرة، الامر الذي سهل عمل “المخبرين” في تسويق انباء حضوره.
السلطات السعودية خسرت الكثير بسبب ارتكاب هذه المجزرة، سياسيا واعلاميا وعسكريا، وما تبقى لها من دعم وتأييد في اوساط اليمنيين، فحتى حكومة حليفها هادي وجدت نفسها مضطرة الى ادانة مرتكبي هذه المجزرة، والتعاطف مع ضحاياها وذويهم، وان كانت هذه الادانة لم تكن بالقوة المطلوبة.
هذه المجزرة ستوحد اليمنيين وغالبيتهم الساحقة ضد السعودية، انها لم تعد حربا لاعادة هادي الى صنعاء، وانما باتت حربا مختلفة ومعاكسة لزعزعة امن واستقرار المملكة واسرتها الحاكمة، فالمعارك المكثفة على الحدود السعودية اليمنية حاليا تؤكد هذا المنحى.
اطلاق صاروخا باليستيا لضرب قاعدة الملك فهد الجوية في الطائف من صعدة (على بعد 500 كيلومتر)، تطور مرعب للحرب، ويؤكد ان اعداء المملكة يملكون مثل هذه الصواريخ التي يمكن ان تصل حتى الى الرياض وجدة وباقي المدن السعودية الكبرى.
صحيح ان بطاريات صواريخ “باتريوت” اعترضت هذا الصاروخ ودمرته، مثلما قال متحدث باسم التحالف السعودي، ولكن الاعلان عن استهداف الطائف التي لا تبعد الا 150 كيلومترا عن جدة العاصمة الاقتصادية، و70 كيلومترا من مدينة مكة المكرمة ، يحمل الكثير من المعاني، ويحقق نقله كبيرة في الحرب النفسية لصالح التحالف اليمني.
موازين الحرب في اليمن، وبعد 18 شهرا، بدأت تشهد انقلابا كبيرا متدرجا، ليس لصالح التحالف السعودي، فأوائل هذا الشهر تعرضت سفينة اماراتية للقصف والتدمير في مدخل باب المندب، وبالامس اعلنت القيادة العسكرية الامريكية الوسطى ان صاروخين اطلقا على سفينة حربية تابعة لها، اطلق من اراض يسيطر عليها الحوثيون، والاهم من كل هذا وذاك، وقف الحكومة الامريكية لكل اشكال التنسيق العسكري والاستخباري مع القيادة السعودية في ملف حرب اليمن احتجاجا على مجزرة مجلس العزاء.
الدخول في حرب اليمن تهور خطير ومكلف جدا ماليا وبشريا، وسوء تقدير قوة الخصم وحلفائه والتعاطي معه بفوقية واستعلاء خطأ كبير، وعدم اقتناص الوساطة الدولية للتوصل الى مخرج مشرف، وتقليص الخسائر كارثة كبرى تعكس غياب الحكمة والتعقل.
الحرب الحقيقية القادمة ربما تكون في اليمن، اكثر شراسة وخطورة من نظيرتها في سوريا، والله اعلم.
المصدر :
عبد الباري عطوان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة