دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
رائحة التهديد التي تفوح من التصريحات المحذّرة، بين روسيا والولايات المتحدة، تذكّر كثيرين في أوروبا بلحظات حبس الأنفاس ترقبا للضربات الجوية بعد الهجوم الكيميائي على غوطة دمشق. لعب الأوروبيون حينها، كما قالوا، دورا مهما في إطفاء ألسنة الاحتقان بترويج صفقة إزالة الأسلحة الكيميائية.
اليوم يبدي بعض المسؤولين الأوروبيين تشاؤماً معتبراً، مؤكدين أن المقبل، بعد خروج راعيي الصراع في سوريا، انتظار «أن يتدّمر كل شيء حتى يظهر رابحٌ واضح» يعلن انتصار أحد القطبين في الموقعة السورية، غالباً المحور الروسي. هذا لا يناسبهم، لذا مَكِناتُهم السياسية تعمل لوقف ذلك المسار.
استخدام الأوروبيين للمطافئ ليس عن عبث، ولا عن قلب كبير بالطبع. المسألة تخصّ، أولاً وأخيراً، البحث عن دورٍ لهم في صياغة مخرجات الصراع بما يناسب مصالحهم. صحيحٌ أنهم الآن يدركون استحالة التأثير من دون وجود قوة عسكرية وازنة، يمكنهم التلويح أو الدفع بها، ما جعل خططهم لإنشاء نواة الجيش الاوروبي تتسارع، لكنهم الآن أيضاً أمام الواقع كما نقلوه صراحةً كلما سُئلوا أين هم من الحرب: «ليس لدينا جيوش في سوريا ليمكننا التأثير» في جريانها. يريدونها أن تتوقف، يدعون لذلك بعدما باتت تداعياتها تطالهم، لأنهم يرون دورهم في العملية السياسية.
آخر محاولات عودتهم لإيقاف التصعيد قادتهم للتموضع في الوسط، لدرجة بدوا معها لاعباً في الحياد الايجابي. المبادرة التي أطلقتها بروكسل، لخلق «كوريدور» إسعافي إلى شرق حلب، طالبت بـ «الحد الأدنى» مما يضمن مرور قوافل الاغاثة الذاهبة، وخروج قوافل الإجلاء الطبي الآيبة.
هذه مطافئ حريق، لكنها مطافئ سياسية. سبق لفيديريكا موغيريني، وزيرة الخارجية الاوروبية، أن شددت على أن الدور الأوروبي كأكبر المانحين، المزودين بالمساعدات، ليس خالياً من السياسة. حينما افتتحوا مكتباً في دمشق لتنسيق المساعدات الأوروبية، أعلنت بوضوح أن الخطوة هي لدعم الدور السياسي الأوروبي.
الاوروبيون ليسوا بعيدين عن المبادرة التي أطلقها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، حينما ناشد 900 مسلح من «جبهة النصرة» الخروج من شرق حلب لسحب أعذار مواصلة قصفه. المطلوب أوروبيا هو العودة إلى غرف التفاوض لا الى ميدان القتال. مبادرة «الكوريدور» الاسعافي إلى حلب، مع مبادرة سياسية كهذه، يمكن أن تتطور أو تتحول إلى شكل آخر، ينتظر منها أن تعيد الروس والاميركيين إلى غرفهم السرية، ينجزون ترتيباتهم العسكرية، الهيكل العظمي للتسوية السياسية، من أجل إطلاق عملية تشكيلها.
تلك المناورة الأوروبية معلنة أصلا. مواصلة حديثها المتحفّظ هذه الأيام، تجنبت موغيريني قبل يومين الحديث عن انهيار المحادثات الاميركية ـ الروسية، مكتفية بالقول «نعمل من أجل الحفاظ على الفسحة أمام العملية السياسية وإعادة إطلاقها كي تنعقد مجددا». أكدت أن هذه القضية محور تعاون مكثف مع دي ميستورا، قبل أن توضح أن دور الاوروبيين منصبّ الآن على «دعم جهوده بفعالية في هذه الساعات لإبقاء النافذة مفتوحة لحل سياسي، بحيث يمكن للاطراف السورية الانخراط في مباحثات حول مستقبل بلادهم الذي سيأتي عاجلا ام آجلا».
يبدو أن الانسجام الذي يطبع عمل خريجي الديبلوماسية الإيطالية، موغيريني ودي ميستورا، منتج حدّ التناغم، لكن الأمر أيضا بحث عن مصلحة أكيدة: لا المبعوث الدولي، ولا الخارجية الاوروبية، يريدان الجلوس على مقاعد الاحتياط، أو الفرجة، فيما اللعب للحرب وحدها. لذلك لم يكن من إكثار الكلام أيضا تحذير موغيريني المكرر: «الحل السياسي هو وحده القادر على وضع نهاية لهذه الحرب لا الانتصار العسكري لطرف على الآخر... أريد أن أشدد على ذلك بوضوح شديد: لا حل عسكريا لهذا الصراع».
مصادر ديبلوماسية قريبة من موغيريني شددت على أن مساعي الأوروبيين هي بمثابة إعلان «أننا نرفض التخلي عن المسار السياسي والتسليم بأن الحرب هي التي ستحسم الأمر».
على كل حال، ليس ذلك من إكثار الكلام ولا استهلاكه، وليس أيضا نتيجة عصف ذهن داخلي من الخارجية الاوروبية. بروكسل كانت مسرحاً ليومين شهدا العديد من اللقاءات حول الملف السوري، بمشاركة الوزير الاميركي جون كيري، على هامش المؤتمر الدولي حول أفغانستان.
مصدر ديبلوماسي أوروبي مطّلع على أجواء تلك المباحثات قال لـ«السفير» إن هناك مستوى غير مسبوق من التشاؤم بفكّ الاشتباك الحربي في سوريا، على الأقل من وجهة النظر الأوروبية. خلاصة تلك المباحثات وفق تقييم أنه «لا يمكن العودة إلى طاولة المفاوضات، بما أن هناك شعورا بأن النصر العسكري ممكن»، قبل أن يستدرك «هنا لا أرى دورا مهما لنا، نحاول عكس الاتجاه، لكن الأطراف تشعر أنها تستطيع الانتصار عسكريا. إذا سارت الأمور على ذلك النحو فكل ما يمكننا نفعله هو الانتظار أن يتدّمر كل شيء حتى يظهر رابح واضح، من دون ظهور رابح واضح لن يمكن الوصول إلى حل».
التقييم الأوروبي متشائم أيضاً حينما يتعلق بحصيلة المنافسة الدولية، بين الحليف الأميركي والجار الروسي اللدود. تقول المصادر إن ذهاب الأميركيين والروس إلى غرف تفاوضهم السري كان يعكس «الاتفاق على حساب حصيلة الصراع وبناء التسوية على أساس ذلك، الأميركيون قبلوا أن هناك تعادلا يمكن بناء الحل عليه»، قبل أن تضيف «لكن روسيا تعتقد أنها في موقع متفوق، إنهم لا يظنون فقط أنهم على نفس مستوى الاميركيين بل يظنون أنهم حتى في مستوى أعلى».
وفق تلك القراءة لما شهدته كواليس اجتماعات بروكسل، يذهب الطرفان إلى ميدان التنافس الحربي بتصميم: روسيا لانتزاع نصر تراه ممكنا، وأميركا لمنعها من ذلك على الأقل. لكن كل شيء يصير في حجم آخر، عالم حسابي آخر، حينما يتم القياس بميزان آخر، تحديداً ذاك الذي يتحدث عنه مسؤولون قريبون من موسكو.
في هذا السياق، يقول مسؤول على علاقة جيدة بالروس لـ «السفير» إن من يريد أن يحسب الحصيلة عليه أن يختار جملة مقارنة مختلفة. يشرح أن روسيا الآن «لا تزال في موقع دفاعي عن نفوذها في سوريا الذي له تأثير مهم على موقعها كلاعب دولي». يقترح الانطلاق من بديهيات: سوريا كانت في تحالف مع روسيا منذ عقود، كانت في الحصيلة الروسية، فيما تحارب موسكو الآن بجيشها للحفاظ على وجود حليفها. حتى لو جرت صياغة تسوية وفق الحصيلة الحالية «فهذا يعني ان روسيا تتنازل عن قوة نظام حليف لمصلحة مشاركة السلطة مع معارضة متحالفة مع الغرب».
المصدر يقلّل من أهمية الحديث عن الهياج الجاري الآن، وتبادل التهديدات والتحذيرات، بين موسكو وواشنطن، وسط استعراضات للقوة العسكرية. يشدد على أنه لا تزال هناك «أرضية مشتركة» يمكن البناء عليها، أساس تفاهم «يمكن العودة لتوسيعه»، لافتا إلى أنه ما بقيت منصة التنسيق العسكري قائمة، حول منع التصادم العسكري في إطار «الحرب على الارهاب»، فلا خوف من تصعيد خطير بين القطبين الدوليين.
المصدر :
وسيم ابراهيم / السفير
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة