مضى عام على الدخول الروسي إلى سورية، وتبارى المحللون في تقييم نتائج هذا التدخل من الجانب العسكري والسياسي والجيواستراتيجي كل من وجهة نظره أو المعسكر الذي ينتمي إليه، وبدأ الحديث عن انهيار الاتفاق الروسي الأمريكي بشأن الهدنة في سورية وسيناريوهات المرحلة المقبلة، حيث ذهب بعض كبار المحللين الروس والأمريكيين حد التنظير بحرب عالمية ثالثة قادمة لا محالة، في حال احتكاك القوات الأمريكية والروسية في سماء سورية أو استهداف الطيران الأمريكي للجيش العربي السوري وسقوط ضحايا روس يعملون معه جنبا إلى جنب..

 

لكن الخلاصة العامة المشتركة التي وصل إليها الجميع، هي أن روسيا أثبتت حسن نيتها تجاه حلفائها وجديتها في محاربة الإرهاب، في حين أن أمريكا أكدت سوء نيتها وعدم جديتها في محاربته بل دعمه وتوظيفه من أجل فدرلة سورية والعراق تباعا.

 

ومن حيث النتائج العملية على الأرض، نجحت روسيا بمعية حلفائها في الحفاظ على الدولة السورية من جهة، وأفشلت الإستراتيجية الأمريكية القاضية بإسقاط الرئيس الأسد في مرحلتها الأولى واستنزاف روسيا لإطالة أمد الحرب إلى ما لا نهاية في مرحلتها الثانية من جهة أخرى، وذلك بفضل القوة الغليظة التي استخدمتها ضد من تسميهم واشنطن زورا وبهتانا بـ”المعارضة المسلحة” المعتدلة، تاركة لـ’أوباما’ شرف إعلان فشل تحالفه الستيني في القضاء على “داعش” وهو الذي وعد الشعب الأمريكي والعالم بهزيمته قبل متم ولايته.

 

وبسبب هذا الفشل الذي استغله المرشح دونالد ترامب في حملته الانتخابية ضد هيلاري كلينتون، خرجت الأخيرة لاستدراك الكارثة بالقول، أن هدف بلادها هو القضاء على “داعش” في العراق وحشده في سورية.. وهذا بالضبط هو ما يحدث اليوم، حيث كشفت تقارير استخباراتية عراقية أن قيادات وعوائل وعديد العناصر الإرهابية الداعشية، انتقلت سرا من الموصل إلى الرقة، لتسهيل عملية تحرير الموصل وتقديمها للناخب الأمريكي باعتبارها انتصارا للحزب الجمهوري على الإرهاب، وترك سورية على صفيح ساخن لما بعد مرحلة أوباما.

 

وفي نفس السياق، ضغطت واشنطن على العميل مسعود البرزاني لزيارة بغداد والتفاهم مع العميل العبادي على حل الخلافات القائمة بين الإقليم والمركز وعلى رأسها التخلي “مؤقتا” عن مطلب الانفصال، وحل الخلاف بشأن ملف النفط، وتأجيل مسألة ترسيم حدود الإقليم الكردي إلى ما بعد القضاء على “داعش”.. وهو ما سيسمح بإشراك الأكراد في تحرير الموصل واستبعاد الحشد الشعبي من دخول المدينة مخافة انتقاله بعد ذلك إلى سورية لمساندة الجيش العربي السوري وحلفائه في تحرير الرقة من دواعش واشنطن وإفشال استراتيجيتها المستقبلية في إدامة الحرب في سورية، كما سبق وأن أعلن قياديون في الحشد الشعبي حين كشفوا قبل أيام عن وجود اتفاق سوري عراقي يقضي بتوحيد البندقية وساحات المعركة ضد الإرهاب..

 

ولقطع الطريق على هذا المخطط، عمدت الولايات المتحدة خلال هذا الأسبوع إلى قصف ثلاثة جسور على نهر الفرات لعزل المنطقة الشمالية الشرقية ومنع أي محاولة لتقدم الجيش العربي السوري وحلفائه للالتحام مع القوات العراقية والحشد الشعبي على الحدود لتحرير الرقة.

 

وبسبب هذا الدعم السياسي الأمريكي للعبادي، أعلن الأخير موافقته على دخول فوج جديد من الخبراء الأمريكيين قيل أن عديدهم سيصل إلى 450 مستشارا للمشاركة في إدارة تحرير الموصل، لكن إصرار تركيا على المشاركة في التحرير دون دعوة من أحد قد يعقد المشهد ويعرقل المسعى الأمريكي، لإدراك أنقرة أن إشراك أكراد العراق في تحرير الموصل هي خطوة تكتيكية تمهّد لما سيكون عليه الحال مع أكراد سورية مستقبلا، الأمر الذي يهدد أمنها القومي الذي على أساسه استصدرت قرارا مؤخرا من البرلمان يسمح للقوات التركية بالتدخل العسكري في العراق وسورية لمدة سنة، وأعلنت بغداد اليوم أن إصرار تركيا على المشاركة العسكرية في تحرير الموصل أخّر انطلاق عملية التحرير.

 

*** / ***

 

وعلى ضوء هذه التطورات، يمكن القول أن انهيار الاتفاق الروسي الأمريكي يدخل في إطار هذه الرؤية الأمريكية القديمة الجديدة لتقسيم العراق وسورية، وهو ما اعتبرته موسكو لحظة فارقة في عمر الصراع في وعلى سورية والمنطقة، لأنه جاء في لحظة حساسة أدركت فيها أن واشنطن تتعامل معها بمنطق الخديعة، وأنها غير جدية في محاربة الإرهاب، وغير معنية بحل الأزمة السورية بالشراكة مع روسيا، وأن هدفها هو الاستثمار في “جبهة النصرة” التي تعتبر أقوى التنظيمات الإرهابية على الأرض لإسقاط النظام في دمشق، وفق ما كشف عن ذلك الوزير لافروف هذا الأسبوع، متهما واشنطن بعدم استهداف “جبهة النصرة” ولو لمرة واحدة، فيما أوضح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أن بلاده تجنبت ذلك حفاظا على أرواح المدنيين، وفق زعمه.

 

وقد بلغت الخديعة قمتها حين اقترحت أمريكا على إيران في رسالة سرية إشراكها بمعية روسيا في حل المعضلة اليمنية، في حين كان هدفها من ذلك هو محاولة استبعاد الحليفين (الروسي والإيراني) من التفكير في التصعيد لإفشال خطتها في العراق وسورية، وهو ما تفطن له الإمام الخامنئي فرد بالرفض، مؤكدا أن طهران لا يمكنها أن تثق في واشنطن بالمطلق.

 

والمفارقة التي نستغربها ولا نجد لها تفسيرا يبررها من الناحية المنطقية، هو أن روسيا التي تعرف خبايا السياسة الأمريكية ربما أكثر من إيران، كانت تدرك قبل غيرها أن إدارة أوباما لن يكون في مقدورها التوصل إلى اتفاق معها، لا بشأن الحل السياسي ولا بشأن المشاركة في محاربة الإرهاب في سورية، لما يعنيه ذلك من اعتراف ضمني بالدور الروسي كشريك في حل الأزمات الإقليمية والدولية، والذي كان سيفضي إلى ضرب العقيدة الأمريكية الراسخة القائمة على مبدأ أحادية القطبية الدولية والهيمنة على مقدرات الدول وخيرات الشعوب دون منافس أو منازع، في إطار المنظومة الإمبريالية السياسية والاقتصادية المعولمة والقائمة على منطق الإخضاع بالقوة المباشرة حينا والناعمة أحيانا، لاعتقاد أمريكا أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم القادرة على الحفاظ على النظام العالمي الرأسمالي القائم من الانهيار..

 

هذا خط أحمر غير مسموح تجاوزه من قبل أي إدارة أمريكية تتولى السلطة ديموقراطية كانت أم جمهورية.. لذلك، كان الرئيس أوباما الذي تعهد بعدم إرسال جنود بلاده للمشاركة في أية حرب جديدة خارج الولايات المتحدة بعد تجربة أفغانستان والعراق الكارثية، يراوغ ويخادع، ويكسب الوقت لتنصيب الفخاخ لاستنزاف روسيا اقتصاديا وأمنيا وعسكريا في سورية وأوكرانيا، وحين فشلت “استراتيجية الخديعة” وتيقن أن أدواته وأدوات أدواته لن يكون بمقدورهم تغيير موازين القوى على الأرض أمام وحدة وتماسك وصلابة التحالف الروسي الإيراني، مقابل تشرذم تحالفه الإقليمي بسبب الصراع على النفوذ بين تركيا و”السعودية” الذي انعكس انقساما وصراعا دمويا بين المجاميع الإرهابية في سورية.. راح الرئيس أوباما يبحث عن اتفاق تكتيكي يسمح له بتمرير ما تبقى من فترته الرئاسية دون صدام عسكري مع روسيا وحلفائها، لتسليم البطاطا السورية الحامية لمن سيخلفه كي يتعامل معها بمعرفته.

 

وقد رأينا كيف أنه وبسبب الصراع على النفوذ بين تركيا و”السعودية”، تحولت “إسرائيل” إلى عاهرة يخطب ودها الطرفان ويتنافسان على التحالف معها علنا سعيا لإسقاط نفوذ إيران ودورها الذي أصبح واقعا بحكم قدرتها المادية وسياستها العقلانية التي ساعدتها على ذلك برغم الحصار والمؤامرات والحروب والعواصف الفاشلة.

 

وبعيدا عن العقلانية السياسية وخطاب الشرعية والقانون الدولي، فروسيا وحلفائها كانوا مدركين لمفاصل اللعبة الأمريكية الخبيثة واستراتيجية الخديعة، الأمر الذي جعلهم يلعبون بالبيضة والحجر على طريقتهم الخاصة.. يركزون في العمق على استراتيجية سحق مجاميع الإرهابيين الكبيرة في سورية قبل متم ولاية أوباما، وفي نفس الوقت كانت روسيا تتعاطى بالقوة السياسية الناعمة مع أمريكا، سعيا منها لإيصالها إلى الحائط المسدود وكشف سوء نيتها وكذبها وخديعتها لشعبها وشعوب العالم، لأن الحقيقة وحدها كفيلة بتحرير الشعوب من سطوة الزيف والتضليل الإعلامي الذي مارسته أمريكا وحلفائها وأدواتها بشأن سورية.

 

وها هو العالم يكتشف اليوم أن ما يقع في سورية لا علاقة له بـ”ديكتاتور يقتل شعبه وفاقد للشرعية”، ولا بـ”ثورة” من أجل الحرية والديموقراطية، ولا بـ”معارضة مسلحة معتدلة” غيرت واشنطن أسمائها ومسمياتها أكثر من مرة كما تغير بذلات موظفيها حسب الفصول والمناسبات.. وأن الأمر يتعلق بلعبة جيوسياسية وجيواستراتيجية قذرة تستعمل فيها واشنطن كل الأسلحة المحرمة من إرهاب وشعارات براقة خادعة وديبلوماسية منافقة زائفة، في انتهاك سافر للشرعية والقانون الدولي من أجل إخضاع الدول الممانعة والمقاومة لهيمنتها الأحادية وتحويل شعوبها من مواطنين أحرار فاعلين ومنتجين إلى عبيد خاضعين ومستهلكين للقيم والسلع الأمريكية.

 

لكن ما غيّر المشهد وقلب الوضع رأسا على عقب هي معركة حلب التي اعتبرتها واشنطن القشة التي قسمت ظهر بعيرها باعتبارها عاصمة سورية النافعة وفق التوصيف الفرنسي زمن الإستعمار، لأن تطويق الأحياء الشرقية وقطع طرق الإمداد عن “جبهة النصرة” ومتفرعاتها، وقرب عودة المدينة الصناعية الكبرى في سورية إلى حضن الوطن، شكل ضربة قوية للخطة الأمريكية وفشل ذريع سيطبع عهد وتاريخ أوباما إلى الأبد لا محالة.

 

وبالتالي، لم تجد واشنطن من حل لهذه المعضلة غير التنصل من الاتفاق بإفشاله، وفي سبيل ذلك لا تعوزها الأسباب والمبررات، فمن قصف “إسرائيل” لمواقع الجيش العربي السوري في الجنوب وتحريك “جبهة النصرة” لإشغال دمشق وحلفائها عن جبهة الشمال، إلى قصف مواقع الجيش العربي السوري بدير الزور بـ”الخطأ” لتمكين “داعش” من السيطرة على المنطقة ومنع سورية وحلفائها من التوجه نحو الرقة لملاقاة الحشد الشعبي على الحدود، مرورا بضرب قافلة المساعدات الإنسانية على مشارف حلب من قبل “جبهة النصرة” وفق ما تبين لروسيا، وانتهاءا بالاستعدادات القائمة على قدم وساق لاستعمال أسلحة كيماوية سامة (الفسفور الأصفر) ضد المدنيين الذين تتخذهم الجماعة الإرهابية دروعا بشرية في أحياء حلب الشرقية لاتهام دمشق بذلك وإجبارها بمعية حلفائها على وقف حملتها العسكرية على الأحياء الشرقية للمدينة، وهو ما اكتشفته المخابرات الروسية والسورية وأعلن عنه رسميا السيد بشار الجعفري في مجلس الأمن.

 

*** / ***

 

اليوم وصلت أمريكا إلى قناعة مؤداها أن لا جدوى من العملية الدبلوماسية مع روسيا، وأن الحل يكمن في التهديد والابتزاز والتصعيد العسكري ضد روسيا، حيث تقرر نقل التركيز من إسقاط الرئيس الأسد إلى محاربة روسيا عدو أمريكا الأول والخطر الداهم الذي يهدد وضعها ومكانتها كقوة عظمى في العالم.

 

من هنا، انتهى الكلام عن الحل السياسي في سورية وبدأ الحديث عن سيناريوهات التصعيد في المرحلة المقبلة، وكان سماحة السيد أول من أعلن قبل أيام أن لا حل سياسي في الأفق، وأن المرحلة هي مرحلة الحسم مع الإرهابيين، وقد تابعنا جميعا كيف أن أمريكا أعطت الضوء الأخضر لأدواتها لتكثيف المساعدات العسكرية لمجاميع الإرهابيين بأسلحة جديدة ونوعية تمكنهم من تعديل موازين القوى لغير صالح روسيا وحلفائها..

 

وفي المقابل، رأينا كيف أن موسكو من جهتها قررت تعزيز تواجدها في سورية وإعادة أسطول الطيران الحربي الذي كانت قد سحبته قبل فترة ودعمه بالقاذفات الإستراتيجية من نوع سوخوي 25، وضخ المزيد من الأسلحة والعتاد والذخيرة وصواريخ (x 38) المدمرة بالكثافة العددية والنوعية التي من شأنها تسريع الحسم مع الإرهاب في سورية لقطع الطريق على خطة “باء” الأمريكية التي تهدف إلى تحويل “جبهة النصرة” ومتفرعاتها إلى قوة ضاربة حيث وضعت لها هدفا يتمثل في إسقاط الأسد في دمشق، ولمنع روسيا من الحؤول دون ذلك، صدرت تعليمات لـ”القاعدة” من أجل البدء بحملة واسعة لاستهداف الجنود الروس في سورية وإرسالهم إلى بلدهم جثتا هامدة في أكياس، والتركيز على القيام بتفجيرات كبيرة في روسيا ومحيطها الجيوسياسي لتأليب الرأي العام الروسي ضد الدب الروسي العنيد بوتين.

 

هذه هي الإستراتيجية الوحيدة التي تستطيع اللجوء إليها أمريكا في هذه المرحلة لأنها لا تستطيع خوض مواجهة مباشرة مع روسيا في سورية، لإدراكها أن إيران وحزب الله والمقاومة في العراق لن يتركوا روسيا تقاتل لوحدها وسيتم استهداف الأمريكيين في العراق وسورية ومصالح أمريكا في كل دول المنطقة.

 

ومباشرة عقب هذا التهديد والتحريض الأمريكي الخطير ضد روسيا، خرجت اليوم الناطقة باسم الخارجية الروسية السيدة ماريا زخاروفا لتحذر الولايات المتحدة من مغبة استهداف دمشق أو الجيش العربي السوري، لأن من شأن ذلك أن يعرض المنطقة لزلزال مدمر، وهو ما فهم منه أن التصعيد هذه المرة لن يبقى محصورا في سورية، وقد يطال حلفاء ومصالح أمريكا في المنقطة برمتها.

 

والخطورة تكمن في أن واشنطن تدرك أن دخولها الحرب مباشرة في سورية سيجلب التنين الصيني لمساندة روسيا، لأن سورية بالنسبة للصين تمثل نفس الأهمية الإستراتيجية بالنسبة لروسيا، سواء لجهة خطر الإرهاب مستقبلا على أمنها واستقرارها، أو لجهة محاصرتها وشل تمددها وتطورها الاقتصادي والتجاري لمعرفتها أن هدف أمريكا من إسقاط سورية هو ضرب طريق الحرير الإستراتيجي الذي سيربطها بالشرق الأوسط وإفريقيا، ناهيك عن الخطر الذي يمثله لمصالح موسكو وطهران لما يهدف إليه من قطع لخطوط إمداد النفط والغاز الروسي والإيراني لأوروبا واستبدالها بالغاز والنفط القطري و”السعودي”، ما سيؤدي إلى انهيار روسيا والصين تباعا.

 

لذلك، من المستبعد جدا أن تقدم الولايات الأمريكية على مقامرة خطيرة من هذا النوع والحجم في سورية، وهذا بالتحديد هو ما كشفه الوزير جون كيري في اجتماعه مع معارضين ونشطاء سوريين في 22 من سبتمبر/أيلول حضره مسؤولون من ثلاثة أو أربع دول متدخلة في الأزمة السورية، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفق التسريب الخطير الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية اليوم، حيث قال الوزير الأمريكي، إن روسيا “خدعته” في سورية، وأن بلاده لا تستطيع التدخل عسكريا في الصراع بسبب رفض الشعب الأمريكي والكونجرس لمثل هذا الخيار برغم تأييده شخصيا له، لقناعته أن الجهود الديبلوماسية الأمريكية لا يمكن أن تفضي لنتيجة من دون أن تكون مدعومة بالقوة العسكرية.

 

كما أنه كشف ولأول مرة، أن دخول أمريكا عسكريا في سورية سيؤدي إلى زيادة المراهنات ويعطي نتائج عكسية، لأنه سيدفع بروسيا وحلفائها إلى سحق “المعارضة” بلا رحمة، وسيستنزف أموال “السعودية” وتركيا بلا طائل، وسيدفع بالأطراف المنخرطة في الأزمة السورية مع روسيا نحو القيام بخطوات مشابهة، ما يعني انتقال الصراع من الحرب بالوكالة إلى الحرب المباشرة على مستوى المنطقة في المرحلة الأولى، موضحا أن بلاده لا تستطيع استصدار قرار بالتدخل العسكري من مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي – الصيني، كما وأن الوجود الروسي في سورية يعتبر شرعيا لأنه تم بدعوة من النظام الشرعي في دمشق، بخلاف التدخل الأمريكي الذي سينظر إليه أنه انتهاك لسيادة دولة وشعب لم يعتدي على أمريكا ولم يدعوها لمساعدته في محاربة الإرهاب.

 

وأضاف مخاطبا المعارضين: “ذلك سيفضي إلى بذل روسيا ما هو أكثر، وتسخير إيران ما هو أكثر، فضلا عن انخراط أوسع لحزب الله”، “مخاطبا المعارضة” بالقول، وكل ذلك “سينتهي في نهاية المطاف بالقضاء عليكم جميعا”، ناصحا إياهم القبول بخوض انتخابات يشارك فيها “رئيس النظام السوري بشار الأسد”.

 

لا نعلم إن كان الهدف من هذا التسريب الفضيحة هو اعتراف بالفشل ومحاولة لبعث رسالة تكمين لروسيا وإيران بأن أمريكا لا تعتزم التدخل عسكريا في سورية، أم أن الهدف هو الخديعة مرة أخرى في انتظار استواء الطبخة الجديدة التي يحضر لها مجلس الأمن القومي الأمريكي لتتخذ على ضوئها الإدارة الأمريكية القادمة الخيارات المناسبة..

 

نقول هذا لأن الوزير جون كيري أشار إلى هذه المسألة بطريقة ملتبسة وغامضة من خلال قوله للمعارضة السورية، أن هناك تغييرا حصل في السياسة الأمريكية بشأن سورية، وأن جهودا تبدل الآن لدراسة المسار والتوجهات الجديدة التي تعتزم واشنطن اتخاذها في سورية مستقبلا، وهو ما يؤكد أن الأزمة السورية سترحّل إلى مرحلة ما بعد أوباما، وأن مجلس الأمن القومي والبنتاغون والمخابرات المركزية يعكفون على دراسة مجموعة من الخيارات البديلة بالنسبة للمستقبل.

 

*** / ***

 

ومهما يكن من أمر، فكلام الوزير كيري يوحي أن واشنطن قررت عدم التورط عميقا في سورية في مرحلة الانتخابات المفصلية والاكتفاء بما حققته من فوضى عارمة، والخيارات التي تدرسها بالنسبة للمستقبل لا تتعلق بسورية فحسب، بل وتتعلق بروسيا أيضا، بعد أن أصبحت العدو رقم واحد لأمريكا، نظرا لما تمثله من خطر على مكانتها كقوة عظمى مهيمنة على العالم.

 

لذلك لا نستبعد أن تتخلى واشنطن عن أدواتها في المنطقة وفق ما تقتضيه مصالحها العليا وبراغماتيتها السياسية المعروفة، ومعاقبة تركيا و”السعودية” على فشلهم في إحداث التغيير المطلوب وتوريطها في صراع لم تكن ترغب في أن تخوضه ليشغلها عن الاهتمام باستراتيجيتها الأساسية في آسيا، ومحاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان كانت البداية وستعقبها محاولات أخرى لإسقاطه لمعاقبته على تمرده وخروجه عن خط السياسة المرسومة له، كما أن قانون “جاستا” هو لابتزاز “السعودية” ومعاقبتها على فشلها في سورية والعراق واليمن، من دون أن يعني ذلك لإسقاط النظام، لكن تغيير الرؤوس بات ضروريا لحاجة واشنطن للإرهاب لضرب أمن واستقرار روسيا والصين في المرحلة المقبلة.

 

أما البديل الذي يبدو أن واشنطن تعمل عليه، فهو تفجير نزاعات عسكرية في آسيا بعد أن نجحت في إسقاط رئيسة البرازيل الموالية لروسيا وإبعاد هذا البلد الكبير عن محور البريكس، والعمل جار على تفجير الأوضاع في أوكرانيا لإنهاك روسيا في محيطها الجيوسياسي، وفي نفس الوقت بدأنا نسمع طبول الحرب تقرع بين باكستان والهند، وفي حال انفجرت الحرب بينهما، فهذا سيعني نهاية منظمة شانغهاي للأمن ومجموعة البريكس الاقتصادية، ما سيضعف روسيا والصين ويجهض مشروعهما لإقامة قوة سياسية واقتصادية ومالية وعسكرية تنافس أمريكا على عرش العالم.

 

وهذا هو سر اللعبة وخلفيات ما يتحضر لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا من سيناريوهات، لتكون حربا عالمية ناعمة وبالوكالة تجنبا لاحتكاك مباشر مع روسيا في سورية قد يتحول إلى حرب عالمية ثالثة ساحقة ماحقة تهدد مستقبل البشرية بالفناء.

 

لذلك، تمثل هذه الفترة فرصة ذهبية إذا لم تستغلها روسيا وتحسم الحرب مع الإرهاب بمعية حلفائها في سورية قبل رحيل أوباما، فقد لا تجد متسعا من الوقت لمواجهة ما يُحضّر لها في محيطها الجيوسياسي.

 

ونعتقد أن هذا ما ستفعله روسيا في المرحلة المقبلة، خصوصا بعد الكشف عن أن هناك حوار عميق جار بين موسكو وطهران، ليس على سورية فحسبن بل وعلى مستوى المنطقة لمواجهة العربدة الأمريكية، بعد وصول الحليفين إلى قناعة مفادها، أن الحل في سورية لا يمكن أن يرى النور إلا بهزيمة المشروع الأمريكي وسقوطه بالضربة القاضية..

 

ولروسيا وإيران خياراتهما من أجل ذلك يصعب التكهن بشأنها.

 

  • فريق ماسة
  • 2016-10-01
  • 5551
  • من الأرشيف

بعد انهيار الهدنة في سورية.. ما هي سيناريوهات المرحلة المقبلة؟

مضى عام على الدخول الروسي إلى سورية، وتبارى المحللون في تقييم نتائج هذا التدخل من الجانب العسكري والسياسي والجيواستراتيجي كل من وجهة نظره أو المعسكر الذي ينتمي إليه، وبدأ الحديث عن انهيار الاتفاق الروسي الأمريكي بشأن الهدنة في سورية وسيناريوهات المرحلة المقبلة، حيث ذهب بعض كبار المحللين الروس والأمريكيين حد التنظير بحرب عالمية ثالثة قادمة لا محالة، في حال احتكاك القوات الأمريكية والروسية في سماء سورية أو استهداف الطيران الأمريكي للجيش العربي السوري وسقوط ضحايا روس يعملون معه جنبا إلى جنب..   لكن الخلاصة العامة المشتركة التي وصل إليها الجميع، هي أن روسيا أثبتت حسن نيتها تجاه حلفائها وجديتها في محاربة الإرهاب، في حين أن أمريكا أكدت سوء نيتها وعدم جديتها في محاربته بل دعمه وتوظيفه من أجل فدرلة سورية والعراق تباعا.   ومن حيث النتائج العملية على الأرض، نجحت روسيا بمعية حلفائها في الحفاظ على الدولة السورية من جهة، وأفشلت الإستراتيجية الأمريكية القاضية بإسقاط الرئيس الأسد في مرحلتها الأولى واستنزاف روسيا لإطالة أمد الحرب إلى ما لا نهاية في مرحلتها الثانية من جهة أخرى، وذلك بفضل القوة الغليظة التي استخدمتها ضد من تسميهم واشنطن زورا وبهتانا بـ”المعارضة المسلحة” المعتدلة، تاركة لـ’أوباما’ شرف إعلان فشل تحالفه الستيني في القضاء على “داعش” وهو الذي وعد الشعب الأمريكي والعالم بهزيمته قبل متم ولايته.   وبسبب هذا الفشل الذي استغله المرشح دونالد ترامب في حملته الانتخابية ضد هيلاري كلينتون، خرجت الأخيرة لاستدراك الكارثة بالقول، أن هدف بلادها هو القضاء على “داعش” في العراق وحشده في سورية.. وهذا بالضبط هو ما يحدث اليوم، حيث كشفت تقارير استخباراتية عراقية أن قيادات وعوائل وعديد العناصر الإرهابية الداعشية، انتقلت سرا من الموصل إلى الرقة، لتسهيل عملية تحرير الموصل وتقديمها للناخب الأمريكي باعتبارها انتصارا للحزب الجمهوري على الإرهاب، وترك سورية على صفيح ساخن لما بعد مرحلة أوباما.   وفي نفس السياق، ضغطت واشنطن على العميل مسعود البرزاني لزيارة بغداد والتفاهم مع العميل العبادي على حل الخلافات القائمة بين الإقليم والمركز وعلى رأسها التخلي “مؤقتا” عن مطلب الانفصال، وحل الخلاف بشأن ملف النفط، وتأجيل مسألة ترسيم حدود الإقليم الكردي إلى ما بعد القضاء على “داعش”.. وهو ما سيسمح بإشراك الأكراد في تحرير الموصل واستبعاد الحشد الشعبي من دخول المدينة مخافة انتقاله بعد ذلك إلى سورية لمساندة الجيش العربي السوري وحلفائه في تحرير الرقة من دواعش واشنطن وإفشال استراتيجيتها المستقبلية في إدامة الحرب في سورية، كما سبق وأن أعلن قياديون في الحشد الشعبي حين كشفوا قبل أيام عن وجود اتفاق سوري عراقي يقضي بتوحيد البندقية وساحات المعركة ضد الإرهاب..   ولقطع الطريق على هذا المخطط، عمدت الولايات المتحدة خلال هذا الأسبوع إلى قصف ثلاثة جسور على نهر الفرات لعزل المنطقة الشمالية الشرقية ومنع أي محاولة لتقدم الجيش العربي السوري وحلفائه للالتحام مع القوات العراقية والحشد الشعبي على الحدود لتحرير الرقة.   وبسبب هذا الدعم السياسي الأمريكي للعبادي، أعلن الأخير موافقته على دخول فوج جديد من الخبراء الأمريكيين قيل أن عديدهم سيصل إلى 450 مستشارا للمشاركة في إدارة تحرير الموصل، لكن إصرار تركيا على المشاركة في التحرير دون دعوة من أحد قد يعقد المشهد ويعرقل المسعى الأمريكي، لإدراك أنقرة أن إشراك أكراد العراق في تحرير الموصل هي خطوة تكتيكية تمهّد لما سيكون عليه الحال مع أكراد سورية مستقبلا، الأمر الذي يهدد أمنها القومي الذي على أساسه استصدرت قرارا مؤخرا من البرلمان يسمح للقوات التركية بالتدخل العسكري في العراق وسورية لمدة سنة، وأعلنت بغداد اليوم أن إصرار تركيا على المشاركة العسكرية في تحرير الموصل أخّر انطلاق عملية التحرير.   *** / ***   وعلى ضوء هذه التطورات، يمكن القول أن انهيار الاتفاق الروسي الأمريكي يدخل في إطار هذه الرؤية الأمريكية القديمة الجديدة لتقسيم العراق وسورية، وهو ما اعتبرته موسكو لحظة فارقة في عمر الصراع في وعلى سورية والمنطقة، لأنه جاء في لحظة حساسة أدركت فيها أن واشنطن تتعامل معها بمنطق الخديعة، وأنها غير جدية في محاربة الإرهاب، وغير معنية بحل الأزمة السورية بالشراكة مع روسيا، وأن هدفها هو الاستثمار في “جبهة النصرة” التي تعتبر أقوى التنظيمات الإرهابية على الأرض لإسقاط النظام في دمشق، وفق ما كشف عن ذلك الوزير لافروف هذا الأسبوع، متهما واشنطن بعدم استهداف “جبهة النصرة” ولو لمرة واحدة، فيما أوضح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أن بلاده تجنبت ذلك حفاظا على أرواح المدنيين، وفق زعمه.   وقد بلغت الخديعة قمتها حين اقترحت أمريكا على إيران في رسالة سرية إشراكها بمعية روسيا في حل المعضلة اليمنية، في حين كان هدفها من ذلك هو محاولة استبعاد الحليفين (الروسي والإيراني) من التفكير في التصعيد لإفشال خطتها في العراق وسورية، وهو ما تفطن له الإمام الخامنئي فرد بالرفض، مؤكدا أن طهران لا يمكنها أن تثق في واشنطن بالمطلق.   والمفارقة التي نستغربها ولا نجد لها تفسيرا يبررها من الناحية المنطقية، هو أن روسيا التي تعرف خبايا السياسة الأمريكية ربما أكثر من إيران، كانت تدرك قبل غيرها أن إدارة أوباما لن يكون في مقدورها التوصل إلى اتفاق معها، لا بشأن الحل السياسي ولا بشأن المشاركة في محاربة الإرهاب في سورية، لما يعنيه ذلك من اعتراف ضمني بالدور الروسي كشريك في حل الأزمات الإقليمية والدولية، والذي كان سيفضي إلى ضرب العقيدة الأمريكية الراسخة القائمة على مبدأ أحادية القطبية الدولية والهيمنة على مقدرات الدول وخيرات الشعوب دون منافس أو منازع، في إطار المنظومة الإمبريالية السياسية والاقتصادية المعولمة والقائمة على منطق الإخضاع بالقوة المباشرة حينا والناعمة أحيانا، لاعتقاد أمريكا أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم القادرة على الحفاظ على النظام العالمي الرأسمالي القائم من الانهيار..   هذا خط أحمر غير مسموح تجاوزه من قبل أي إدارة أمريكية تتولى السلطة ديموقراطية كانت أم جمهورية.. لذلك، كان الرئيس أوباما الذي تعهد بعدم إرسال جنود بلاده للمشاركة في أية حرب جديدة خارج الولايات المتحدة بعد تجربة أفغانستان والعراق الكارثية، يراوغ ويخادع، ويكسب الوقت لتنصيب الفخاخ لاستنزاف روسيا اقتصاديا وأمنيا وعسكريا في سورية وأوكرانيا، وحين فشلت “استراتيجية الخديعة” وتيقن أن أدواته وأدوات أدواته لن يكون بمقدورهم تغيير موازين القوى على الأرض أمام وحدة وتماسك وصلابة التحالف الروسي الإيراني، مقابل تشرذم تحالفه الإقليمي بسبب الصراع على النفوذ بين تركيا و”السعودية” الذي انعكس انقساما وصراعا دمويا بين المجاميع الإرهابية في سورية.. راح الرئيس أوباما يبحث عن اتفاق تكتيكي يسمح له بتمرير ما تبقى من فترته الرئاسية دون صدام عسكري مع روسيا وحلفائها، لتسليم البطاطا السورية الحامية لمن سيخلفه كي يتعامل معها بمعرفته.   وقد رأينا كيف أنه وبسبب الصراع على النفوذ بين تركيا و”السعودية”، تحولت “إسرائيل” إلى عاهرة يخطب ودها الطرفان ويتنافسان على التحالف معها علنا سعيا لإسقاط نفوذ إيران ودورها الذي أصبح واقعا بحكم قدرتها المادية وسياستها العقلانية التي ساعدتها على ذلك برغم الحصار والمؤامرات والحروب والعواصف الفاشلة.   وبعيدا عن العقلانية السياسية وخطاب الشرعية والقانون الدولي، فروسيا وحلفائها كانوا مدركين لمفاصل اللعبة الأمريكية الخبيثة واستراتيجية الخديعة، الأمر الذي جعلهم يلعبون بالبيضة والحجر على طريقتهم الخاصة.. يركزون في العمق على استراتيجية سحق مجاميع الإرهابيين الكبيرة في سورية قبل متم ولاية أوباما، وفي نفس الوقت كانت روسيا تتعاطى بالقوة السياسية الناعمة مع أمريكا، سعيا منها لإيصالها إلى الحائط المسدود وكشف سوء نيتها وكذبها وخديعتها لشعبها وشعوب العالم، لأن الحقيقة وحدها كفيلة بتحرير الشعوب من سطوة الزيف والتضليل الإعلامي الذي مارسته أمريكا وحلفائها وأدواتها بشأن سورية.   وها هو العالم يكتشف اليوم أن ما يقع في سورية لا علاقة له بـ”ديكتاتور يقتل شعبه وفاقد للشرعية”، ولا بـ”ثورة” من أجل الحرية والديموقراطية، ولا بـ”معارضة مسلحة معتدلة” غيرت واشنطن أسمائها ومسمياتها أكثر من مرة كما تغير بذلات موظفيها حسب الفصول والمناسبات.. وأن الأمر يتعلق بلعبة جيوسياسية وجيواستراتيجية قذرة تستعمل فيها واشنطن كل الأسلحة المحرمة من إرهاب وشعارات براقة خادعة وديبلوماسية منافقة زائفة، في انتهاك سافر للشرعية والقانون الدولي من أجل إخضاع الدول الممانعة والمقاومة لهيمنتها الأحادية وتحويل شعوبها من مواطنين أحرار فاعلين ومنتجين إلى عبيد خاضعين ومستهلكين للقيم والسلع الأمريكية.   لكن ما غيّر المشهد وقلب الوضع رأسا على عقب هي معركة حلب التي اعتبرتها واشنطن القشة التي قسمت ظهر بعيرها باعتبارها عاصمة سورية النافعة وفق التوصيف الفرنسي زمن الإستعمار، لأن تطويق الأحياء الشرقية وقطع طرق الإمداد عن “جبهة النصرة” ومتفرعاتها، وقرب عودة المدينة الصناعية الكبرى في سورية إلى حضن الوطن، شكل ضربة قوية للخطة الأمريكية وفشل ذريع سيطبع عهد وتاريخ أوباما إلى الأبد لا محالة.   وبالتالي، لم تجد واشنطن من حل لهذه المعضلة غير التنصل من الاتفاق بإفشاله، وفي سبيل ذلك لا تعوزها الأسباب والمبررات، فمن قصف “إسرائيل” لمواقع الجيش العربي السوري في الجنوب وتحريك “جبهة النصرة” لإشغال دمشق وحلفائها عن جبهة الشمال، إلى قصف مواقع الجيش العربي السوري بدير الزور بـ”الخطأ” لتمكين “داعش” من السيطرة على المنطقة ومنع سورية وحلفائها من التوجه نحو الرقة لملاقاة الحشد الشعبي على الحدود، مرورا بضرب قافلة المساعدات الإنسانية على مشارف حلب من قبل “جبهة النصرة” وفق ما تبين لروسيا، وانتهاءا بالاستعدادات القائمة على قدم وساق لاستعمال أسلحة كيماوية سامة (الفسفور الأصفر) ضد المدنيين الذين تتخذهم الجماعة الإرهابية دروعا بشرية في أحياء حلب الشرقية لاتهام دمشق بذلك وإجبارها بمعية حلفائها على وقف حملتها العسكرية على الأحياء الشرقية للمدينة، وهو ما اكتشفته المخابرات الروسية والسورية وأعلن عنه رسميا السيد بشار الجعفري في مجلس الأمن.   *** / ***   اليوم وصلت أمريكا إلى قناعة مؤداها أن لا جدوى من العملية الدبلوماسية مع روسيا، وأن الحل يكمن في التهديد والابتزاز والتصعيد العسكري ضد روسيا، حيث تقرر نقل التركيز من إسقاط الرئيس الأسد إلى محاربة روسيا عدو أمريكا الأول والخطر الداهم الذي يهدد وضعها ومكانتها كقوة عظمى في العالم.   من هنا، انتهى الكلام عن الحل السياسي في سورية وبدأ الحديث عن سيناريوهات التصعيد في المرحلة المقبلة، وكان سماحة السيد أول من أعلن قبل أيام أن لا حل سياسي في الأفق، وأن المرحلة هي مرحلة الحسم مع الإرهابيين، وقد تابعنا جميعا كيف أن أمريكا أعطت الضوء الأخضر لأدواتها لتكثيف المساعدات العسكرية لمجاميع الإرهابيين بأسلحة جديدة ونوعية تمكنهم من تعديل موازين القوى لغير صالح روسيا وحلفائها..   وفي المقابل، رأينا كيف أن موسكو من جهتها قررت تعزيز تواجدها في سورية وإعادة أسطول الطيران الحربي الذي كانت قد سحبته قبل فترة ودعمه بالقاذفات الإستراتيجية من نوع سوخوي 25، وضخ المزيد من الأسلحة والعتاد والذخيرة وصواريخ (x 38) المدمرة بالكثافة العددية والنوعية التي من شأنها تسريع الحسم مع الإرهاب في سورية لقطع الطريق على خطة “باء” الأمريكية التي تهدف إلى تحويل “جبهة النصرة” ومتفرعاتها إلى قوة ضاربة حيث وضعت لها هدفا يتمثل في إسقاط الأسد في دمشق، ولمنع روسيا من الحؤول دون ذلك، صدرت تعليمات لـ”القاعدة” من أجل البدء بحملة واسعة لاستهداف الجنود الروس في سورية وإرسالهم إلى بلدهم جثتا هامدة في أكياس، والتركيز على القيام بتفجيرات كبيرة في روسيا ومحيطها الجيوسياسي لتأليب الرأي العام الروسي ضد الدب الروسي العنيد بوتين.   هذه هي الإستراتيجية الوحيدة التي تستطيع اللجوء إليها أمريكا في هذه المرحلة لأنها لا تستطيع خوض مواجهة مباشرة مع روسيا في سورية، لإدراكها أن إيران وحزب الله والمقاومة في العراق لن يتركوا روسيا تقاتل لوحدها وسيتم استهداف الأمريكيين في العراق وسورية ومصالح أمريكا في كل دول المنطقة.   ومباشرة عقب هذا التهديد والتحريض الأمريكي الخطير ضد روسيا، خرجت اليوم الناطقة باسم الخارجية الروسية السيدة ماريا زخاروفا لتحذر الولايات المتحدة من مغبة استهداف دمشق أو الجيش العربي السوري، لأن من شأن ذلك أن يعرض المنطقة لزلزال مدمر، وهو ما فهم منه أن التصعيد هذه المرة لن يبقى محصورا في سورية، وقد يطال حلفاء ومصالح أمريكا في المنقطة برمتها.   والخطورة تكمن في أن واشنطن تدرك أن دخولها الحرب مباشرة في سورية سيجلب التنين الصيني لمساندة روسيا، لأن سورية بالنسبة للصين تمثل نفس الأهمية الإستراتيجية بالنسبة لروسيا، سواء لجهة خطر الإرهاب مستقبلا على أمنها واستقرارها، أو لجهة محاصرتها وشل تمددها وتطورها الاقتصادي والتجاري لمعرفتها أن هدف أمريكا من إسقاط سورية هو ضرب طريق الحرير الإستراتيجي الذي سيربطها بالشرق الأوسط وإفريقيا، ناهيك عن الخطر الذي يمثله لمصالح موسكو وطهران لما يهدف إليه من قطع لخطوط إمداد النفط والغاز الروسي والإيراني لأوروبا واستبدالها بالغاز والنفط القطري و”السعودي”، ما سيؤدي إلى انهيار روسيا والصين تباعا.   لذلك، من المستبعد جدا أن تقدم الولايات الأمريكية على مقامرة خطيرة من هذا النوع والحجم في سورية، وهذا بالتحديد هو ما كشفه الوزير جون كيري في اجتماعه مع معارضين ونشطاء سوريين في 22 من سبتمبر/أيلول حضره مسؤولون من ثلاثة أو أربع دول متدخلة في الأزمة السورية، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفق التسريب الخطير الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية اليوم، حيث قال الوزير الأمريكي، إن روسيا “خدعته” في سورية، وأن بلاده لا تستطيع التدخل عسكريا في الصراع بسبب رفض الشعب الأمريكي والكونجرس لمثل هذا الخيار برغم تأييده شخصيا له، لقناعته أن الجهود الديبلوماسية الأمريكية لا يمكن أن تفضي لنتيجة من دون أن تكون مدعومة بالقوة العسكرية.   كما أنه كشف ولأول مرة، أن دخول أمريكا عسكريا في سورية سيؤدي إلى زيادة المراهنات ويعطي نتائج عكسية، لأنه سيدفع بروسيا وحلفائها إلى سحق “المعارضة” بلا رحمة، وسيستنزف أموال “السعودية” وتركيا بلا طائل، وسيدفع بالأطراف المنخرطة في الأزمة السورية مع روسيا نحو القيام بخطوات مشابهة، ما يعني انتقال الصراع من الحرب بالوكالة إلى الحرب المباشرة على مستوى المنطقة في المرحلة الأولى، موضحا أن بلاده لا تستطيع استصدار قرار بالتدخل العسكري من مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي – الصيني، كما وأن الوجود الروسي في سورية يعتبر شرعيا لأنه تم بدعوة من النظام الشرعي في دمشق، بخلاف التدخل الأمريكي الذي سينظر إليه أنه انتهاك لسيادة دولة وشعب لم يعتدي على أمريكا ولم يدعوها لمساعدته في محاربة الإرهاب.   وأضاف مخاطبا المعارضين: “ذلك سيفضي إلى بذل روسيا ما هو أكثر، وتسخير إيران ما هو أكثر، فضلا عن انخراط أوسع لحزب الله”، “مخاطبا المعارضة” بالقول، وكل ذلك “سينتهي في نهاية المطاف بالقضاء عليكم جميعا”، ناصحا إياهم القبول بخوض انتخابات يشارك فيها “رئيس النظام السوري بشار الأسد”.   لا نعلم إن كان الهدف من هذا التسريب الفضيحة هو اعتراف بالفشل ومحاولة لبعث رسالة تكمين لروسيا وإيران بأن أمريكا لا تعتزم التدخل عسكريا في سورية، أم أن الهدف هو الخديعة مرة أخرى في انتظار استواء الطبخة الجديدة التي يحضر لها مجلس الأمن القومي الأمريكي لتتخذ على ضوئها الإدارة الأمريكية القادمة الخيارات المناسبة..   نقول هذا لأن الوزير جون كيري أشار إلى هذه المسألة بطريقة ملتبسة وغامضة من خلال قوله للمعارضة السورية، أن هناك تغييرا حصل في السياسة الأمريكية بشأن سورية، وأن جهودا تبدل الآن لدراسة المسار والتوجهات الجديدة التي تعتزم واشنطن اتخاذها في سورية مستقبلا، وهو ما يؤكد أن الأزمة السورية سترحّل إلى مرحلة ما بعد أوباما، وأن مجلس الأمن القومي والبنتاغون والمخابرات المركزية يعكفون على دراسة مجموعة من الخيارات البديلة بالنسبة للمستقبل.   *** / ***   ومهما يكن من أمر، فكلام الوزير كيري يوحي أن واشنطن قررت عدم التورط عميقا في سورية في مرحلة الانتخابات المفصلية والاكتفاء بما حققته من فوضى عارمة، والخيارات التي تدرسها بالنسبة للمستقبل لا تتعلق بسورية فحسب، بل وتتعلق بروسيا أيضا، بعد أن أصبحت العدو رقم واحد لأمريكا، نظرا لما تمثله من خطر على مكانتها كقوة عظمى مهيمنة على العالم.   لذلك لا نستبعد أن تتخلى واشنطن عن أدواتها في المنطقة وفق ما تقتضيه مصالحها العليا وبراغماتيتها السياسية المعروفة، ومعاقبة تركيا و”السعودية” على فشلهم في إحداث التغيير المطلوب وتوريطها في صراع لم تكن ترغب في أن تخوضه ليشغلها عن الاهتمام باستراتيجيتها الأساسية في آسيا، ومحاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان كانت البداية وستعقبها محاولات أخرى لإسقاطه لمعاقبته على تمرده وخروجه عن خط السياسة المرسومة له، كما أن قانون “جاستا” هو لابتزاز “السعودية” ومعاقبتها على فشلها في سورية والعراق واليمن، من دون أن يعني ذلك لإسقاط النظام، لكن تغيير الرؤوس بات ضروريا لحاجة واشنطن للإرهاب لضرب أمن واستقرار روسيا والصين في المرحلة المقبلة.   أما البديل الذي يبدو أن واشنطن تعمل عليه، فهو تفجير نزاعات عسكرية في آسيا بعد أن نجحت في إسقاط رئيسة البرازيل الموالية لروسيا وإبعاد هذا البلد الكبير عن محور البريكس، والعمل جار على تفجير الأوضاع في أوكرانيا لإنهاك روسيا في محيطها الجيوسياسي، وفي نفس الوقت بدأنا نسمع طبول الحرب تقرع بين باكستان والهند، وفي حال انفجرت الحرب بينهما، فهذا سيعني نهاية منظمة شانغهاي للأمن ومجموعة البريكس الاقتصادية، ما سيضعف روسيا والصين ويجهض مشروعهما لإقامة قوة سياسية واقتصادية ومالية وعسكرية تنافس أمريكا على عرش العالم.   وهذا هو سر اللعبة وخلفيات ما يتحضر لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا من سيناريوهات، لتكون حربا عالمية ناعمة وبالوكالة تجنبا لاحتكاك مباشر مع روسيا في سورية قد يتحول إلى حرب عالمية ثالثة ساحقة ماحقة تهدد مستقبل البشرية بالفناء.   لذلك، تمثل هذه الفترة فرصة ذهبية إذا لم تستغلها روسيا وتحسم الحرب مع الإرهاب بمعية حلفائها في سورية قبل رحيل أوباما، فقد لا تجد متسعا من الوقت لمواجهة ما يُحضّر لها في محيطها الجيوسياسي.   ونعتقد أن هذا ما ستفعله روسيا في المرحلة المقبلة، خصوصا بعد الكشف عن أن هناك حوار عميق جار بين موسكو وطهران، ليس على سورية فحسبن بل وعلى مستوى المنطقة لمواجهة العربدة الأمريكية، بعد وصول الحليفين إلى قناعة مفادها، أن الحل في سورية لا يمكن أن يرى النور إلا بهزيمة المشروع الأمريكي وسقوطه بالضربة القاضية..   ولروسيا وإيران خياراتهما من أجل ذلك يصعب التكهن بشأنها.  

المصدر : أحمد الشرقاوي/ بانوراما الشرق الأوسط


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة