لعلّ الكثيرين علقوا الآمال على الاستدارة التركية في الأزمة السورية، لا سيما بعد التقارب التركي مع كلّ من روسيا وايران. وبعد تصريحات رئيس الحكومة التركية، بن علي يلدريم، مؤخراً، ونائب رئيس الحكومة نعمان قورتولموش، حول ضرورة الاستعداد لتغيير سياسة تركيا تجاه سورية،

 

 التي «تعتبر المسبّب الأساسي لكلّ مصائب تركيا»، حسب تصريح الأخير. لكن من يستطيع أن يأمن جانب الثعبان؟ ومن يتخيّل أنّ الطاغية أردوغان ليس سوى هاو للعبة الاحتلال، يمتطي حصان أوهامه وتعجرفه وينطلق للوقوع في أيّ حفرة يمكن أن يقوده إليها غروره وتعنّته، في تحقيق حلمه العثماني. ونحن من تعوّدنا التماس التخبّط في الموقف التركي، وضرورة الحذر في بناء أيّ موقف سياسي تركي واضح، إستناداً إلى تصريحات بن علي يلدريم المتقلبة، لا سيما وسط صمت أردوغان، لأنّ الموقف الأساسي حيال سورية والرئيس بشار الأسد هو الذي ينطق به أردوغان وليس شخصا صار معروفاً برجل التصريحات المرفقة بنقيضها!

 

عدم التناغم في ضبط إيقاع التصريحات التركية، يؤكده ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي جمع أردوغان ونائب الرئيس الأميركي جو بايدن، حيث أطلّ علينا أردوغان ليتحفنا بنبوءاته الهزلية قائلاً: «إنّ وجود بشار الأسد في السلطة يضرّ بالسوريين»، مشيراً إلى «أن سورية لا يمكن أن تعرف الديمقراطية في حال بقاء الأسد على رأس السلطة». وفي اليوم التالي، وفي تصريح أشدّ وطأة، قال «إنّ تركيا لا يمكن أن تجلس أبداً مع الأسد»!

 

ما لا يخفى على أحد أمرين: أولهما أنّ الشمال السوري، كمنطقة آمنة، هو أقصى ما سعى أردوغان لتحقيقه منذ بداية الأزمة السورية.

 

وثانيهما، أن العداء التركي الشديد للأكراد، الذي بلغ أوجه وتفاقم في حدّته، بعد ازدياد النشاط الكردي على طول الشريط الحدودي السوري التركي، كان ذلك ذريعة أردوغان لما يسمّى بعملية «درع الفرات» العسكرية، لمحاربة «داعش» كهدف وهمي، ولتحطيم الحلم الكردي ومنع الأكراد من السيطرة على جرابلس ووصل منطقة عفرين غرباً، بمنطقة كوباني شرقاً، كهدف حقيقي.

 

لكن ماذا عن الحلم العثماني الكبير؟ هل سيدفن مع الحلم الكردي؟ أم سيتمّ إحياؤه من جديد بعد أن وطأت الدبابات التركية الأراضي السورية؟

 

لذلك نجد أننا أمام خيارين، بعد التدخل التركي في جرابلس.

 

أولاً: التصعيد العسكري ودخول الحرب السورية فصل جديد وطريق آخر، إذا كان التدخل من إخراج ودوبلاج تركي بحت، ومآربه الحقيقية في تحقيق الحلم العثماني على أنقاض الحلم الكردي، أيّ منطقة آمنة عسكرية في الشمال السوري. وهنا تكون تركيا دخلت مستنقع الحرب السورية، والغرق فيه لن يكون، من حيث نتائجه الوخيمة، أقلّ سوءاً من مستنقع اليمن، الذي تغرق فيه السعودية، وتكاد أن تهلك وتلاقي حتفها هناك. نعم هذا هو المصير الطبيعي والحتمي لمن قاده الغرور لاعتماد عمليات اغتصاب الأراضي، والاعتداء السافر على سيادة الدول المستقلة، كأحد الطرق لتحقيق مصالحه غير المشروعة.

 

ثانياً: حلّ سياسي للأزمة السورية، اذا كان هذا التدخل بعلم روسيا وايران، ايّ استدارة تركية نحو سورية، بالطريقة الروسية والإيرانية. وهي إما أن تكون بعلم أميركا، وإما أن تكون أميركا التمست ذلك مؤخراً، ولكي لا تخسر تركيا كحليف استراتيجي إقليمي، في المنطقة، كانت زيارة جو بايدن المفاجئة لأنقرة، وتهديد الأكراد بالابتعاد إلى شرق الفرات، وإلا سيتوقف الدعم الاميركي لهم.

 

بكل الأحوال، إن مساندة واشنطن لتركيا، هي طعنة في الظهر للأكراد، الذين طعنوا الجيش السوري في ظهره في الحسكة، وفقدوا جميع الأوراق، بعدما اكتشفوا أنّ أميركا استغنت عنهم وأنهم ليسوا إلا أداة ضغط على تركيا.

 

فأميركا عندما خيّرت بين تركيا والأكراد، إختارت تركيا ملزمة، بعد الصلح التركي – الروسي، خوفاً من خسارة حليف ذي ثقل إستراتيجي إقليمي في المنطقة، وتقديمه على طبق من فضة لخصميها الروسي والإيراني.

 

إضافة إلى ذلك، فإنّ أردوغان كان بحاجة إلى مثل هذه العملية، ليظهر كبطل لا يُستهان به، ويُحسب له حساب، بعد أن توقع الجميع أنّ شوكته انكسرت عقب عملية الانقلاب الفاشلة. ولرفع معنويات الجيش التركي، بعد أن اهتزت صورته أمام العالم كله، بصور مذلة ومهينة، لم يشهد لها مثيل من قبل في صفوف جيوش دول أخرى.

 

ليس من المبالغة بمكان القول، إنه على الأرض السورية ترسم خريطة العالم كله. ففي سورية تدور الصراعات وتزدحم النزاعات وتتقلب المصالح على جمر التهديدات وحسرة التنازلات.

 

سورية الآن ورغم كلّ ما يجري، هي الحكم الذي يطلق صفارة الإنذار وصفارة الانطلاق، من هذه النقطة وللتوقف عند تلك. وهي الحاكم الذي قلب الموازين وهز العروش وأذلّ المؤامرات وطحن المعارك وبدّل مساراتها، وعكس اتجاهاتها وتوجهاتها بالكامل. هذه حقيقة ثابتة وليست من محض الخيال والأمنيات، لأنّ هذه الحقيقة تحفر معالمها بخطوط بارزة وواضحة على المشهد السوري ككلّ، من دون إستثناء ايّ بقعة جغرافية، أو تجاهل للتركيبات الجديدة، حيث هناك جسور وأعمدة لتحالفات جديدة بُنيت على أنقاض التحالفات القديمة، والسبب الأول والرئيسي في ذلك، هو ما أحدثه إعصار أذهل العالم بأسره، اسمه إعصار صمود الدولة السورية في وجه أشرس الحروب وأعنفها، حيث اقتلع المساعي والأهداف الاستعمارية من جذورها، ورماها في مهبّ الريح، ممزقة مشرذمة لم يبق منها إلا الأشلاء المتناثرة.

 

على الجميع ان يتقبّل حقيقة عدم المساومة على قدرة الحكومة السورية في إدارة دفة الحروب بحنكة وذكاء، لا سيما في فصولها الأخيرة، وإرغام مموّليها وداعيمها على دفع كلفتها وأثمانها حتى قبل انتهائها.

 

مستقبل سورية يحدّده السوريون بقيادة الرئيس بشار الأسد. وما لم ترتضه الحكومة السورية سابقاً، لن ترتضيه الآن. وسيبقى مشروع المنطقة الآمنة حلماً عثمانياً يستحيل تحقيقه، شأنه شأن مشروع الفدرلة والحلم الكردي بتقسيم سورية. وليعلم أردوغان أنه في مرحلة اختبار كشف النوايا، وجدية مزاعمه، فإما أن يحفظ ماء وجهه بالانسحاب من الأراضي السورية، بعد تحقيق الهدف الأساسي من تلك العملية. وإما أنه سيلاقي حتفه ومصيره الأسود، الذي نجا منه بأعجوبة، بعد عملية الانقلاب الفاشلة، لكن داخل الأراضي السورية.

 

  • فريق ماسة
  • 2016-09-03
  • 14399
  • من الأرشيف

الإعصار السوري وحلم أردوغان الأسود

 لعلّ الكثيرين علقوا الآمال على الاستدارة التركية في الأزمة السورية، لا سيما بعد التقارب التركي مع كلّ من روسيا وايران. وبعد تصريحات رئيس الحكومة التركية، بن علي يلدريم، مؤخراً، ونائب رئيس الحكومة نعمان قورتولموش، حول ضرورة الاستعداد لتغيير سياسة تركيا تجاه سورية،    التي «تعتبر المسبّب الأساسي لكلّ مصائب تركيا»، حسب تصريح الأخير. لكن من يستطيع أن يأمن جانب الثعبان؟ ومن يتخيّل أنّ الطاغية أردوغان ليس سوى هاو للعبة الاحتلال، يمتطي حصان أوهامه وتعجرفه وينطلق للوقوع في أيّ حفرة يمكن أن يقوده إليها غروره وتعنّته، في تحقيق حلمه العثماني. ونحن من تعوّدنا التماس التخبّط في الموقف التركي، وضرورة الحذر في بناء أيّ موقف سياسي تركي واضح، إستناداً إلى تصريحات بن علي يلدريم المتقلبة، لا سيما وسط صمت أردوغان، لأنّ الموقف الأساسي حيال سورية والرئيس بشار الأسد هو الذي ينطق به أردوغان وليس شخصا صار معروفاً برجل التصريحات المرفقة بنقيضها!   عدم التناغم في ضبط إيقاع التصريحات التركية، يؤكده ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي جمع أردوغان ونائب الرئيس الأميركي جو بايدن، حيث أطلّ علينا أردوغان ليتحفنا بنبوءاته الهزلية قائلاً: «إنّ وجود بشار الأسد في السلطة يضرّ بالسوريين»، مشيراً إلى «أن سورية لا يمكن أن تعرف الديمقراطية في حال بقاء الأسد على رأس السلطة». وفي اليوم التالي، وفي تصريح أشدّ وطأة، قال «إنّ تركيا لا يمكن أن تجلس أبداً مع الأسد»!   ما لا يخفى على أحد أمرين: أولهما أنّ الشمال السوري، كمنطقة آمنة، هو أقصى ما سعى أردوغان لتحقيقه منذ بداية الأزمة السورية.   وثانيهما، أن العداء التركي الشديد للأكراد، الذي بلغ أوجه وتفاقم في حدّته، بعد ازدياد النشاط الكردي على طول الشريط الحدودي السوري التركي، كان ذلك ذريعة أردوغان لما يسمّى بعملية «درع الفرات» العسكرية، لمحاربة «داعش» كهدف وهمي، ولتحطيم الحلم الكردي ومنع الأكراد من السيطرة على جرابلس ووصل منطقة عفرين غرباً، بمنطقة كوباني شرقاً، كهدف حقيقي.   لكن ماذا عن الحلم العثماني الكبير؟ هل سيدفن مع الحلم الكردي؟ أم سيتمّ إحياؤه من جديد بعد أن وطأت الدبابات التركية الأراضي السورية؟   لذلك نجد أننا أمام خيارين، بعد التدخل التركي في جرابلس.   أولاً: التصعيد العسكري ودخول الحرب السورية فصل جديد وطريق آخر، إذا كان التدخل من إخراج ودوبلاج تركي بحت، ومآربه الحقيقية في تحقيق الحلم العثماني على أنقاض الحلم الكردي، أيّ منطقة آمنة عسكرية في الشمال السوري. وهنا تكون تركيا دخلت مستنقع الحرب السورية، والغرق فيه لن يكون، من حيث نتائجه الوخيمة، أقلّ سوءاً من مستنقع اليمن، الذي تغرق فيه السعودية، وتكاد أن تهلك وتلاقي حتفها هناك. نعم هذا هو المصير الطبيعي والحتمي لمن قاده الغرور لاعتماد عمليات اغتصاب الأراضي، والاعتداء السافر على سيادة الدول المستقلة، كأحد الطرق لتحقيق مصالحه غير المشروعة.   ثانياً: حلّ سياسي للأزمة السورية، اذا كان هذا التدخل بعلم روسيا وايران، ايّ استدارة تركية نحو سورية، بالطريقة الروسية والإيرانية. وهي إما أن تكون بعلم أميركا، وإما أن تكون أميركا التمست ذلك مؤخراً، ولكي لا تخسر تركيا كحليف استراتيجي إقليمي، في المنطقة، كانت زيارة جو بايدن المفاجئة لأنقرة، وتهديد الأكراد بالابتعاد إلى شرق الفرات، وإلا سيتوقف الدعم الاميركي لهم.   بكل الأحوال، إن مساندة واشنطن لتركيا، هي طعنة في الظهر للأكراد، الذين طعنوا الجيش السوري في ظهره في الحسكة، وفقدوا جميع الأوراق، بعدما اكتشفوا أنّ أميركا استغنت عنهم وأنهم ليسوا إلا أداة ضغط على تركيا.   فأميركا عندما خيّرت بين تركيا والأكراد، إختارت تركيا ملزمة، بعد الصلح التركي – الروسي، خوفاً من خسارة حليف ذي ثقل إستراتيجي إقليمي في المنطقة، وتقديمه على طبق من فضة لخصميها الروسي والإيراني.   إضافة إلى ذلك، فإنّ أردوغان كان بحاجة إلى مثل هذه العملية، ليظهر كبطل لا يُستهان به، ويُحسب له حساب، بعد أن توقع الجميع أنّ شوكته انكسرت عقب عملية الانقلاب الفاشلة. ولرفع معنويات الجيش التركي، بعد أن اهتزت صورته أمام العالم كله، بصور مذلة ومهينة، لم يشهد لها مثيل من قبل في صفوف جيوش دول أخرى.   ليس من المبالغة بمكان القول، إنه على الأرض السورية ترسم خريطة العالم كله. ففي سورية تدور الصراعات وتزدحم النزاعات وتتقلب المصالح على جمر التهديدات وحسرة التنازلات.   سورية الآن ورغم كلّ ما يجري، هي الحكم الذي يطلق صفارة الإنذار وصفارة الانطلاق، من هذه النقطة وللتوقف عند تلك. وهي الحاكم الذي قلب الموازين وهز العروش وأذلّ المؤامرات وطحن المعارك وبدّل مساراتها، وعكس اتجاهاتها وتوجهاتها بالكامل. هذه حقيقة ثابتة وليست من محض الخيال والأمنيات، لأنّ هذه الحقيقة تحفر معالمها بخطوط بارزة وواضحة على المشهد السوري ككلّ، من دون إستثناء ايّ بقعة جغرافية، أو تجاهل للتركيبات الجديدة، حيث هناك جسور وأعمدة لتحالفات جديدة بُنيت على أنقاض التحالفات القديمة، والسبب الأول والرئيسي في ذلك، هو ما أحدثه إعصار أذهل العالم بأسره، اسمه إعصار صمود الدولة السورية في وجه أشرس الحروب وأعنفها، حيث اقتلع المساعي والأهداف الاستعمارية من جذورها، ورماها في مهبّ الريح، ممزقة مشرذمة لم يبق منها إلا الأشلاء المتناثرة.   على الجميع ان يتقبّل حقيقة عدم المساومة على قدرة الحكومة السورية في إدارة دفة الحروب بحنكة وذكاء، لا سيما في فصولها الأخيرة، وإرغام مموّليها وداعيمها على دفع كلفتها وأثمانها حتى قبل انتهائها.   مستقبل سورية يحدّده السوريون بقيادة الرئيس بشار الأسد. وما لم ترتضه الحكومة السورية سابقاً، لن ترتضيه الآن. وسيبقى مشروع المنطقة الآمنة حلماً عثمانياً يستحيل تحقيقه، شأنه شأن مشروع الفدرلة والحلم الكردي بتقسيم سورية. وليعلم أردوغان أنه في مرحلة اختبار كشف النوايا، وجدية مزاعمه، فإما أن يحفظ ماء وجهه بالانسحاب من الأراضي السورية، بعد تحقيق الهدف الأساسي من تلك العملية. وإما أنه سيلاقي حتفه ومصيره الأسود، الذي نجا منه بأعجوبة، بعد عملية الانقلاب الفاشلة، لكن داخل الأراضي السورية.  

المصدر : سناء أسعد/ البناء


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة