دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
شكلت محاولة الانقلاب العسكرية في تركيا ليلة 15/7/2016 زلزالاً اهتزت على وقائعه المنطقة، والعالم واستندت الآراء، والتحليلات بما فيها وسائل الإعلام السورية على معادلة خاطئة للغاية- وهي أن «عدو عدوي صديقي»، وبالتالي فليأتِ الشيطان إلى تركيا مقابل التخلص من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وذهب الجمهور السوري باتجاهات عاطفية متطرفة برزت من خلال إطلاق النار الكثيف في أماكن كثيرة، من دون أن يقرأ أحد الحدث، ومن يقف وراءه، ولماذا وقع في هذا التوقيت، وذهب المحللون السياسيون إلى درجة قصوى في التنبؤ بسقوط الرجل دون أدنى معرفة بديناميات الحدث، وطبيعة المجتمع التركي، ودقة الواقع داخل تركيا، لأن أساس التحليل قام على «المحبة والكراهية»، وليس التحليل العلمي والواقعي لهذا الحدث المهم، الأمر الذي صدم الجمهور السوري وغيره من الجماهير في أماكن أخرى صبيحة 16/7/2016.
لقد كنت من الذين مشوا عكس هذا التيار تماماً ليس من منطلق أنني أحب أردوغان بل لأنني أكثر معرفة بالواقع التركي بحكم خبرتي، وعملي هناك لسنوات، وبحكم اتصالاتي في تلك الليلة مع أوساط تركية مطلعة، وصديقة لسورية كانت تقدم رؤية دقيقة لحقيقة ما جرى، وهو ما ساعد أن نعزز قناعاتنا الأساسية الموجودة لنقدم تحليلاً أقرب للواقع، ليكتشف الجمهور في اليوم التالي دقة ما قلناه ليلة 15/7/2016 وأنا هنا لا أنفي إطلاقاً عواطف السوريين الجياشة، وكراهيتهم للدور التركي في دعم الإرهاب، ونهب ثروات السوريين، واستمرار إراقة الدماء، والآلام التي تراكمت في قلوبهم، وهم الشعب الطيب الذي فتح قلبه للجميع، وخاصة تركيا في مرحلة شهر العسل، ولكنني مع التقدير الكبير لكل هذا «وخاصة أنني كتبت الكثير عبر صفحات «الوطن» ضد أردوغان، وسياساته الخاطئة» إلا أن ما أبحث عنه ليس الانسياق وراء العواطف إنما النظر، والتدقيق فيما جرى، لاجتراح الحلول، وإيجاد المخارج لوطني سورية، وأين تكمن مصالحنا في كل ما يحدث.
من هنا دعوني أقدم بعض الحقائق، والتساؤلات لتساعدنا أكثر في فهم الحدث التركي، وكذلك بعض اللقطات، والأفكار المهمة للتأمل:
1- إن فشل محاولة «التمرد العسكري»- أو الانقلاب إن شئتم كانت متوقعة لأن الشعب التركي لم يعد يقبل حكم العسكر بعد معاناته مع ثلاثة انقلابات، ونصف الانقلاب (بين 1960- 1997) إذ شهدت تركيا ثلاثة انقلابات عام 1960، 1971، 1980، وللعلم فإن كل الانقلابات كانت تجري بإيعاز أميركي، وضمن شروط داخلية من الصراعات بين اليمين، واليسار، وتردٍ في الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية، وأعمال تسبق الانقلاب تجعل الناس تطلب تدخل العسكر، وهي شروط لم تكن متوافرة في تركيا مؤخراً.
وإذا أخذنا انقلاب كنعان إيفرين عام 1980 فإن من نتائجه مثلاً اعتقال أكثر من 650 ألف شخص، وإعدام 517، وفصل 30 ألف شخص من وظائفهم، وتجريد 14 ألفاً من جنسيتهم، ومنع 900 فيلم من العرض، حسبما يقول (فهمي هويدي في السفير اللبنانية).
إذاً لم يعد الأتراك يقبلون بهذه الطريقة في الحكم بغض النظر عن مدى سوء سياسات أردوغان، فالبديل ليس انقلاباً عسكرياً مشبوهاً!!!.
2- تشير معلوماتنا إلى أن محاولة الانقلاب الأخيرة كانت بتنسيق أميركي خالص تم داخل «قاعدة انجيرليك الجوية» إذ حسب هذه المعلومات فإن 12 لقاء سرياً حصل بين الجنرال حسن بولات «قائد سلاح المدرعات في الجيش التركي» وضباط أميركان، وأن مخطط الانقلاب سمي «مخطط الألف قنبلة!!»- أي ما الأبنية التي ستقصف، ومن سيعتقل، ومن سيحل مكان من!!! وقد تم ضبط الوثائق المتعلقة بذلك.
أما لماذا فشل الانقلاب ووراءه الولايات المتحدة الأميركية فله أسباب كثيرة لا مجال لمعالجتها هنا، ولكن السبب الأساسي أنه لا دعم واسعاً للانقلاب داخل القوات المسلحة، ولا دعم شعبياً له- ذلك أن كل الأحزاب السياسية، والنقابات، والمجتمع المدني، واتحادات رجال الأعمال ووسائل الإعلام لم تؤيد الانقلابيين.
البعض يتحدث عن أن أردوغان كان على علم بالتخطيط للانقلاب، فتركه يقع ليقوي شوكته لاحقاً!!! هذا الأمر محتمل- أردوغان نفسه كان قد حذر في 29/6/2016 من ذلك بالقول: «إن اتباع غولن في كل مكان بما في ذلك في القصر الجمهوري، وأنا أوصيهم بالاستقالة وإلا فسوف أتخذ بحقهم الإجراءات اللازمة».
لكن هذا لا يعطي الحق بالقول إنه رتب الانقلاب، وأخرجه فهذا كلام فارغ!! إنما لابد من القول إن الصراع بين أردوغان، وغولن فتح عام 2013- يوم نشر الاتصالات الهاتفية لأردوغان بقضايا الفساد، والعمل على اعتقال وزراء الحكومة وأبنائهم، ورجل الأعمال التركي- الإيراني «رضا زراب»، وقصص عديدة، وكثيرة، وبالتالي فإن أردوغان كان يعد القوائم بهؤلاء لتصفيتهم، ويقال حسب المعلومات: إن 1700 ضابط من المتهمين بالانتماء لجماعة غولن كان من المفترض أن يمثلوا أمام النيابة العامة العسكرية في 16/7/2016، وهو ما قد يكون عجل في حركة التمرد، إضافة إلى وجود قائمة أخرى من الضباط كان من المفترض أن يتم طردهم بعد اجتماع مجلس الشورى العسكري الأعلى في 1/8/2016!!
3- إن العداء لأردوغان ودوره في سورية لا يجوز أن لا يجعلنا نرى أن «فتح الله غولن» أكثر خطورة من أردوغان بآلاف المرات، فكثير من السوريين لا يعرفون من هذا الرجل!!! ولماذا تؤيده أميركا!! وهل هو فعلاً معارض سياسي!!
الحقيقة أن «جماعة غولن» هي أخطر شبكة متغلغلة في الدولة التركية، والعديد من دول العالم لخدمة الماسونية العالمية، وأميركا، والغرب، ويحتاج البحث في هذا الموضوع كتباً لبيان نفوذها، وطريقة عملها، وخدماتها التي تقدمها لأميركا، وبالتالي فإن القول: إن «غولن» معارض سياسي هو كلام ليس دقيقاً، كما لو أننا نقول: إن العرعور معارض سياسي سوري، و«أبو محمد الجولاني»- و«زهران علوش» معارضة سياسية!!! إنما هم أدوات لتنفيذ مشاريع الآخرين ضد بلدهم.
بالمناسبة فإن غولن عندما تقدم بطلب الإقامة الدائمة في أميركا أشهر امتلاكه لـ«28 مليار دولار» في البنوك- فمن يكون هذا؟!!
4- شعر أردوغان أن الولايات المتحدة التي تحالف معها، ودعمته لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، تريد إنهاء دوره بعد فشله فيما طُلب منه «مشروع أخونة المنطقة، والأهم العدوان على سورية وإسقاط الدولة الوطنية» بسبب صمود سورية، وشعبها وجيشها، ودماء شهدائها الأبطال، وأرادت واشنطن، وحلفاؤها تدفيعه الفاتورة كاملة ككبش فداء، وهو ما سربه ملك الأردن «عبد الله الثاني» عندما قال قبل فترة: «إن أردوغان، وتركيا مسؤولة عن انتشار الإرهاب، وإرسال الإرهابيين، ونقل الأسلحة لسورية»!!!
لذلك أعلن أردوغان بدء تحول في سياساته عبر التقارب مع موسكو التي طلبت منه تعديل سياساته في سورية فوعد بذلك، لكن حادثة إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني 2015 أطاحت بكل ذلك، ليتبين الآن بعد كشف محاولة الانقلاب- من كان خلف ذلك الحادث، ولماذا؟
دعونا هنا ندقق أيضاً أنه بعد المحاولة الثانية لإعادة المياه إلى مجاريها بين موسكو وأنقرة أي بعد رسالة الاعتذار من أردوغان لبوتين ماذا جرى: تفجيرات إرهابية في مطار اسطنبول في اليوم التالي، ثم الآن المحاولة الانقلابية الأخيرة، التي حدد بعدها مباشرة بوتين موعداً للقمة مع أردوغان!!
التقارب الروسي- التركي، وانعكاساته على الوضع السوري يزعج، ويقلق كثيرين في واشنطن والغرب، والأهم أن انقلاب أردوغان السياسي سيعطل مشروع تقسيم المنطقة، وهو ما يجب أن نركز عليه.
5- لننتبه إلى موقف موسكو، وطهران تجاه أحداث تركيا، فالبلدان يدركان أن بقاء أردوغان الذي يحظى بشعبية على كل سلبياته أفضل من مجيء عملاء آخرين للغرب سوف يعملون على تقسيم المنطقة، وزيادة التوتر، هنا تريد موسكو الاستثمار في أردوغان، وهو أيضاً بحاجتها لأسباب كثيرة منها الاقتصادية، ما سينعكس إيجاباً على سورية.
6- إن حديث أميركا، والغرب بشأن معايير القانون، والدستور، وحقوق الإنسان أصبح كلاماً ممجوجاً، وتافهاً- وخاصة أن أميركا نفسها مشهود لها باحترام القانون الدولي، ودساتير الدول، وإرادات الشعوب (11/9- نموذجاً) و(تقرير شيلكوت عن دور بريطانيا في حرب العراق)، و(الدور الفرنسي في ليبيا) والقائمة تطول، وليس الأمر هنا من باب الدفاع عن أردوغان، لكن من باب الإشارة إلى أن قلق الغرب ليس تجاه حقوق الإنسان، والحريات في تركيا، وإنما من باب الخوف من اجتثاث شبكاتها التجسسية، والعميلة داخل بنية الدولة التركية، والتي زرعت على مدى عقود من الزمن!!!
7- لم تُدهشني كثيراً مواقف جماعات ما يسمى (المعارضة السورية) بمختلف انتماءاتها، وتشكيلاتها، ولكن كان عليهم أن يتعلموا أيضاً كيف تكون (المعارضة السياسية)، ففي تركيا وقفت أحزاب المعارضة مع رئيس البلاد أردوغان بالرغم من خلافاتها الجذرية معه، لأنها أدركت أن الحفاظ على وحدة تركيا، واستقرارها، ورفض الفوضى أهم بكثير من الخلافات مع أردوغان، في حين أن من لدينا لم يدركوا حتى الآن كيف تكون المعارضة السياسية، ولذلك نقول إنه ينطبق عليهم صفة (العملاء) أكثر من المعارضة.
8- النقطة المهمة الأخرى أن حادثة التمرد العسكري في تركيا أظهرت الرفض العام للانقلاب على رئيس شرعي منتخب (هو أردوغان هنا) أي إن المبدأ مرفوض تماماً، وهنا نسأل لماذا يكون مرفوضاً في تركيا، ومقبولاً في سورية في حالة (الرئيس بشار الأسد) المنتخب من شعبه، والذي دعا المعارضة السورية عشرات المرات للاحتكام للصناديق!!!، سؤال برسم المعارضين السوريين، وبرسم الغرب الأكثر نفاقاً في ذلك وبرسم أميركا- أيضاً!!!
أخيراً
لا يهمني كثيراً ما يحدث في الداخل التركي إلا بمقدار انعكاسه على بلدي سورية، فليست مهمتي أن أثبت أن أردوغان (ديكتاتور) مثلاً- فهذا لن يغير واقعي، فالغرب آخر ما يهمه هذا الأمر بدليل (الصداقة الاستراتيجية بين المملكة السعودية الديمقراطية جداً- والغرب)، ولكن علينا أن ندرس احتمالات التغيرات القادمة في السياسة الخارجية التركية والمتوقعة سريعاً بعد لقاء بوتين- أردوغان في الأسبوع الأول من آب، وأن نضع خياراتنا للمرحلة الجديدة التي ستكون إيجابية تجاه سورية التي هزمت مشاريع كثيرة، ولكنها سورية التي تحتاج أيضاً للبحث عن المخارج، والحلول الوطنية- ولمصلحة الشعب السوري الذي آن له أن يرتاح، ويُعِدَ لمستقبل جديد واعد، نتعلم منه دروس الماضي، وعِبَره، مع إدراكي التام لما يقوله إينشتاين (إن تفكيك الأحكام المسبقة، أصعب من تفكيك الذرة).
لنفكر بمصالحنا، ولنعمل عليها فهي البوصلة الأساسية لتقييم أي حدث في تركيا، وغيرها.
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة