للمرة الثانية، يدقّ رئيس وزراء تركيا بن علي يلديريم أجراس السمع في دمشق. الرجل الذي عينّه أكبر أعداء سوريا خلال سنوات الحرب، رئيساً للوزراء، تحدث مرتين على الأقل هذا الشهر عن «علاقات طيبة وجيدة»، يمكن أن تجمع أنقرة ودمشق، معتبراً في تصريحات له أمس ما فحواه أن هذا يستند الى رغبة شعبي البلدين، ولو تخاصم ساستها.

 وقال يلديريم في لقاء تلفزيوني «سنوسع صداقاتنا في الداخل والخارج، وقد بدأنا في فعل ذلك خارجياً، حيث أعدنا علاقاتنا مع إسرائيل وروسيا إلى طبيعتها، وأنا متأكد من أننا سنعود إلى العلاقات الطبيعية مع سوريا أيضاً».

وأوضح يلديريم في معرض حديثه عن العلاقات مع روسيا أولاً أن «العلاقات بين الساسة قد تسوء، إلا أنّ المهم هو الإصغاء لما تقوله الشعوب، فمنذ البداية رفض الشعبان التركي والروسي هذا البرود في العلاقات، وفي نهاية المطاف أصغى الطرفان التركي والروسي لصوت الشعبين، وعادت العلاقات لطبيعتها».

وفي تصريح سابق له يوم الثلاثاء، قال يلديريم إنه «ليست هناك أسباب كثيرة» للدخول في خلاف مع أي من الدول في محيط تركيا، بما في ذلك سوريا ومصر، متعهداً بأن «أنقرة ستواصل جهودها لتحسين العلاقات مع الجيران».

وقال خلال اجتماع لحزب «العدالة والتنمية» في أنقرة: «ليست هناك أسباب كثيرة لننازع العراق وسوريا ومصر أو أي دول في أي منطقة. لكنّ هناك أسباباً كثيرة لدفع العلاقات قدماً إلى الأمام»، مشدداً على أن تركيا تعتبر كل الدول «أصدقاء لها».

ووعد رئيس الوزراء التركي بأن حكومته ستعمل على تعزيز علاقات الصداقة وتجاوز العداوة. وأردف قائلاً: «من الآن وصاعداً، سنعمل على تعزيز الصداقة مع كل الدول في محيط البحر الأوسط والمتوسط. وسنحاول تقليل الخلافات».

ورغم أن ما بين دمشق وأنقرة يفوق «الخلافات» بكثير، إلا أنه وفقاً لتعقيبات مصادر سورية لـ «السفير» على التصريحات التركية الأخيرة، فإن المعروف أنه «في السياسة لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة». وتخرج كلمة صداقة من فم المتحدث مع بعض الضيق، بعدما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أقرب الأصدقاء إلى دمشق على المستويين الشخصي والسياسي، ما قبل بداية الأزمة التي تحوّلت حرباً.

ولا تقلل المصادر المطلعة على القرار السياسي، من أبعاد وخلفيات تحرير يلديريم مرتين لـ «بالونات الاختبار» تلك، وكأنما ينتظر رداً أو تفاعلاً، علماً أن رئيس بلاده وإن نحا نحو الاقتضاب حالياً في المسألة السورية، كان قد تحدث عن عدم وجود أي تغيير في السياسة التركية تجاه سوريا.

لكن الواقع مختلف على الأرجح، ولا سيما أن دمشق تتلقى إشارات من هذا النوع منذ بضعة أسابيع، وتأخذها في الحسبان من دون أن تتفاعل معها.

كما أنه ليس ثمة إنكار سوري لمحاولة الجزائر التوسط بين الطرفين بهدف فتح قناة تنسيق أمنية وسياسية في ملف واحد فقط، يمثل بالنسبة للطرفين هاجساً استراتيجياً، وهو طموحات الأكراد في الشمال، ولا سيما «حزب الاتحاد الديموقراطي».

ووفقاً للمصادر ذاتها، فإن «الهاجس الكردي بالنسبة لسوريا موجود، لكنه بالنسبة لتركيا مسألة حياة أو موت» وفق فهم دمشق لحساسية الأتراك تجاه هذه القضية، ولا سيما أن الجانبين سبق أن نسّقا تفاصيل هذه المسألة في فترة علاقاتهما المزدهرة، وكادا يتوصلان لإعلان مشترك إصلاحي تجاه المسألة الكردية برمّتها.

وترى دمشق أن أردوغان «ربما فقد الأمل أو اقترب تماماً من حافة اليأس تجاه مشروعه» في سوريا، لا سيما أن «كل محاولاته لجر الناتو والولايات المتحدة لتبني سيناريو عسكري في الشمال، فشلت».

ورويداً وفق القراءة ذاتها، يعطي رئيس الدولة والقائد الفعلي للسياسة الخارجية هامش الحرية التجريبي ليلديريم، بتصاريح تحتمل تأويلات عدة، ولكنها ضمنياً تعني شيئاً واحداً: «بدء استدارة سياسية حذرة».

لكن بالنسبة لدمشق، ما جرى بين سوريا وحزب «العدالة والتنمية» الذي يقود سياسة تركيا، يحتاج لأكثر من أعصاب باردة لتحقيق استدارة موازية.

«تركيا آذت سوريا خلال خمس سنوات حرب بالوكالة، أكثر مما تمكنت اسرائيل من تحقيقه خلال سبعين عاماً». للاستفاضة بالشرح لا يتهم السوريون تركيا بتسهيل ودعم وتخطيط الحرب على سوريا، عبر جبهات عدة فقط، بل تمتد الاتهامات إلى سعي تركيا لتدمير البنية التحتية في البلاد، وسرقة المصانع والمعامل (قدرت بـ1700)، وتهريب النفط (بتجارة يومية بملايين الدولارات)، ومحاصيل القطن والقمح الاستراتيجية، وبخسائر يصعب تقديرها، وإن كانت مصادر اقتصادية تقدرها بكلفة تتجاوز خمسة مليارات دولار، من دون الإشارة لسرقة الآثار التي تنشط بشكل واسع عبر الحدود الممتدة بين البلدين لمئات الكيلومترات.

لكن، رغم كل ما تراكم من حقد وعداوات، يظلّ الأهم بالنسبة لمن هم في دمشق هو إنهاء الحرب المستمرة، والتي كلما امتدت يوماً إضافياً ارتفعت كلفتها أكثر.

وتعلن دمشق شروطاً معروفة كـ «إغلاق الحدود ووقف دعم المسلحين»، إلا أن الأرجح أن تخضع أي وساطة مستقبلية لما هو أكثر تفصيلاً من هذا المطلب، علماً أن الدعم اللوجستي التركي زاد بشكل موازٍ مع تصريحات يلديريم من جهة، والتقارب الروسي التركي من جهة أخرى، في محاولة لتعقيد المشهد السياسي وزيادة فعالية أوراق الضغط ربما.

لذا، وتعقيباً على الوساطة التي أشيع أن الجزائر تولت التنسيق لها بين الطرفين، من دون أي نجاح، يقول المصدر «من المهم التذكير بأننا لم نؤذ تركيا يوماً. تركيا هي من اعتدت علينا، ودعمت أعداءنا وسهّلت تدمير منشآتنا، وقادت حملة شرسة على بلدنا لم يسبق له أن خاض مثلها. والآن ما كان يأمل أردوغان تحقيقه بأسابيع، لم يتحقق حتى بعد مرور خمس سنوات»، بما في ذلك حلم أردوغان الصلاة في الجامع الأموي، الذي ربما يزوره الأسبوع القادم رئيس أساقفة قبرص خريسوستوموس الثاني، كنوع من النكاية السياسية، ما دام الظرف لا زال بعيدا عن أي تغيير جوهري.

  • فريق ماسة
  • 2016-07-13
  • 15151
  • من الأرشيف

كيف تنظر دمشق إلى «بالونات اختبار» يلديريم؟

للمرة الثانية، يدقّ رئيس وزراء تركيا بن علي يلديريم أجراس السمع في دمشق. الرجل الذي عينّه أكبر أعداء سوريا خلال سنوات الحرب، رئيساً للوزراء، تحدث مرتين على الأقل هذا الشهر عن «علاقات طيبة وجيدة»، يمكن أن تجمع أنقرة ودمشق، معتبراً في تصريحات له أمس ما فحواه أن هذا يستند الى رغبة شعبي البلدين، ولو تخاصم ساستها.  وقال يلديريم في لقاء تلفزيوني «سنوسع صداقاتنا في الداخل والخارج، وقد بدأنا في فعل ذلك خارجياً، حيث أعدنا علاقاتنا مع إسرائيل وروسيا إلى طبيعتها، وأنا متأكد من أننا سنعود إلى العلاقات الطبيعية مع سوريا أيضاً». وأوضح يلديريم في معرض حديثه عن العلاقات مع روسيا أولاً أن «العلاقات بين الساسة قد تسوء، إلا أنّ المهم هو الإصغاء لما تقوله الشعوب، فمنذ البداية رفض الشعبان التركي والروسي هذا البرود في العلاقات، وفي نهاية المطاف أصغى الطرفان التركي والروسي لصوت الشعبين، وعادت العلاقات لطبيعتها». وفي تصريح سابق له يوم الثلاثاء، قال يلديريم إنه «ليست هناك أسباب كثيرة» للدخول في خلاف مع أي من الدول في محيط تركيا، بما في ذلك سوريا ومصر، متعهداً بأن «أنقرة ستواصل جهودها لتحسين العلاقات مع الجيران». وقال خلال اجتماع لحزب «العدالة والتنمية» في أنقرة: «ليست هناك أسباب كثيرة لننازع العراق وسوريا ومصر أو أي دول في أي منطقة. لكنّ هناك أسباباً كثيرة لدفع العلاقات قدماً إلى الأمام»، مشدداً على أن تركيا تعتبر كل الدول «أصدقاء لها». ووعد رئيس الوزراء التركي بأن حكومته ستعمل على تعزيز علاقات الصداقة وتجاوز العداوة. وأردف قائلاً: «من الآن وصاعداً، سنعمل على تعزيز الصداقة مع كل الدول في محيط البحر الأوسط والمتوسط. وسنحاول تقليل الخلافات». ورغم أن ما بين دمشق وأنقرة يفوق «الخلافات» بكثير، إلا أنه وفقاً لتعقيبات مصادر سورية لـ «السفير» على التصريحات التركية الأخيرة، فإن المعروف أنه «في السياسة لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة». وتخرج كلمة صداقة من فم المتحدث مع بعض الضيق، بعدما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أقرب الأصدقاء إلى دمشق على المستويين الشخصي والسياسي، ما قبل بداية الأزمة التي تحوّلت حرباً. ولا تقلل المصادر المطلعة على القرار السياسي، من أبعاد وخلفيات تحرير يلديريم مرتين لـ «بالونات الاختبار» تلك، وكأنما ينتظر رداً أو تفاعلاً، علماً أن رئيس بلاده وإن نحا نحو الاقتضاب حالياً في المسألة السورية، كان قد تحدث عن عدم وجود أي تغيير في السياسة التركية تجاه سوريا. لكن الواقع مختلف على الأرجح، ولا سيما أن دمشق تتلقى إشارات من هذا النوع منذ بضعة أسابيع، وتأخذها في الحسبان من دون أن تتفاعل معها. كما أنه ليس ثمة إنكار سوري لمحاولة الجزائر التوسط بين الطرفين بهدف فتح قناة تنسيق أمنية وسياسية في ملف واحد فقط، يمثل بالنسبة للطرفين هاجساً استراتيجياً، وهو طموحات الأكراد في الشمال، ولا سيما «حزب الاتحاد الديموقراطي». ووفقاً للمصادر ذاتها، فإن «الهاجس الكردي بالنسبة لسوريا موجود، لكنه بالنسبة لتركيا مسألة حياة أو موت» وفق فهم دمشق لحساسية الأتراك تجاه هذه القضية، ولا سيما أن الجانبين سبق أن نسّقا تفاصيل هذه المسألة في فترة علاقاتهما المزدهرة، وكادا يتوصلان لإعلان مشترك إصلاحي تجاه المسألة الكردية برمّتها. وترى دمشق أن أردوغان «ربما فقد الأمل أو اقترب تماماً من حافة اليأس تجاه مشروعه» في سوريا، لا سيما أن «كل محاولاته لجر الناتو والولايات المتحدة لتبني سيناريو عسكري في الشمال، فشلت». ورويداً وفق القراءة ذاتها، يعطي رئيس الدولة والقائد الفعلي للسياسة الخارجية هامش الحرية التجريبي ليلديريم، بتصاريح تحتمل تأويلات عدة، ولكنها ضمنياً تعني شيئاً واحداً: «بدء استدارة سياسية حذرة». لكن بالنسبة لدمشق، ما جرى بين سوريا وحزب «العدالة والتنمية» الذي يقود سياسة تركيا، يحتاج لأكثر من أعصاب باردة لتحقيق استدارة موازية. «تركيا آذت سوريا خلال خمس سنوات حرب بالوكالة، أكثر مما تمكنت اسرائيل من تحقيقه خلال سبعين عاماً». للاستفاضة بالشرح لا يتهم السوريون تركيا بتسهيل ودعم وتخطيط الحرب على سوريا، عبر جبهات عدة فقط، بل تمتد الاتهامات إلى سعي تركيا لتدمير البنية التحتية في البلاد، وسرقة المصانع والمعامل (قدرت بـ1700)، وتهريب النفط (بتجارة يومية بملايين الدولارات)، ومحاصيل القطن والقمح الاستراتيجية، وبخسائر يصعب تقديرها، وإن كانت مصادر اقتصادية تقدرها بكلفة تتجاوز خمسة مليارات دولار، من دون الإشارة لسرقة الآثار التي تنشط بشكل واسع عبر الحدود الممتدة بين البلدين لمئات الكيلومترات. لكن، رغم كل ما تراكم من حقد وعداوات، يظلّ الأهم بالنسبة لمن هم في دمشق هو إنهاء الحرب المستمرة، والتي كلما امتدت يوماً إضافياً ارتفعت كلفتها أكثر. وتعلن دمشق شروطاً معروفة كـ «إغلاق الحدود ووقف دعم المسلحين»، إلا أن الأرجح أن تخضع أي وساطة مستقبلية لما هو أكثر تفصيلاً من هذا المطلب، علماً أن الدعم اللوجستي التركي زاد بشكل موازٍ مع تصريحات يلديريم من جهة، والتقارب الروسي التركي من جهة أخرى، في محاولة لتعقيد المشهد السياسي وزيادة فعالية أوراق الضغط ربما. لذا، وتعقيباً على الوساطة التي أشيع أن الجزائر تولت التنسيق لها بين الطرفين، من دون أي نجاح، يقول المصدر «من المهم التذكير بأننا لم نؤذ تركيا يوماً. تركيا هي من اعتدت علينا، ودعمت أعداءنا وسهّلت تدمير منشآتنا، وقادت حملة شرسة على بلدنا لم يسبق له أن خاض مثلها. والآن ما كان يأمل أردوغان تحقيقه بأسابيع، لم يتحقق حتى بعد مرور خمس سنوات»، بما في ذلك حلم أردوغان الصلاة في الجامع الأموي، الذي ربما يزوره الأسبوع القادم رئيس أساقفة قبرص خريسوستوموس الثاني، كنوع من النكاية السياسية، ما دام الظرف لا زال بعيدا عن أي تغيير جوهري.

المصدر : السفير/ زياد حيدر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة