ليس هناك خلاف البتّة على أهمية حلب، حيث تشكّل هذه الأهمية نقطة مشتركة بين الجميع سواء بالنسبة للدولة السورية وحلفائها، أو الجماعات المسلّحة وداعميها. فحلب عاصمة سوريا الإقتصادية أولًا، وثاني المدن السورية في كثافتها السكانية ثانيًا، وعقدة الأتراك ثالثًا الذين يشكلون رأس الحربة في قائمة الراغبين بالسيطرة على حلب.

 

الأيام الفائتة حملت معها الكثير من الدّم، ما يجعل الكلام حول معركة حلب مسؤولية كبيرة تتجاوز السبق الصحفي والعناوين الصارخة، ويفرض علينا الكثير من الشفافية والموضوعية في مقاربة الصراع سواء بعناوينه او بتفاصيله.

 

لم تشك الدولة السورية ومعها الحلفاء يومًا أنّ الهدنة ستكون بمثابة محطة تتيح للجماعات المسلّحة مساحة زمنية لإعادة تنظيم صفوفها والتزود بالسلاح والعتاد والذخيرة، فالحرب لم تنته واميركا لم تغير في مواقفها ولا في اساس ومضامين "الفوضى الخلاقة" التي تشكل بالنسبة لها البديل الإستراتيجي كأداة جديدة للسيطرة، والتي وجدت حليفًا غير مباشر لها يؤمن بالتوحش كوسيلة للتغيير، وما كان ينقص إلّا العنوان الذي وجدت له اميركا اسم التغيير الديموقراطي وتسلل الى منطقتنا باسم "الربيع العربي".

 

أميركا كانت تعرف جيدًا تركيبة وماهيّة مجتمعاتنا، وتدرك أنّ امكانية استخدام الايدلوجيا الدينية في عملية التدمير متاحة بشكل كبير، وما كان عليها إلّا أن تعلن عن فوضاها وتدير نتائجها من بعيد، ولن تحتاج لتحقيق ذلك إلّا لعدد يسير من المستشارين العسكريين كبديل عن الجيوش الجرّارة التي غرقت سابقًا في مستنقعات فييتنام وافغانستان والعراق وغيرها. اميركا التي تعرف بالتفاصيل طبيعة الوهابية السعودية والأخونجية التركية والقطرية، واستطاعت أن توائم بين المتناقضات وكذلك فعلت مع اوروبا التابعة وفرضت على الجميع خياراتها ولا زالت.

 

أمّا لماذا هذه المقدمة الطويلة لموضوع ميداني؟ فلأنّ نتائج معركة حلب بكل بساطة ستفرض ايقاعها على كل المنطقة وليس على سوريا فقط، ولأنّ في طيّات جنيف رغبات اميركية يُراد لها ان تتحول الى واقع لا يستنكره احد، رغبات تسير جنبًا الى جنب مع وقائع ومسارات يسلكها الأميركي بدءًا من اعادة تزويد الجماعات المسلّحة بـ3000 طن من الأسلحة النوعية، بينها 900 صاروخ مضاد للدبابات وعشرات الصواريخ المحمولة على الكتف المضادة للطائرات. وخرق الهدنة في حلب دون وجود مبرر ميداني وسيطرة الجماعات المسلّحة على تل العيس ومحاولات الهجوم الفاشلة على خان طومان ومنيان، والسبب الرئيسي هو منع الجيش السوري من استكمال عملياته نحو دير الزور والرقّة بعد تحرير تدمر والقريتين، في الوقت الذي كان الجيش السوري يخوض معارك متنقلة وفي نقاط مختلفة على الطريق الواصل الى حلب لمحاصرة الجيش في مدينة حلب واريافها والضغط على سكان المدينة بالحصار والتجويع. وهو ما لم يحصل ما جعل الجماعات المسلحة تلجأ الى الضغط بالدم كتدبير انتقامي لخسائرها الكبيرة في محيط خان طومان ومنيان أولًا، ومحاولة تثبيت نمط مواجهة جديد يقتصر على رسم خطوط تماس ثابتة واقتصار الأمر على تبادل القصف، وهذا ما لا يتعارض في الحقيقة مع مضمون القرار 2268 المرتبط بوقف الأعمال العدائية الذي يتضمن بندًا حول عدم لجوء اطراف الصراع الى تغيير شكل السيطرة الجغرافية من قبل الجيش السوري والجماعات المسلّحة التي قبلت الهدنة ويستثني جبهة النصرة غير المشمولة بالهدنة، وعدم الوصول الى تدبير يسمح بتمييز مواقع جبهة النصرة عن مواقع الجماعات الأخرى، وهو ما تحدث عنه كيري ويستخدمه كذريعة بعدم احقية الجيش السوري في الرد خشية تعرض ما يسميه كيري بالجماعات المعتدلة. ولهذا لجأ الروس الى الأمم المتحدة لوضع جيش الإسلام وحركة احرار الشام على قائمة الجماعات الإرهابية، الأمر الذي تم رفضه من قبل اميركا بوضوح ودون تردد لأنه يخدم استمرار الوضع على ما هو عليه مع تجاهل اميركا الكامل لهجمات الجماعات المسلحة وعدم ادانتها، لا بل وقيام طائراتها بقصف مستشفى القدس في حي السكري وإلصاق التهمة بالطيران السوري والروسي، وهو أمر تجيده الفضائيات التي تسير في الفلك الأميركي وتمتلك خبرة عالية فيه ويدخل في ادوات الحرب واسلحة المعركة.

 

أمرٌ آخر لا بدّ من تفصيله، هو أنّ اقصى ما تريده اميركا هو الوصول الى نتيجة مفادها استحالة التفاهم بين السوريين، والدعوة بشكل صريح الى تقسيم سوريا. والعمل على هذه النقطة في الحقيقة ينطلق من طرح فريق الرياض بأولوية اسقاط الرئيس الأسد مقابل رفض مطلق من قبل وفد الجمهورية العربية السورية، إضافة الى طرح الفيدرالية من قبل الأكراد وما مجيء الـ250 عسكريًا اميركيًا الى منطقة سيطرة الأكراد إلّا توطئة لتحضير الأجواء والتمهيد لمعركة السيطرة على الرقة، وهو ما يعتقد الأميركيون ان الوقت أصبح متاحًا لهم لتنفيذه بعد إلهاء الجيش السوري في حلب وتصعيب عملياته الهادفة للوصول الى دير الزور والرقّة بنتيجة تقليص عديد القوات.

 

القيادتان الروسية والسورية ومعهما القيادة الإيرانية يتدارسون هذه الأيام طبيعة التعقيدات المطروحة وإعادة ترتيب الأولويات، وإن كان تحرير تدمر في مواجهة مباشرة مع داعش لا يشكل إحراجًا ولا تستطيع اميركا شجبه وإن لم ترحب به فالأمور في حلب مختلفة كثيرًا عمّا هي عليه في اي مكان آخر من سوريا، ولأنّ امر العمليات ببدء معركة حلب الشاملة لا يرتبط أبدًا بعجز الجيش السوري وحلفائه فإنّ المرحلة هي بالتأكيد مرحلة استنفاذ روسيا بشكل اساسي لعملية سحب الذرائع الأميركية التي بدت واضحة وصريحة في تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري حول طرح التقاسم الأمني، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عندما قال عن الأميركيين ان الطبع فيهم يغلب التطبع وإنّ اهدافهم في سوريا لم تتغير، وهذا الكلام رغم رغبة روسيا في السير بالحل السياسي يعبّر عن غضب الروس من الخبث الأميركي وسيشكّل انتقالًا سريعًا الى ضرورة العودة للحلول العسكرية وبزخم كبير هذه المرّة، لأنه لا سوريا ولا روسيا ولا ايران ستسمح بإدخال حلب في المراوحة.

 

وبناءً على المعطيات السائدة، يحاول الأميركيون خلق خيارات كبيرة لهم عبر التشدد في الحفاظ على خرائط السيطرة الحالية، وتضييق الخناق على سوريا وروسيا في المحافل الدولية والإعلامية، واستخدام الجانب الإنساني كوسيلة ضغط اكثر من اي وقت مضى.

 

حشود الجيش السوري وحلفائه في حلب ومحيطها على وشك الإنتهاء وهي في المراحل النهائية، فلا سوريا ولا روسيا يمكن أن تقبلا بفرض واقع لا عودة عنه، ولا الظروف الصعبة التي تعيشها حلب تسمح بذلك، وهو ما يحتم ضرورة اتخاذ القرار بمعركة شاملة ستكون تبعاتها وكلفتها مهما كانت عالية اقل بكثير من كلفة المراوحة والإستنزاف الحالية.

  • فريق ماسة
  • 2016-04-30
  • 11374
  • من الأرشيف

هدنة حلب الى زوال والردّ قادم لا محال

ليس هناك خلاف البتّة على أهمية حلب، حيث تشكّل هذه الأهمية نقطة مشتركة بين الجميع سواء بالنسبة للدولة السورية وحلفائها، أو الجماعات المسلّحة وداعميها. فحلب عاصمة سوريا الإقتصادية أولًا، وثاني المدن السورية في كثافتها السكانية ثانيًا، وعقدة الأتراك ثالثًا الذين يشكلون رأس الحربة في قائمة الراغبين بالسيطرة على حلب.   الأيام الفائتة حملت معها الكثير من الدّم، ما يجعل الكلام حول معركة حلب مسؤولية كبيرة تتجاوز السبق الصحفي والعناوين الصارخة، ويفرض علينا الكثير من الشفافية والموضوعية في مقاربة الصراع سواء بعناوينه او بتفاصيله.   لم تشك الدولة السورية ومعها الحلفاء يومًا أنّ الهدنة ستكون بمثابة محطة تتيح للجماعات المسلّحة مساحة زمنية لإعادة تنظيم صفوفها والتزود بالسلاح والعتاد والذخيرة، فالحرب لم تنته واميركا لم تغير في مواقفها ولا في اساس ومضامين "الفوضى الخلاقة" التي تشكل بالنسبة لها البديل الإستراتيجي كأداة جديدة للسيطرة، والتي وجدت حليفًا غير مباشر لها يؤمن بالتوحش كوسيلة للتغيير، وما كان ينقص إلّا العنوان الذي وجدت له اميركا اسم التغيير الديموقراطي وتسلل الى منطقتنا باسم "الربيع العربي".   أميركا كانت تعرف جيدًا تركيبة وماهيّة مجتمعاتنا، وتدرك أنّ امكانية استخدام الايدلوجيا الدينية في عملية التدمير متاحة بشكل كبير، وما كان عليها إلّا أن تعلن عن فوضاها وتدير نتائجها من بعيد، ولن تحتاج لتحقيق ذلك إلّا لعدد يسير من المستشارين العسكريين كبديل عن الجيوش الجرّارة التي غرقت سابقًا في مستنقعات فييتنام وافغانستان والعراق وغيرها. اميركا التي تعرف بالتفاصيل طبيعة الوهابية السعودية والأخونجية التركية والقطرية، واستطاعت أن توائم بين المتناقضات وكذلك فعلت مع اوروبا التابعة وفرضت على الجميع خياراتها ولا زالت.   أمّا لماذا هذه المقدمة الطويلة لموضوع ميداني؟ فلأنّ نتائج معركة حلب بكل بساطة ستفرض ايقاعها على كل المنطقة وليس على سوريا فقط، ولأنّ في طيّات جنيف رغبات اميركية يُراد لها ان تتحول الى واقع لا يستنكره احد، رغبات تسير جنبًا الى جنب مع وقائع ومسارات يسلكها الأميركي بدءًا من اعادة تزويد الجماعات المسلّحة بـ3000 طن من الأسلحة النوعية، بينها 900 صاروخ مضاد للدبابات وعشرات الصواريخ المحمولة على الكتف المضادة للطائرات. وخرق الهدنة في حلب دون وجود مبرر ميداني وسيطرة الجماعات المسلّحة على تل العيس ومحاولات الهجوم الفاشلة على خان طومان ومنيان، والسبب الرئيسي هو منع الجيش السوري من استكمال عملياته نحو دير الزور والرقّة بعد تحرير تدمر والقريتين، في الوقت الذي كان الجيش السوري يخوض معارك متنقلة وفي نقاط مختلفة على الطريق الواصل الى حلب لمحاصرة الجيش في مدينة حلب واريافها والضغط على سكان المدينة بالحصار والتجويع. وهو ما لم يحصل ما جعل الجماعات المسلحة تلجأ الى الضغط بالدم كتدبير انتقامي لخسائرها الكبيرة في محيط خان طومان ومنيان أولًا، ومحاولة تثبيت نمط مواجهة جديد يقتصر على رسم خطوط تماس ثابتة واقتصار الأمر على تبادل القصف، وهذا ما لا يتعارض في الحقيقة مع مضمون القرار 2268 المرتبط بوقف الأعمال العدائية الذي يتضمن بندًا حول عدم لجوء اطراف الصراع الى تغيير شكل السيطرة الجغرافية من قبل الجيش السوري والجماعات المسلّحة التي قبلت الهدنة ويستثني جبهة النصرة غير المشمولة بالهدنة، وعدم الوصول الى تدبير يسمح بتمييز مواقع جبهة النصرة عن مواقع الجماعات الأخرى، وهو ما تحدث عنه كيري ويستخدمه كذريعة بعدم احقية الجيش السوري في الرد خشية تعرض ما يسميه كيري بالجماعات المعتدلة. ولهذا لجأ الروس الى الأمم المتحدة لوضع جيش الإسلام وحركة احرار الشام على قائمة الجماعات الإرهابية، الأمر الذي تم رفضه من قبل اميركا بوضوح ودون تردد لأنه يخدم استمرار الوضع على ما هو عليه مع تجاهل اميركا الكامل لهجمات الجماعات المسلحة وعدم ادانتها، لا بل وقيام طائراتها بقصف مستشفى القدس في حي السكري وإلصاق التهمة بالطيران السوري والروسي، وهو أمر تجيده الفضائيات التي تسير في الفلك الأميركي وتمتلك خبرة عالية فيه ويدخل في ادوات الحرب واسلحة المعركة.   أمرٌ آخر لا بدّ من تفصيله، هو أنّ اقصى ما تريده اميركا هو الوصول الى نتيجة مفادها استحالة التفاهم بين السوريين، والدعوة بشكل صريح الى تقسيم سوريا. والعمل على هذه النقطة في الحقيقة ينطلق من طرح فريق الرياض بأولوية اسقاط الرئيس الأسد مقابل رفض مطلق من قبل وفد الجمهورية العربية السورية، إضافة الى طرح الفيدرالية من قبل الأكراد وما مجيء الـ250 عسكريًا اميركيًا الى منطقة سيطرة الأكراد إلّا توطئة لتحضير الأجواء والتمهيد لمعركة السيطرة على الرقة، وهو ما يعتقد الأميركيون ان الوقت أصبح متاحًا لهم لتنفيذه بعد إلهاء الجيش السوري في حلب وتصعيب عملياته الهادفة للوصول الى دير الزور والرقّة بنتيجة تقليص عديد القوات.   القيادتان الروسية والسورية ومعهما القيادة الإيرانية يتدارسون هذه الأيام طبيعة التعقيدات المطروحة وإعادة ترتيب الأولويات، وإن كان تحرير تدمر في مواجهة مباشرة مع داعش لا يشكل إحراجًا ولا تستطيع اميركا شجبه وإن لم ترحب به فالأمور في حلب مختلفة كثيرًا عمّا هي عليه في اي مكان آخر من سوريا، ولأنّ امر العمليات ببدء معركة حلب الشاملة لا يرتبط أبدًا بعجز الجيش السوري وحلفائه فإنّ المرحلة هي بالتأكيد مرحلة استنفاذ روسيا بشكل اساسي لعملية سحب الذرائع الأميركية التي بدت واضحة وصريحة في تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري حول طرح التقاسم الأمني، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عندما قال عن الأميركيين ان الطبع فيهم يغلب التطبع وإنّ اهدافهم في سوريا لم تتغير، وهذا الكلام رغم رغبة روسيا في السير بالحل السياسي يعبّر عن غضب الروس من الخبث الأميركي وسيشكّل انتقالًا سريعًا الى ضرورة العودة للحلول العسكرية وبزخم كبير هذه المرّة، لأنه لا سوريا ولا روسيا ولا ايران ستسمح بإدخال حلب في المراوحة.   وبناءً على المعطيات السائدة، يحاول الأميركيون خلق خيارات كبيرة لهم عبر التشدد في الحفاظ على خرائط السيطرة الحالية، وتضييق الخناق على سوريا وروسيا في المحافل الدولية والإعلامية، واستخدام الجانب الإنساني كوسيلة ضغط اكثر من اي وقت مضى.   حشود الجيش السوري وحلفائه في حلب ومحيطها على وشك الإنتهاء وهي في المراحل النهائية، فلا سوريا ولا روسيا يمكن أن تقبلا بفرض واقع لا عودة عنه، ولا الظروف الصعبة التي تعيشها حلب تسمح بذلك، وهو ما يحتم ضرورة اتخاذ القرار بمعركة شاملة ستكون تبعاتها وكلفتها مهما كانت عالية اقل بكثير من كلفة المراوحة والإستنزاف الحالية.

المصدر : عمر معربوني


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة