ثلاث مفاوضات انهارت اليوم حول ثلاثة ملفات رئيسية في المنطقة، وفي اماكن جغرافية مختلفة، الاولى في جنيف، بين وفد الحكومة السورية والمعارضة، والثانية في الكويت، للتوصل الى حل سياسي للازمة اليمنية بسبب عدم حضور وفد “انصار الله” الحوثي، والثالثة في العراق، نظرا لفشل مبادرة الرئيس فؤاد معصوم في التوصل الى نزع فتيل ازمة رئاسة مجلس النواب، ولا ننسى قبلها بيومين انهيار مفاوضات رابعة لا تقل أهمية من الناحيتين الاقتصادية والسياسية وهي مفاوضات الدوحة النفطية.

لنضع الملفين اليمني والعراقي جانبا، ونركز على انهيار مفاوضات جنيف السورية، ورحيل وفد المعارضة برئاسة السيد رياض حجاب الى مقره في الرياض، مقدما “هدية كبرى” كان ينتظرها السيد بشار الجعفري، رئيس الوفد الحكومي المفاوض، بشغف غير مسبوق.

لا نبالغ اذا قلنا ان السيد الجعفري ذهب الى جنيف ليس من اجل انجاح المفاوضات، وانما استفزاز وفد الرياض المعارض، ودفعه الى الانسحاب حتى يتحمل امام العالم مسؤولية انهيار المفاوضات، بينما يظهر الوفد الحكومي بمظهر الحمل الوديع المتعاون مع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، وقد اعطى هذا الاستفزاز ثماره فعلا، على الوجه الاكمل، ووفق السيناريو المأمول.

السيد الجعفري الذي بدأ “مزهوا” بهذا الانتصار، خرج الى الصحافيين مهاجما وفد السيد حجاب، ومعلقا على انسحابه من المفاوضات بقوله “هذا ليس عملا دبلوماسيا او سياسيا ناضجا، بل اسلوب طفولي مراهق في عالم الدبلوماسية والسياسة”.

***

التباعد الكبير في مواقف الطرفين كان من الطبيعي ان يقود الى انهيار المفاوضات، فالسيد حجاب قال انه ذهب ووفده الى جنيف من اجل التفاوض على تشكيل هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة، لا دور للرئيس بشار الاسد فيها، واحترام وقف اطلاق النار، والافراج عن المعتقلين، والسماح بدخول المساعدات الانسانية، وجميع هذه المطالب لم تحقق، واختتم تصريحاته منتقدا راعيي المفاوضات، والامريكي خاصة، بقوله “من ليس قادرا على ادخال علبة حليب الى المناطق المحاصرة هل يستطيع ان يسّير عملية سياسية، وانتقال سياسي؟”، وقفل عائدا الى الرياض دون ان ينتظر الاجابة.

السيد الجعفري “الخبير” في “الاستفزاز″، والمواجهات الصدامية الدبلوماسية، قال ان صلاحياته تتوقف عند مسألة التفاوض على تشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة تضم السلطة والمعارضة، ولا يملك اي تفويض لمناقشة ثلاث قضايا مثل وضع دستور جديد، الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ومستقبل الرئيس، فهذه قضايا يبت فيها الشعب السوري.

كلام السيد الجعفري يمكن اختصاره بعبارة واحدة، وهي ان كل ما يمكن ان تحصل عليه المعارضة ووفودها هو بضعة حقائب وزارية “شكلية” مثل الرياضة والشباب، والعمل في دولة ليس فيها عمل، والزراعة، وفي احسن الاحوال “الثقافة”، وليس الاعلام، ولا مانع، وبعد ضغوط مكثفة القبول بثلاث نواب للرئيس تعينهم المعارضة، ويكون حالهم افضل قليلا من حال السيد فاروق الشرع، اي قضاء معظم الوقت مع احفادهم، ولعب “الدومينو” او طاولة الزهر.

الرئيس الاسد، وبعد صمود استمر لخمس سنوات صعبة جدا، سادتها مواجهات دموية من قبل معارضة مسلحة تضم اكثر من 500 فصيل من مختلف الاحجام والتوجهات الاسلامية والعرقية، مدعومة من قبل قوى اقليمية عظمى مثل تركيا والمملكة العربية السعودية وفرنسا وبريطانيا، وبقيادة الولايات المتحدة، بآلاف الاطنان من الاسلحة، وعدة مليارات من الدولارات،  لا يمكن ان يتنازل عن صلاحياته الامنية والعسكرية لهيئة حكم من معارضيه، ويصطحب اولاده وزوجته على ظهر اول طائرة الى موسكو او طهران، في وقت تحقق قواته تقدما على الارض بمشاركة الحليف الايراني، وغطاء جوي من الحليف الروسي، فهو، وحسب اقوال اقرب المقربين منه، لا يمكن “ان يكون زين العابدين بن علي، او حسني مبارك آخر، ولن يقبل ان يكون اقل “شجاعة” من الرئيس صدام حسين، او حتى معمر القذافي، وسيصمد في موقعه حتى النهاية، واي كانت”.

السيد الجعفري يعرف هذه الحقائق جميعا، فهو من “عظام رقبة النظام”، وباتت وظيفته في جنيف المناورة وكسب الوقت، واستفزاز الطرف الآخر، ولا بد من الاعتراف انه حقق نجاحا كبيرا حتى الآن على الاقل.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا بعد؟ وهل تلجأ الولايات المتحدة وحلفاؤها الى “الخطة ب” التي لوحت بها اكثر من مرة، وعلى لسان اكثر من مسؤول فيها؟ وما هي هذه الخطة؟ وهل يمكن ان تغير المعادلات العسكرية على الارض؟

ما يمكن رصده من خلال التصريحات الامريكية يمكن القول ان العناصر الاساسية للخطة “ب” تتمثل في تزويد المعارضة السورية المسلحة بصواريخ مضادة للطائرات، حيث تدفع دول مثل السعودية وتركيا بهذا الاتجاه، وتحاول رفع “الفيتو” الامريكي على خطط سابقة بارسال دفعات من وصواريخ “مان باد” المحمولة على الكتف، ويمكن ان تشل سلاح الطيران السوري المتهالك، وليس الطيران الروسي المتقدم الذي يعتبر خطا احمر.

امريكا تعارض هذه الخطوة لعدة اسباب، ابرزها الخوف من سقوط هذه الصواريخ في ايدي “الدولة الاسلامية”، التي قد لا تتردد في استخدامها ضد طائرات مدنية اسرائيلية، وربما امريكية واوروبية ايضا، واستفزاز روسيا ودفعها الى تسليح جماعات “انصار الله” الحوثي في اليمن بصواريخ مضادة للطيران والدبابات تستخدمها ضد طائرات ودبابات “عاصفة الحزم”، او اعطاء الضوء الاخضر للدفاعات الجوية السورية والروسية باستخدام بطاريات صواريخ “اس 300″ و”اس 400″ لاسقاط طائرات امريكية، تزدحم بها الاجواء السورية، مما قد يشعل حربا عالمية ثالثة.

***

ندرك ان جميع ما تقدم افتراضات قد لا تتحقق، ولكنها غير مستبعدة في ظل “الحرب الدافئة” الروسية الامريكية، وحالة الاحباط التي يعيشها حلفاء امريكا (السعودية، تركيا، قطر) تجاه فشلها في اطاحة الرئيس الاسد ونظامه طوال السنوات الخمس الماضية، وقبل التدخل العسكري الروسي.

المفاوضات ستستمر في جنيف مع وفود المعارضات الاخرى، علاوة على الوفد الرسمي، وبدون وفد الهيئة العليا برئاسة السيد حجاب، وكبير مفاوضيه محمد علوش، والتصعيد العسكري سيستمر ايضا بعد انهيار الهدنة، والامر بات يحتاج الى قمة روسية امريكية للبحث عن مخارج جديدة لهذه العملية السياسية التي وصلت الى طريق مسدود، وانقاذ ما يمكن انقاذه.

السيد رياض حجاب سيتقلب كثيرا في فراشه هذه الليلة في الرياض غضبا وقلقا، اما السيد الجعفري فقد يحتفل في فندقه، ومع اقرب المقربين منه بطريقته الخاصة، لانه وضع خصومه في مأزق حرج.

انها جولة من جولات معركة طويلة تستخدم فيها كل الحيل ومختلف الاسلحة، ومن يضحك اخيرا يضحك كثيرا.

عداد القتلى والجرحى ستتسارع وتيرته في الايام والاسابيع المقبلة، ويبدو ان توقفه عند رقم محدد بات بعيدا للأسف الشديد.

  • فريق ماسة
  • 2016-04-18
  • 10408
  • من الأرشيف

الجعفري يكسب الجولة الثالثة من مفاوضات جنيف بـ”النقاط” بنجاحه في “استفزاز″ وفد معارضة الرياض ودفعه الى الرحيل..

ثلاث مفاوضات انهارت اليوم حول ثلاثة ملفات رئيسية في المنطقة، وفي اماكن جغرافية مختلفة، الاولى في جنيف، بين وفد الحكومة السورية والمعارضة، والثانية في الكويت، للتوصل الى حل سياسي للازمة اليمنية بسبب عدم حضور وفد “انصار الله” الحوثي، والثالثة في العراق، نظرا لفشل مبادرة الرئيس فؤاد معصوم في التوصل الى نزع فتيل ازمة رئاسة مجلس النواب، ولا ننسى قبلها بيومين انهيار مفاوضات رابعة لا تقل أهمية من الناحيتين الاقتصادية والسياسية وهي مفاوضات الدوحة النفطية. لنضع الملفين اليمني والعراقي جانبا، ونركز على انهيار مفاوضات جنيف السورية، ورحيل وفد المعارضة برئاسة السيد رياض حجاب الى مقره في الرياض، مقدما “هدية كبرى” كان ينتظرها السيد بشار الجعفري، رئيس الوفد الحكومي المفاوض، بشغف غير مسبوق. لا نبالغ اذا قلنا ان السيد الجعفري ذهب الى جنيف ليس من اجل انجاح المفاوضات، وانما استفزاز وفد الرياض المعارض، ودفعه الى الانسحاب حتى يتحمل امام العالم مسؤولية انهيار المفاوضات، بينما يظهر الوفد الحكومي بمظهر الحمل الوديع المتعاون مع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، وقد اعطى هذا الاستفزاز ثماره فعلا، على الوجه الاكمل، ووفق السيناريو المأمول. السيد الجعفري الذي بدأ “مزهوا” بهذا الانتصار، خرج الى الصحافيين مهاجما وفد السيد حجاب، ومعلقا على انسحابه من المفاوضات بقوله “هذا ليس عملا دبلوماسيا او سياسيا ناضجا، بل اسلوب طفولي مراهق في عالم الدبلوماسية والسياسة”. *** التباعد الكبير في مواقف الطرفين كان من الطبيعي ان يقود الى انهيار المفاوضات، فالسيد حجاب قال انه ذهب ووفده الى جنيف من اجل التفاوض على تشكيل هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة، لا دور للرئيس بشار الاسد فيها، واحترام وقف اطلاق النار، والافراج عن المعتقلين، والسماح بدخول المساعدات الانسانية، وجميع هذه المطالب لم تحقق، واختتم تصريحاته منتقدا راعيي المفاوضات، والامريكي خاصة، بقوله “من ليس قادرا على ادخال علبة حليب الى المناطق المحاصرة هل يستطيع ان يسّير عملية سياسية، وانتقال سياسي؟”، وقفل عائدا الى الرياض دون ان ينتظر الاجابة. السيد الجعفري “الخبير” في “الاستفزاز″، والمواجهات الصدامية الدبلوماسية، قال ان صلاحياته تتوقف عند مسألة التفاوض على تشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة تضم السلطة والمعارضة، ولا يملك اي تفويض لمناقشة ثلاث قضايا مثل وضع دستور جديد، الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ومستقبل الرئيس، فهذه قضايا يبت فيها الشعب السوري. كلام السيد الجعفري يمكن اختصاره بعبارة واحدة، وهي ان كل ما يمكن ان تحصل عليه المعارضة ووفودها هو بضعة حقائب وزارية “شكلية” مثل الرياضة والشباب، والعمل في دولة ليس فيها عمل، والزراعة، وفي احسن الاحوال “الثقافة”، وليس الاعلام، ولا مانع، وبعد ضغوط مكثفة القبول بثلاث نواب للرئيس تعينهم المعارضة، ويكون حالهم افضل قليلا من حال السيد فاروق الشرع، اي قضاء معظم الوقت مع احفادهم، ولعب “الدومينو” او طاولة الزهر. الرئيس الاسد، وبعد صمود استمر لخمس سنوات صعبة جدا، سادتها مواجهات دموية من قبل معارضة مسلحة تضم اكثر من 500 فصيل من مختلف الاحجام والتوجهات الاسلامية والعرقية، مدعومة من قبل قوى اقليمية عظمى مثل تركيا والمملكة العربية السعودية وفرنسا وبريطانيا، وبقيادة الولايات المتحدة، بآلاف الاطنان من الاسلحة، وعدة مليارات من الدولارات،  لا يمكن ان يتنازل عن صلاحياته الامنية والعسكرية لهيئة حكم من معارضيه، ويصطحب اولاده وزوجته على ظهر اول طائرة الى موسكو او طهران، في وقت تحقق قواته تقدما على الارض بمشاركة الحليف الايراني، وغطاء جوي من الحليف الروسي، فهو، وحسب اقوال اقرب المقربين منه، لا يمكن “ان يكون زين العابدين بن علي، او حسني مبارك آخر، ولن يقبل ان يكون اقل “شجاعة” من الرئيس صدام حسين، او حتى معمر القذافي، وسيصمد في موقعه حتى النهاية، واي كانت”. السيد الجعفري يعرف هذه الحقائق جميعا، فهو من “عظام رقبة النظام”، وباتت وظيفته في جنيف المناورة وكسب الوقت، واستفزاز الطرف الآخر، ولا بد من الاعتراف انه حقق نجاحا كبيرا حتى الآن على الاقل. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا بعد؟ وهل تلجأ الولايات المتحدة وحلفاؤها الى “الخطة ب” التي لوحت بها اكثر من مرة، وعلى لسان اكثر من مسؤول فيها؟ وما هي هذه الخطة؟ وهل يمكن ان تغير المعادلات العسكرية على الارض؟ ما يمكن رصده من خلال التصريحات الامريكية يمكن القول ان العناصر الاساسية للخطة “ب” تتمثل في تزويد المعارضة السورية المسلحة بصواريخ مضادة للطائرات، حيث تدفع دول مثل السعودية وتركيا بهذا الاتجاه، وتحاول رفع “الفيتو” الامريكي على خطط سابقة بارسال دفعات من وصواريخ “مان باد” المحمولة على الكتف، ويمكن ان تشل سلاح الطيران السوري المتهالك، وليس الطيران الروسي المتقدم الذي يعتبر خطا احمر. امريكا تعارض هذه الخطوة لعدة اسباب، ابرزها الخوف من سقوط هذه الصواريخ في ايدي “الدولة الاسلامية”، التي قد لا تتردد في استخدامها ضد طائرات مدنية اسرائيلية، وربما امريكية واوروبية ايضا، واستفزاز روسيا ودفعها الى تسليح جماعات “انصار الله” الحوثي في اليمن بصواريخ مضادة للطيران والدبابات تستخدمها ضد طائرات ودبابات “عاصفة الحزم”، او اعطاء الضوء الاخضر للدفاعات الجوية السورية والروسية باستخدام بطاريات صواريخ “اس 300″ و”اس 400″ لاسقاط طائرات امريكية، تزدحم بها الاجواء السورية، مما قد يشعل حربا عالمية ثالثة. *** ندرك ان جميع ما تقدم افتراضات قد لا تتحقق، ولكنها غير مستبعدة في ظل “الحرب الدافئة” الروسية الامريكية، وحالة الاحباط التي يعيشها حلفاء امريكا (السعودية، تركيا، قطر) تجاه فشلها في اطاحة الرئيس الاسد ونظامه طوال السنوات الخمس الماضية، وقبل التدخل العسكري الروسي. المفاوضات ستستمر في جنيف مع وفود المعارضات الاخرى، علاوة على الوفد الرسمي، وبدون وفد الهيئة العليا برئاسة السيد حجاب، وكبير مفاوضيه محمد علوش، والتصعيد العسكري سيستمر ايضا بعد انهيار الهدنة، والامر بات يحتاج الى قمة روسية امريكية للبحث عن مخارج جديدة لهذه العملية السياسية التي وصلت الى طريق مسدود، وانقاذ ما يمكن انقاذه. السيد رياض حجاب سيتقلب كثيرا في فراشه هذه الليلة في الرياض غضبا وقلقا، اما السيد الجعفري فقد يحتفل في فندقه، ومع اقرب المقربين منه بطريقته الخاصة، لانه وضع خصومه في مأزق حرج. انها جولة من جولات معركة طويلة تستخدم فيها كل الحيل ومختلف الاسلحة، ومن يضحك اخيرا يضحك كثيرا. عداد القتلى والجرحى ستتسارع وتيرته في الايام والاسابيع المقبلة، ويبدو ان توقفه عند رقم محدد بات بعيدا للأسف الشديد.

المصدر : الماسة السورية/ عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة