أجمعت كافة الأوساط الأميركية والأوروبية على أنها اخذت على حين غرة بقرار الرئيس الروسي سحب قواته الجوية العاملة في سوريا "لتصادف الذكرى الخامسة" للأزمة السورية، باستثناء الأردن الذي أعلن أنه "اخذ علما مسبقا بخطط الرئيس بوتين .. منذ مطلع العام الجاري،" حسبما أفاد "مسؤول أردني رفيع" لإحدى وكالات الأنباء الأميركية.

 أبرزت الصحف الأميركية "صدمة" المسؤولين الأميركيين من قرار الرئيس بوتين، ووصفته يومية "واشنطن بوست" بأنه "انسحاب مفاجيء .. أعاد ترتيب خطوط الصراع الطاحن، ووطّد نفوذ موسكو ليس في ساحة المعركة فحسب، بل على طاولة المفاوضات أيضا".

 واستطردت أن القرار "حظي باهتمام ديبلوماسي فوري من الولايات المتحدة ..وترتب عليه الإعداد لزيارة وزير الخارجية جون كيري لموسكو، الأسبوع المقبل، لبحث (ترتيبات) الانسحاب وخيارات المرحلة السياسية الانتقالية في سوريا." (15 آذار / مارس 2016).

الناطق الرسمي باسم البنتاغون، بيتر كوك، علّق فور اعلان الرئيس بوتين، في 14 آذار/ مارس، أن وزارة الدفاع "تنتظر لترى، مثل الآخرين، ما بوسع الروس فعله فيما يخص الاشارة الى انسحاب جزئي .. كما جرت العادة على امتداد الاشهر الستة الماضية، سنقوم بتقييم (الخطوة) الروسية استناداً الى الأفعال، وليس الأقوال".

  واستدرك بالقول ان البنتاغون "سترحب" بقرار الرئيس بوتين سحب قواته ان كانت بهدف تعزيز وقف اطلاق النار.    

 وسرعان ما اوضحت الأوساط الأميركية أن اعلان الانسحاب الروسي من سوريا "ليس انسحابا تاماً، فروسيا ستبقي على منشآتها البحرية والقواعد الجوية هناك، مما سيتيح لها العودة سريعاً ان تطلبت المتغيرات الميدانية ذلك .. بل لا تنوي روسيا سحب النظام الصاروخي للدفاع الجوي القوي اس-400، كوسيلة ردع لعدد من الدول مثل تركيا والسعودية وحتى الولايات المتحدة، التي قد تراودها فكرة إنشاء مناطق حظر للطيران فوق بعض الأراضي السورية",

 وحرصت الدوائر الأميركية المعنية بالصراع في سوريا، سياسياً وعسكرياً، الإشارة الى بُعد توقيت الانسحاب للتأثير على سير المفاوضات السياسية في جنيف، من ناحية، واتاحة الفرصة الميدانية لقوات الجيش العربي السوري استعادة السيطرة على "كافة الاراضي الخاضعة للمسلحين .."

وعزت تلك الأوساط دوافع الرئيس الروسي لاتخاذ قراره الذي يعد "انقلابا استراتيجيا" بأنه "أدرك متى يتعين عليه الانسحاب قبل الانغماس والتورط في أزمة اخرى .. وقد اوضح الرئيس اوباما أن ذلك عينه يشكل مسار التدخل الروسي".

  ووصف أحد الخبراء العسكريين قرار روسيا بأنه "في واحدة من المرات القليلة في التاريخ، يقدم زعيم سياسي على سحب قواته العسكرية في الوقت المناسب عوضا عن الخروج المتأخر جداً"

 واشد ما تخشاه واشنطن وحلفاءها ان انسحاب روسيا لن يؤدي الى ممارستها ضغوطا اضافية على الرئيس الأسد ووفده المفاوض في جنيف، بل ترجمة الصمود الميداني بمواقف صلبة في مسار المفاوضات.

 السعودية توسع رقعة حضورها

 اقطاب معسكر الحرب والتدخل العسكري في واشنطن أعربت عن اعتقادها بأن "انسحاب روسيا المفاجىء قد يفتح الأبواب أمام تدخل تقوده الدول العربية ضد هدف مزدوج: "داعش" وبشار الاسد."(نشرة "فورين بوليسي،" 15 آذار/ مارس الحالي).

  واوضحت النشرة ان مناورات "رعد الشمال" المشتركة التي جرت على الأراضي السعودية الأسبوع المنصرم شكلّت "اضخم مناورات عسكرية أُقيمت في الشرق الاوسط على الاطلاق،" من بين اهدافها "ارسال رسالة قوية لايران .. وتعزيز قدرات القوات السعودية لتنسيق مناوراتها مع الدول المتعددة المشاركة".

 شاركت 20 دولة بقوات بلغ حجمها 350,000 جندي و 20,000 دبابة ومدرعة وعشرات السفن الحربية ونحو 2,500 طائرة مقاتلة.

واستطردت النشرة نقلاً عن الأوساط العسكرية الأميركية أن "المسرح الرئيس للصراع في المنطقة هو سوريا،" ورمت المناورات إلى تسجيل سلسلة مواقف متشددة في هذا الصدد "لكل من روسيا وايران وسوريا .. وعزم (السعودية) إرسال قوات برية للقتال هناك....

  بعض الخبراء الأميركيين أعربوا بوضوح عن اعتقادهم بأن مناورات "رعد الشمال" ربما أتت أُكلها من حيث انها كانت "حربا وهمية .. بيد أن الهدف هو الإعداد لتدخل عسكري في سوريا .. بانفراد وبمعزل عن مشاركة اميركية،" يعززه تحول مسار السياسة السعودية الى "توسيع آفاقها الجيوستراتيجية" في الاقليم.

  حميّة التدخل العسكري حفزّت بعض القيادات العسكرية الاميركية، حسبما ورد في تقرير "فورين بوليسي" المذكور، إلى الدعوة لانشاء حلف جديد في الاقليم قوامه "القيادات(السعودية) واسرائيل وحلف الناتو .. كمنصة انطلاق متقدمة للاستراتيجة الاميركية – على الرغم من العقبات المواكبة له".

 الهدف النهائي للحلف "احتواء ايران، طمأنة اسرائيل، وانشاء منطقة مستقرة ومزدهرة في الشرق الاوسط مع مرور الزمن".

  عودة لإدعاء الاردن بعلمه المسبق بقرار الانسحاب الروسي، أوردت يومية "ديفينس نيوز" بتاريخ 15 آذار/ مارس الحالي، المختصة بالشؤون الدفاعية واخبار البنتاغون، على لسان المسؤول الأردني الرفيع قوله ان خطة الانسحاب تم تداولها في موسكو، كانون الثاني / يناير 2016، مع وفد عسكري أردني سوري مشترك، ضم قائد الأركان مشعل الزبن ونظيره السوري فهد جاسم الفريج، مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو لبحث "التطورات العسكرية على الحدود السورية الاردنية المشتركة".

واضاف المصدر الأردني أن مدير مكتب الأمن الوطني السوري، علي مملوك، عقد سلسلة لقاءات مع المسؤولين الأردنيين في الاشهر القليلة الماضية "لبحث تداعيات الغارات الجوية الروسية على المسلحين في المنطقة الحدودية المشتركة".

  ما تجمع عليه الأوساط العسكرية الأميركية أنّ التدخّل العسكري الروسي في سوريا منذ شهر ايلول / سبتمبر الماضي "أنجز معظم الأهداف المرسومة، ليس في بُعد تعديل الحسابات الميدانية فحسب، بل اعاد التوازن والثقة القتالية للجيش العربي السوري وتمكينه من استعادة المبادرة والسيطرة".

كما أن خطوط امداد المسلحين من تركيا "قد قطعت" نتيجة الغارات الروسية.

 الانسحاب في الداخل الروسي

  شكلّت تجربة التدخل العسكري السوفييتي في افغانستان، 1979، درساً ملازماً للسياسة الروسية وإدراك القيادات الروسية، لا سيما الرئيس بوتين، للضرر طويل الأمد الناجم عنه. قرار الانسحاب من سوريا، وما رافقه من انجازات ميدانية ملموسة، أسهم مباشرة في استقرار الاوضاع الأمنية، من ناحية، ووضع حدٍ للمخاوف السابقة من التورط والتحول للشأن الداخلي.

 الثابت في قرار التدخل الروسي في سوريا انه لم يستند إلى كسب الحرب والصراع بنصر مؤزر، إذ من العسير الاعتقاد ان سلسلة غارات جوية مكثفة ومستدامة باستطاعتها حسم الميدان الذي اوكل للجيش العربي السوري. فالقرار جاء لتعزيز قدرة الجيش السوري وإمداده بالمعدات الضرورية لتقدمه على الأرض.

واستطاعت روسيا إحراز انجازات ديبلوماسية مواكبة للميدان خاصة فيما يتعلق بمراهنتها على كسب القوى الكردية في الشمال السوري، وإمدادها بالإسلحة والمعدات، وفي الحسبان اثارة الازعاج لتركيا وتهور قراراتها السياسية، فضلا عن ان خطوتها باتجاه الكرد أرست قدراً اعلى من اطمئنان القوى الاقليمية للمراهنة والاعتماد على الدعم الروسي، مقارنة بتذبذب الموقف الاميركي حيال القوى عينها. فالاهداف الروسية من وراء سوريا لها ابعاد استراتيجية، ليس إلاّ.

وأضحت روسيا، بعد التدخل والانسحاب، لاعبا اكتسب أهمية اضافية في التأثير على المسار المستقبلي لسوريا مقابل تراجع حدة الاندفاع الاميركي وحلفائه الاقليميين.

 لعل أبرز الانجازات الروسية في هذا الشأن، فيما يتعلق بلعبة الكبار الاستراتيجية، ردع حلفاء أميركا من تركيا والسعودية، وإلى حد ما الاردن، من إدامة النزيف السوري، وضرب إسفين في علاقة واشنطن ومراهنتها على "الجيش السوري الحر" الذي فقد الجزء الاكبر من "تشكيلاته" نتيجة خسائره الميدانية وانسحاب البعض وانضمام البعض الآخر لتنظيمات متشددة.

واعادت موسكو بوصلة الخطر الى تهديد "الدولة الاسلامية" على أوروبا مجتمعة واستغلالها لموجات هروب اللاجئين عبر الذوبان في السيل المتدفق على البلدان الأوروبية.    

 الدوائر الأميركية هي اول من يقر بتعزيز روسيا لوجودها العسكري في مياه المتوسط، اذ استطاعت تثبيت حضور اسطولها البحري وادامة تواجدها في القاعدة البحرية في طرطوس، عقب تراجع حضورها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بل استعادت موسكو هيبتها البحرية وتحدي الهيمنة الاميركية في مياه البحر المتوسط، مما دفع العديد من الخبراء احياء اجواء الحرب الباردة بينهما.

 الأسلحة المتطورة التي استخدمتها روسيا في سوريا، براً وبحراً وجواً، اثارت انتباه الأوساط الأميركية والأوروبية بالدرجة الأولى، خاصة للقدرة التدميرية الهائلة التي فاقت الترسانة الاميركية في تسديد اصابات محققة للقوى التكفيرية؛ ووفرت لروسيا منفذا اضافيا لبيع افضل منتجاتها العسكرية والتغلب على العقوبات والمقاطعة الاقتصادية المفروضة عليها منذ استعادة سيادتها على شبه جزيرة القرم.

 من ميزات التدخل الروسي، بالنسبة لموسكو، اأها اضحت شريكا مساويا لواشنطن في "ضمان تثبيت وقف اطلاق النار" في سوريا، ومهّدت سبل الحوار بينهما لاستعادة مسار المفاوضات بشأن اوكرانيا رغم كل ما اعتراه من تصلب وتشدد القوى المرتبطة بالولايات المتحدة وتفضيلها التصعيد العسكري.

  في الشقّ الدولي، أضحت موسكو محطة رئيسية تحج اليها الوفود العالمية طالبة ودها ودعمها، ليس في بعد الازمة السورية فحسب، بل لقضايا إقليمية اخرى مرتبطة ومتفرعة عنها، أبرزها قضية ومصير الكرد التي برعت موسكو في لعب ورقتها ضد خصمها التركي، ولما لها من أبعاد اوروبية تتمثل في تأييد مطالب الكرد والاحتفاظ بدور تركيا الاطلسي في الوقت عينه.    

 موسكو عززّت دورها كشريك فاعل في تقرير وجهة الأزمة السورية، وذهب البعض إلى القول ان الرئيس بوتين "يمتلك قرار الفيتو على تشكيل اي حكومة سورية في المرحلة المقبلة".   

وجدد الجدل داخل اروقة حلف الاطلسي لاعادة النظر بالمسلمات السابقة التي "قللت من شأن" القوة العسكرية الروسية، وارتفعت المطالب المنادية بضرورية زيادة نوعية في ميزانيات الانفاق العسكري على الرغم من الاوضاع الاقتصادية الحرجة لعدد من الدول الاوروبية الرئيسة.

 في ظل مناخ المنافسات والمزايدات الانتخابية في الولايات المتحدة، التزمت الإدارة الاميركية خيار "الانتظار" وإبقاء أزمات المنطقة في سياق السيطرة والحيلولة دون اندلاعها لحين انتهاء الانتخابات الرئاسية.

وتعوّل الدوائر الأميركية المتضررة من سياسة التقارب مع موسكو على توجه رئاسي مغاير يعيد المبادرة للولايات المتحدة وحلف الاطلسي في الشؤون العالمية، ويتيح لها لعب دور أكبر وأشد قوة في ترسيم نهاية الصراع الجاري في سوريا.

 البعد الكردي في الأزمة السورية

 الفيدرالية كانت مجرد بالون اختبار روسي للتعرف على ردود فعل القوى السورية المعارضة وداعميها الدوليين.

عوّلت بعض القوى الكردية على استغلال انشغال الدولة السورية بالصراع مع القوى التكفيرية والاتجاه خطوة اضافية نحو نزعة الاستقلال، بصرف النظر عن صوابيتها او امكانية تحقيقها ضمن الموازين الاقليمية الراهنة.

وأثارت تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريباكوف، بترحيب بلاده بصيغة حل فيدرالي في سوريا، جدلاً واسعاً وانتقادات شديدة حتى من داخل واشنطن. وسرعان ما "تراجعت" موسكو عن تلك التصريحات جاءت على لسان الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، معززة بذلك الرؤى الاولية بأن "الفيدرالية" كانت مجرد بالون اختبار للتعرف على ردود فعل القوى السورية المعارضة وداعميها الدوليين.

 كما جاءت تصريحات نائب وزير الخارجية في مناخ سياسي أميركي رفع درجة التوتر بينهما لتشديد وزير الخارجية الاميركي جون كيري عن توفر "خطة بديلة" لبلاده في سوريا ترمي الى تقسيمها وفق اسس طائفية "في حال فشلت الهدنة في سوريا".

  بعض القوى الكردية في الشمال السوري، والتي تلقت دعما أميركيا وروسيا، ذهبت إلى حد عقد مؤتمر لها للاعلان عن "جمهورية فيدرالية،" عقب استثناء "محور السعودية" لها بتمثيلها في مفاوضات جنيف. وسارعت واشنطن لإبداء اعتراضها وعدم دعمها لتوجهات "انفصالية" مشددة في الوقت عينه على "ثوابت" استراتيجيتها التي تنظر الى سوريا كدولة موحدة، علمانية، ذات سيادة وحكومة تمثل مختلف "المكونات" الاجتماعية.

  موسكو لا تزال متمسكة بحضور الكرد في مفاوضات جنيف، عبّر عنه وزير خارجيتها سيرغي لافروف قائلاً إن اقصاء الكرد من المشاركة في تحديد مستقبل سوريا سيدفعهم للخروج عنها.

  حضور الكرد من شأنه تسديد هدف في مرمى السعودية وتركيا وراعيتهما الأميركية التى لا تنوي إغضاب انقرة راهنا على الأقل.

 لا يسع المرء إلاّ الاشارة إلى تجدد الاشتبكات والانفجارات داخل المدن التركية الكبرى، انقرة واسطنبول، نتيجة السياسة التركية الإقصائية وتفضيلها الخيار العسكري في تطويع المناطق الكردية لسيطرتها وحرمانها من احقية المطالبة بنمط من الحكم الذاتي.

  وبلغ التهور بالرئيس التركي أردوغان بشن هجمات مسلحة على مناطق كردية داخل الاراضي السورية، ضاربا بعرض الحائط تحذيرات موسكو له ونصائح واشنطن بعدم الانجرار للتصعيد.

 مصير المفاوضات الجارية في جنيف لن يتأثر سلباً على الارجح بما يجري بين الكرد وحكومة انقرة، بيد أن تداعياتها المرئية لن تعود لصالح أنقرة في ظل التفاهمات الدولية بين موسكو وواشنطن، خاصة لحرص الأخيرة على "تأمين" الساحة السورية وتسليم الرئيس المقبل ساحة دولية تراجعت فيها الأزمات.

  • فريق ماسة
  • 2016-03-19
  • 13141
  • من الأرشيف

عقارب الساعة الإقليمية بتوقيت بوتين أصداؤها تثبِّت معادلة تعدد القطبية

أجمعت كافة الأوساط الأميركية والأوروبية على أنها اخذت على حين غرة بقرار الرئيس الروسي سحب قواته الجوية العاملة في سوريا "لتصادف الذكرى الخامسة" للأزمة السورية، باستثناء الأردن الذي أعلن أنه "اخذ علما مسبقا بخطط الرئيس بوتين .. منذ مطلع العام الجاري،" حسبما أفاد "مسؤول أردني رفيع" لإحدى وكالات الأنباء الأميركية.  أبرزت الصحف الأميركية "صدمة" المسؤولين الأميركيين من قرار الرئيس بوتين، ووصفته يومية "واشنطن بوست" بأنه "انسحاب مفاجيء .. أعاد ترتيب خطوط الصراع الطاحن، ووطّد نفوذ موسكو ليس في ساحة المعركة فحسب، بل على طاولة المفاوضات أيضا".  واستطردت أن القرار "حظي باهتمام ديبلوماسي فوري من الولايات المتحدة ..وترتب عليه الإعداد لزيارة وزير الخارجية جون كيري لموسكو، الأسبوع المقبل، لبحث (ترتيبات) الانسحاب وخيارات المرحلة السياسية الانتقالية في سوريا." (15 آذار / مارس 2016). الناطق الرسمي باسم البنتاغون، بيتر كوك، علّق فور اعلان الرئيس بوتين، في 14 آذار/ مارس، أن وزارة الدفاع "تنتظر لترى، مثل الآخرين، ما بوسع الروس فعله فيما يخص الاشارة الى انسحاب جزئي .. كما جرت العادة على امتداد الاشهر الستة الماضية، سنقوم بتقييم (الخطوة) الروسية استناداً الى الأفعال، وليس الأقوال".   واستدرك بالقول ان البنتاغون "سترحب" بقرار الرئيس بوتين سحب قواته ان كانت بهدف تعزيز وقف اطلاق النار.      وسرعان ما اوضحت الأوساط الأميركية أن اعلان الانسحاب الروسي من سوريا "ليس انسحابا تاماً، فروسيا ستبقي على منشآتها البحرية والقواعد الجوية هناك، مما سيتيح لها العودة سريعاً ان تطلبت المتغيرات الميدانية ذلك .. بل لا تنوي روسيا سحب النظام الصاروخي للدفاع الجوي القوي اس-400، كوسيلة ردع لعدد من الدول مثل تركيا والسعودية وحتى الولايات المتحدة، التي قد تراودها فكرة إنشاء مناطق حظر للطيران فوق بعض الأراضي السورية",  وحرصت الدوائر الأميركية المعنية بالصراع في سوريا، سياسياً وعسكرياً، الإشارة الى بُعد توقيت الانسحاب للتأثير على سير المفاوضات السياسية في جنيف، من ناحية، واتاحة الفرصة الميدانية لقوات الجيش العربي السوري استعادة السيطرة على "كافة الاراضي الخاضعة للمسلحين .." وعزت تلك الأوساط دوافع الرئيس الروسي لاتخاذ قراره الذي يعد "انقلابا استراتيجيا" بأنه "أدرك متى يتعين عليه الانسحاب قبل الانغماس والتورط في أزمة اخرى .. وقد اوضح الرئيس اوباما أن ذلك عينه يشكل مسار التدخل الروسي".   ووصف أحد الخبراء العسكريين قرار روسيا بأنه "في واحدة من المرات القليلة في التاريخ، يقدم زعيم سياسي على سحب قواته العسكرية في الوقت المناسب عوضا عن الخروج المتأخر جداً"  واشد ما تخشاه واشنطن وحلفاءها ان انسحاب روسيا لن يؤدي الى ممارستها ضغوطا اضافية على الرئيس الأسد ووفده المفاوض في جنيف، بل ترجمة الصمود الميداني بمواقف صلبة في مسار المفاوضات.  السعودية توسع رقعة حضورها  اقطاب معسكر الحرب والتدخل العسكري في واشنطن أعربت عن اعتقادها بأن "انسحاب روسيا المفاجىء قد يفتح الأبواب أمام تدخل تقوده الدول العربية ضد هدف مزدوج: "داعش" وبشار الاسد."(نشرة "فورين بوليسي،" 15 آذار/ مارس الحالي).   واوضحت النشرة ان مناورات "رعد الشمال" المشتركة التي جرت على الأراضي السعودية الأسبوع المنصرم شكلّت "اضخم مناورات عسكرية أُقيمت في الشرق الاوسط على الاطلاق،" من بين اهدافها "ارسال رسالة قوية لايران .. وتعزيز قدرات القوات السعودية لتنسيق مناوراتها مع الدول المتعددة المشاركة".  شاركت 20 دولة بقوات بلغ حجمها 350,000 جندي و 20,000 دبابة ومدرعة وعشرات السفن الحربية ونحو 2,500 طائرة مقاتلة. واستطردت النشرة نقلاً عن الأوساط العسكرية الأميركية أن "المسرح الرئيس للصراع في المنطقة هو سوريا،" ورمت المناورات إلى تسجيل سلسلة مواقف متشددة في هذا الصدد "لكل من روسيا وايران وسوريا .. وعزم (السعودية) إرسال قوات برية للقتال هناك....   بعض الخبراء الأميركيين أعربوا بوضوح عن اعتقادهم بأن مناورات "رعد الشمال" ربما أتت أُكلها من حيث انها كانت "حربا وهمية .. بيد أن الهدف هو الإعداد لتدخل عسكري في سوريا .. بانفراد وبمعزل عن مشاركة اميركية،" يعززه تحول مسار السياسة السعودية الى "توسيع آفاقها الجيوستراتيجية" في الاقليم.   حميّة التدخل العسكري حفزّت بعض القيادات العسكرية الاميركية، حسبما ورد في تقرير "فورين بوليسي" المذكور، إلى الدعوة لانشاء حلف جديد في الاقليم قوامه "القيادات(السعودية) واسرائيل وحلف الناتو .. كمنصة انطلاق متقدمة للاستراتيجة الاميركية – على الرغم من العقبات المواكبة له".  الهدف النهائي للحلف "احتواء ايران، طمأنة اسرائيل، وانشاء منطقة مستقرة ومزدهرة في الشرق الاوسط مع مرور الزمن".   عودة لإدعاء الاردن بعلمه المسبق بقرار الانسحاب الروسي، أوردت يومية "ديفينس نيوز" بتاريخ 15 آذار/ مارس الحالي، المختصة بالشؤون الدفاعية واخبار البنتاغون، على لسان المسؤول الأردني الرفيع قوله ان خطة الانسحاب تم تداولها في موسكو، كانون الثاني / يناير 2016، مع وفد عسكري أردني سوري مشترك، ضم قائد الأركان مشعل الزبن ونظيره السوري فهد جاسم الفريج، مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو لبحث "التطورات العسكرية على الحدود السورية الاردنية المشتركة". واضاف المصدر الأردني أن مدير مكتب الأمن الوطني السوري، علي مملوك، عقد سلسلة لقاءات مع المسؤولين الأردنيين في الاشهر القليلة الماضية "لبحث تداعيات الغارات الجوية الروسية على المسلحين في المنطقة الحدودية المشتركة".   ما تجمع عليه الأوساط العسكرية الأميركية أنّ التدخّل العسكري الروسي في سوريا منذ شهر ايلول / سبتمبر الماضي "أنجز معظم الأهداف المرسومة، ليس في بُعد تعديل الحسابات الميدانية فحسب، بل اعاد التوازن والثقة القتالية للجيش العربي السوري وتمكينه من استعادة المبادرة والسيطرة". كما أن خطوط امداد المسلحين من تركيا "قد قطعت" نتيجة الغارات الروسية.  الانسحاب في الداخل الروسي   شكلّت تجربة التدخل العسكري السوفييتي في افغانستان، 1979، درساً ملازماً للسياسة الروسية وإدراك القيادات الروسية، لا سيما الرئيس بوتين، للضرر طويل الأمد الناجم عنه. قرار الانسحاب من سوريا، وما رافقه من انجازات ميدانية ملموسة، أسهم مباشرة في استقرار الاوضاع الأمنية، من ناحية، ووضع حدٍ للمخاوف السابقة من التورط والتحول للشأن الداخلي.  الثابت في قرار التدخل الروسي في سوريا انه لم يستند إلى كسب الحرب والصراع بنصر مؤزر، إذ من العسير الاعتقاد ان سلسلة غارات جوية مكثفة ومستدامة باستطاعتها حسم الميدان الذي اوكل للجيش العربي السوري. فالقرار جاء لتعزيز قدرة الجيش السوري وإمداده بالمعدات الضرورية لتقدمه على الأرض. واستطاعت روسيا إحراز انجازات ديبلوماسية مواكبة للميدان خاصة فيما يتعلق بمراهنتها على كسب القوى الكردية في الشمال السوري، وإمدادها بالإسلحة والمعدات، وفي الحسبان اثارة الازعاج لتركيا وتهور قراراتها السياسية، فضلا عن ان خطوتها باتجاه الكرد أرست قدراً اعلى من اطمئنان القوى الاقليمية للمراهنة والاعتماد على الدعم الروسي، مقارنة بتذبذب الموقف الاميركي حيال القوى عينها. فالاهداف الروسية من وراء سوريا لها ابعاد استراتيجية، ليس إلاّ. وأضحت روسيا، بعد التدخل والانسحاب، لاعبا اكتسب أهمية اضافية في التأثير على المسار المستقبلي لسوريا مقابل تراجع حدة الاندفاع الاميركي وحلفائه الاقليميين.  لعل أبرز الانجازات الروسية في هذا الشأن، فيما يتعلق بلعبة الكبار الاستراتيجية، ردع حلفاء أميركا من تركيا والسعودية، وإلى حد ما الاردن، من إدامة النزيف السوري، وضرب إسفين في علاقة واشنطن ومراهنتها على "الجيش السوري الحر" الذي فقد الجزء الاكبر من "تشكيلاته" نتيجة خسائره الميدانية وانسحاب البعض وانضمام البعض الآخر لتنظيمات متشددة. واعادت موسكو بوصلة الخطر الى تهديد "الدولة الاسلامية" على أوروبا مجتمعة واستغلالها لموجات هروب اللاجئين عبر الذوبان في السيل المتدفق على البلدان الأوروبية.      الدوائر الأميركية هي اول من يقر بتعزيز روسيا لوجودها العسكري في مياه المتوسط، اذ استطاعت تثبيت حضور اسطولها البحري وادامة تواجدها في القاعدة البحرية في طرطوس، عقب تراجع حضورها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بل استعادت موسكو هيبتها البحرية وتحدي الهيمنة الاميركية في مياه البحر المتوسط، مما دفع العديد من الخبراء احياء اجواء الحرب الباردة بينهما.  الأسلحة المتطورة التي استخدمتها روسيا في سوريا، براً وبحراً وجواً، اثارت انتباه الأوساط الأميركية والأوروبية بالدرجة الأولى، خاصة للقدرة التدميرية الهائلة التي فاقت الترسانة الاميركية في تسديد اصابات محققة للقوى التكفيرية؛ ووفرت لروسيا منفذا اضافيا لبيع افضل منتجاتها العسكرية والتغلب على العقوبات والمقاطعة الاقتصادية المفروضة عليها منذ استعادة سيادتها على شبه جزيرة القرم.  من ميزات التدخل الروسي، بالنسبة لموسكو، اأها اضحت شريكا مساويا لواشنطن في "ضمان تثبيت وقف اطلاق النار" في سوريا، ومهّدت سبل الحوار بينهما لاستعادة مسار المفاوضات بشأن اوكرانيا رغم كل ما اعتراه من تصلب وتشدد القوى المرتبطة بالولايات المتحدة وتفضيلها التصعيد العسكري.   في الشقّ الدولي، أضحت موسكو محطة رئيسية تحج اليها الوفود العالمية طالبة ودها ودعمها، ليس في بعد الازمة السورية فحسب، بل لقضايا إقليمية اخرى مرتبطة ومتفرعة عنها، أبرزها قضية ومصير الكرد التي برعت موسكو في لعب ورقتها ضد خصمها التركي، ولما لها من أبعاد اوروبية تتمثل في تأييد مطالب الكرد والاحتفاظ بدور تركيا الاطلسي في الوقت عينه.      موسكو عززّت دورها كشريك فاعل في تقرير وجهة الأزمة السورية، وذهب البعض إلى القول ان الرئيس بوتين "يمتلك قرار الفيتو على تشكيل اي حكومة سورية في المرحلة المقبلة".    وجدد الجدل داخل اروقة حلف الاطلسي لاعادة النظر بالمسلمات السابقة التي "قللت من شأن" القوة العسكرية الروسية، وارتفعت المطالب المنادية بضرورية زيادة نوعية في ميزانيات الانفاق العسكري على الرغم من الاوضاع الاقتصادية الحرجة لعدد من الدول الاوروبية الرئيسة.  في ظل مناخ المنافسات والمزايدات الانتخابية في الولايات المتحدة، التزمت الإدارة الاميركية خيار "الانتظار" وإبقاء أزمات المنطقة في سياق السيطرة والحيلولة دون اندلاعها لحين انتهاء الانتخابات الرئاسية. وتعوّل الدوائر الأميركية المتضررة من سياسة التقارب مع موسكو على توجه رئاسي مغاير يعيد المبادرة للولايات المتحدة وحلف الاطلسي في الشؤون العالمية، ويتيح لها لعب دور أكبر وأشد قوة في ترسيم نهاية الصراع الجاري في سوريا.  البعد الكردي في الأزمة السورية  الفيدرالية كانت مجرد بالون اختبار روسي للتعرف على ردود فعل القوى السورية المعارضة وداعميها الدوليين. عوّلت بعض القوى الكردية على استغلال انشغال الدولة السورية بالصراع مع القوى التكفيرية والاتجاه خطوة اضافية نحو نزعة الاستقلال، بصرف النظر عن صوابيتها او امكانية تحقيقها ضمن الموازين الاقليمية الراهنة. وأثارت تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريباكوف، بترحيب بلاده بصيغة حل فيدرالي في سوريا، جدلاً واسعاً وانتقادات شديدة حتى من داخل واشنطن. وسرعان ما "تراجعت" موسكو عن تلك التصريحات جاءت على لسان الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، معززة بذلك الرؤى الاولية بأن "الفيدرالية" كانت مجرد بالون اختبار للتعرف على ردود فعل القوى السورية المعارضة وداعميها الدوليين.  كما جاءت تصريحات نائب وزير الخارجية في مناخ سياسي أميركي رفع درجة التوتر بينهما لتشديد وزير الخارجية الاميركي جون كيري عن توفر "خطة بديلة" لبلاده في سوريا ترمي الى تقسيمها وفق اسس طائفية "في حال فشلت الهدنة في سوريا".   بعض القوى الكردية في الشمال السوري، والتي تلقت دعما أميركيا وروسيا، ذهبت إلى حد عقد مؤتمر لها للاعلان عن "جمهورية فيدرالية،" عقب استثناء "محور السعودية" لها بتمثيلها في مفاوضات جنيف. وسارعت واشنطن لإبداء اعتراضها وعدم دعمها لتوجهات "انفصالية" مشددة في الوقت عينه على "ثوابت" استراتيجيتها التي تنظر الى سوريا كدولة موحدة، علمانية، ذات سيادة وحكومة تمثل مختلف "المكونات" الاجتماعية.   موسكو لا تزال متمسكة بحضور الكرد في مفاوضات جنيف، عبّر عنه وزير خارجيتها سيرغي لافروف قائلاً إن اقصاء الكرد من المشاركة في تحديد مستقبل سوريا سيدفعهم للخروج عنها.   حضور الكرد من شأنه تسديد هدف في مرمى السعودية وتركيا وراعيتهما الأميركية التى لا تنوي إغضاب انقرة راهنا على الأقل.  لا يسع المرء إلاّ الاشارة إلى تجدد الاشتبكات والانفجارات داخل المدن التركية الكبرى، انقرة واسطنبول، نتيجة السياسة التركية الإقصائية وتفضيلها الخيار العسكري في تطويع المناطق الكردية لسيطرتها وحرمانها من احقية المطالبة بنمط من الحكم الذاتي.   وبلغ التهور بالرئيس التركي أردوغان بشن هجمات مسلحة على مناطق كردية داخل الاراضي السورية، ضاربا بعرض الحائط تحذيرات موسكو له ونصائح واشنطن بعدم الانجرار للتصعيد.  مصير المفاوضات الجارية في جنيف لن يتأثر سلباً على الارجح بما يجري بين الكرد وحكومة انقرة، بيد أن تداعياتها المرئية لن تعود لصالح أنقرة في ظل التفاهمات الدولية بين موسكو وواشنطن، خاصة لحرص الأخيرة على "تأمين" الساحة السورية وتسليم الرئيس المقبل ساحة دولية تراجعت فيها الأزمات.

المصدر : الميادين/مكتب واشنطن


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة