يعيش حكام تل أبيب أفراحهم بالجملة، فما لم يكونوا يحلمون ببلوغه عبر عقود ها هو يتحقق ومن دون أن يخسروا رصاصة أو قطرة دم واحدة، وما كان يشغل مراكز الدراسات الاستراتيجية ومفاصل صنع القرار الإسرائيلي يتبلور بخطوات عدوانية عملية وقرارات يتخذها مصاصو الدماء والجاهليون الجدد باسم مجلس التعاون تارة وما يسمى الجامعة العربية تارة أخرى.

 

 ولا يحتاج المتابع العادي إلى كبير عناء ليرى بأم العين حرص الأعراب على تنفيذ حلقات المشروع التفتيتي عبر استماتة الطغم الحاكمة التي نصبوها على كراسي العروش في السعودية وبقية مشيخات الخليج وسلطانته وإماراته المسبحة بحمد سيدها الصهيو ـ أميركي صباح مساء، والغريب أنه ما يزال هناك من يراهن على تبدل في الاستراتيجية الأميركية واقتراب نهاية ولاية أوباما، وكأن المذكور قصَّر في تقديم الخدمات الجليلة لحكام تل أبيب، وهو الذي زار السفارة الإسرائيلية في واشنطن بمناسبة إحياء ما يسمونه "هولوكست" واستحضر أجواء الحرب العالمية الثانية صارخاً ملء الفيه " كلنا يهود"، والأكثر غرابة أن الجميع على يقين بأن ما يعصف بمنطقة الشرق الأوسط هو تنفيذ حرفي للمشروعين  الأميركيين: الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الكبير، وها هي واشنطن تسوق نفسها رائدة للحل وإخماد الحرائق، وكأن إطلاق تصريح عدواني مرتفع السقف من هذا المسؤول الأميركي أو ذاك، والعودة لإطلاق تصريح أقل عدوانية يحول هذا المسؤول الأميركي أو ذاك من عدو مباشر داعم للإرهاب إلى محامٍ وقاضٍ ومحاربٍ للإرهاب في الوقت نفسه!!

 

الغريب فعلاً أساليب الاستهزاء بالعقل البشري والتعامل مع  النتائج وتجاهل المقدمات التي أفضت إليها، فها هي واشنطن اليوم تتصدر مع موسكو قائمة الرعاية الدولية لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة برمتها بعد أن عصف بها الإرهاب الأميركي الصهيوني بلبوس وهابي سموه "ربيعاً عربياً" ، وها هي واشنطن التي أشرفت على تحويل ليبيا إلى كرة نار ملتهبة تعترف بلسان رئيسها بأن ذلك كان خطأ استراتيجياً، لكنها لا تتوقف عن صب الزيت على النار وإعطاء الضوء الأخضر لأدواتها الإقليمية لمحاولة تكرار الأمر إن استطاعت في سوريا، ومن البلاهة الاستراتيجية أن يظنن أحد أنه بإمكان السعودية وتركيا الاستمرار بالعربدة من دون ضوء أخضر أميركي، وبالتالي فإن كل ما يتم الحديث عنه عن الاتفاق الأميركي ـ الروسي الذي تحول إلى قرار أممي لوقف الأعمال القتالية في سوريا قد يتحول في أية لحظة إلى منصة جديدة لتوسيع امتداد ألسنة اللهب بذرائع لا تعجز الإدارة الأميركية عن اختلاقها متى أرادت، وهنا لا بد من التمييز بين الأمنيات والرغبات من جهة وبين متطلبات المواجهة المفتوحة والاشتعال المحتمل من جهة أخرى، فتذبذب التصريحات الأميركية يؤكد خطورة غالبية السيناريوهات المحتملة، وتغيير حدة الخطاب الرسمي الأميركي بفعل واقع ميداني فرضه الجيش العربي السوري والقوى الرديفة لا يعني أن واشنطن سلمت بفشل مشروعها التفتيتي، ولكي تتضح الصورة أكثر لا بد من التوقف عند عدد من النقاط المهمة، ومنها:

 

حزب الله والإرهاب الوهابي السعودي:

التعامل بردود الأفعال من قبل صبيان السياسة يأتي بنتائج كارثية قد يصعب التحكم بتداعياتها، والمتابع للسياسة السعودية يدرك مدى تحكم الفكر المتصحر المسكون بالأحقاد والرغبة الجامحة بالتعويض عن عقد النقص المزمن والانتقام، وهذا ما أعمى بصر وبصائر حكام الأسرة الحاكمة في الرياض ودفعها لارتكاب حماقة قابلها حكام تل أبيب بقهقات خففت من وطأة الكابوس الذي يعيشه أولئك من احتمال اشتعال النار في منطقة الشرق الأوسط وإمكانية امتداد ألسنة اللهب إليهم حتى ولو حرص اللاعبون الدوليون على تجنيبهم مغبة التورط المباشر في أي انفجار مستقبلي محتمل، إلا إن الإصرار السعودي على استصدار قرار من مجلس التعاون بتصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية ارتد بنتائج عكسية تفوق قدرة رعاة الإرهاب على التصور والتعامل مع التداعيات، وجميع معطيات الواقع تؤكد صحة المقولة" إياك والأحمق يريد أن ينفعك فيضرك"  وما ردات الفعل الفطرية في الشارع العربي والإسلامي  وحتى الإنساني تنديداً بالقرار الخليجي إلا الدليل الدامغ على صحة ما نقول، فإنجازات حزب الله وقدرته على تمريغ وجوه الجنرالات الصهاينة بأوحال الهزيمة، وإثبات المقاومة كمعادل موضوعي وحيد لتصحيح الخلل الاستراتيجي في موازين القوى، وما يقدمه اليوم من إضافة للفكر العسكري العالمي على ساحات المواجهة المفتوحة في سوريا قد أرغم الأفعى الوهابية على إخراج رأسها من جحرها ، واضطر حكام الرياض لخلع الأقنعة دفعة واحدة ليسفروا عن وجوههم القبيحة الكالحة وليعلنوا بكل صفاقة التماهي مع المشروع الصهيوني، ولا شك أن تكامل الاستراتيجيتين السعودية والإسرائيلية يخلف الكثير من المخاطر، ولا يجوز الاطمئنان التام إلى ان القوى الفاعلة مهتمة بعدم تفجير الساحة اللبنانية، فما يتفتق عنه الفكر التفتيتي قد يتجاوز المعقول، والساحة اللبنانية أكثر من هشة، وصواعق التفجير كثيرة بدءا بالمخيمات التي يجب أن تبقى تحت المجهر، وليس انتهاء بالحدود السورية اللبنانية المتصلة جغرافياً حتى طرابلس أي حتى البحر وهذا يترك الباب مفتوحاً على جميع الاحتمالات.

 

الفدرلة الجغرافية بمنطلقات ديمغرافية:

كثرت الأحاديث والأخبار المسربة من بعض مراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية عن الهدف الرئيس الكامن وراء الحرب على سوريا وهو التقسيم والتشظي إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأي حديث عن التقسيم تحت أي مسمى كان  يضع المنطقة برمتها أمام مفترق طرق لا أحد يستطيع التنبؤ بالضفة التي يقود إليها أي طريق، فنظام الفيدرالية يتضمن في كينونته احتمال إعادة التموضع والمطالبة بالانفصال عن جسد الوطن الأم، وهنا لابد من التذكير بأن كل ما له علاقة بحاضر سوريا ومستقبلها ونظام الحكم فيها ومن يقودها هو حق حصري للشعب السوري، ولا يحق لأية قوة إقليمية أو دولية مصادرة هذا الحق ولا التدخل في تفاصيله، وبالتالي  فإن مثل هذه الدعوات تأتي في أحسن الأحوال ضمن سياق وضع العربة أمام الحصان، أو محاولة رسم حدود شبه إلزامية لفرضها على جدول أعمال  جلسات جنيف ثلاثة، ومن الضروري التوقف هنا عند موضوع العزف على أوتار انتماءات الضيقة، فالموقف الأميركي من مطالب تركيا بفرض منطقة عازلة لايعني معاداة تركيا كما لايعني محبة المكون الكردي ، بل سعي مفضوح الأهداف لإبقاء المنطقة متوترة، وخلق وضع قائم يمكن استثماره كرأس حربة ضد الدولة السورية من جهة وضد تركيا من جهة أخرى عند الحاجة، وضد المكون الكر دي عندما يتطلب الأمر،أو عندما يرفض هذا الطرف أو ذاك الإذعان للإملاءات الأميركية التي لا يمكن أن تشذ عن البوصلة الصهيونية.

 

التحشدات العسكرية والتداعيات الميدانية:

لا يختلف متابعان على أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت مسرحا لتحشدات عسكرية من أربع جهات الأرض، ومن المسلم به في الاستراتيجيا العسكرية أن التحشد قد يقود إلى حرب حتى ولو لم يكن المتحشدون راغبين بذلك، وهذا يستدعي تساؤلاً مشروعاً : إذا لم تكن الدول التي أصبح لها وجود عسكري في المنطقة تسعى للحرب فلماذا التزاحم في الوجود العسكري المباشر؟

لاشك أن الجواب على هذا التساؤل يتطلب دراسات مستفيضة ومستقلة، لكن وباختصار شديد يمكن القول إن هناك مؤشرات مقلقة، وتتطلب التعامل معها بمنتهى المسؤولية بدءاً بالتهديدات السعودية التركية والحديث المتكرر عن تدخل بري في سوريا، ورفع سقف التصريحات حيناً وخفضه أحياناً أخرى، مع الأخذ بالحسبان طبيعة التحالف الملتبس للحرب على داعش، ورفض واشنطن حتى الآن تقديم لوائح بالتنظيمات المسلحة التي تدعي أنها معتدلة، وإذا أضفنا إلى ذلك المساحات الجغرافية التي يتم تطهيرها من داعش بشكل غير واضح المعالم، فهناك من يقول إن الكثير من تلك المناطق في العراق وسوريا أعيدت السيطرة عليها بدون إطلاق رصاصة واحدة، أي أن العملية تسليم واستلام، فماذا لو خلع إرهابيو داعش والنصرة وغيرهما القلنسوة السوداء والجلباب القصيرة واستبدلوهما بكرافيت وطقم رسمي، واستبدلوا الاسم المعتمد بأي اسم آخر ؟ وهل هناك ما يقلل من أهمية وخطورة المسميات الجديدة  التي ستحظى برعاية إقليمية ودولية، وكأنهم يعودون بالسوريين جميعا إلى المربع الأول؟ لاشك أن الأمر يتطلب الكثير من الانتباه والحذر والانطلاق من الأسوأ لتكون مواجهة السيئ ممكنة، أي أنه لا يجوز السماح بحدوث ذلك بأية ذريعة وتحت أي مسمى كان.

 

باختصار شديد يمكن القول: إن المنطقة تعيش تحديات مصيرية، ولو كان أصحاب المشروع التفتيتي مطمئنين إلى أنه بالإمكان تجنيب الكيان الصهيوني تداعيات أي انفجار محتمل لما ترددوا لحظة واحدة في إحراق المنطقة، وهذا يعني أن تبقى هذه الحقيقة قائمة، فضمان تجنيب الشرق الأوسط مغبة الاشتعال في أية لحظة مرهون بلجم رعاة الإرهاب التكفيري الوهابي وخلع أنيابهم ومخالبهم المسمومة، وإبقاء بوصلة البندقية متجهة  نحو الكيان الصهيوني لأنه السبب الرئيسي في كل ما تشهده المنطقة من اضطرابات ومخاطر وجودية لا يجوز تجاهلها ولا الاستهانة بأي مظهر من مظاهرها وإن بدت خادعة.

  • فريق ماسة
  • 2016-03-10
  • 6963
  • من الأرشيف

سيناريوهات الاشتعال المحتمل في منطقة الشرق الأوسط

يعيش حكام تل أبيب أفراحهم بالجملة، فما لم يكونوا يحلمون ببلوغه عبر عقود ها هو يتحقق ومن دون أن يخسروا رصاصة أو قطرة دم واحدة، وما كان يشغل مراكز الدراسات الاستراتيجية ومفاصل صنع القرار الإسرائيلي يتبلور بخطوات عدوانية عملية وقرارات يتخذها مصاصو الدماء والجاهليون الجدد باسم مجلس التعاون تارة وما يسمى الجامعة العربية تارة أخرى.    ولا يحتاج المتابع العادي إلى كبير عناء ليرى بأم العين حرص الأعراب على تنفيذ حلقات المشروع التفتيتي عبر استماتة الطغم الحاكمة التي نصبوها على كراسي العروش في السعودية وبقية مشيخات الخليج وسلطانته وإماراته المسبحة بحمد سيدها الصهيو ـ أميركي صباح مساء، والغريب أنه ما يزال هناك من يراهن على تبدل في الاستراتيجية الأميركية واقتراب نهاية ولاية أوباما، وكأن المذكور قصَّر في تقديم الخدمات الجليلة لحكام تل أبيب، وهو الذي زار السفارة الإسرائيلية في واشنطن بمناسبة إحياء ما يسمونه "هولوكست" واستحضر أجواء الحرب العالمية الثانية صارخاً ملء الفيه " كلنا يهود"، والأكثر غرابة أن الجميع على يقين بأن ما يعصف بمنطقة الشرق الأوسط هو تنفيذ حرفي للمشروعين  الأميركيين: الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الكبير، وها هي واشنطن تسوق نفسها رائدة للحل وإخماد الحرائق، وكأن إطلاق تصريح عدواني مرتفع السقف من هذا المسؤول الأميركي أو ذاك، والعودة لإطلاق تصريح أقل عدوانية يحول هذا المسؤول الأميركي أو ذاك من عدو مباشر داعم للإرهاب إلى محامٍ وقاضٍ ومحاربٍ للإرهاب في الوقت نفسه!!   الغريب فعلاً أساليب الاستهزاء بالعقل البشري والتعامل مع  النتائج وتجاهل المقدمات التي أفضت إليها، فها هي واشنطن اليوم تتصدر مع موسكو قائمة الرعاية الدولية لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة برمتها بعد أن عصف بها الإرهاب الأميركي الصهيوني بلبوس وهابي سموه "ربيعاً عربياً" ، وها هي واشنطن التي أشرفت على تحويل ليبيا إلى كرة نار ملتهبة تعترف بلسان رئيسها بأن ذلك كان خطأ استراتيجياً، لكنها لا تتوقف عن صب الزيت على النار وإعطاء الضوء الأخضر لأدواتها الإقليمية لمحاولة تكرار الأمر إن استطاعت في سوريا، ومن البلاهة الاستراتيجية أن يظنن أحد أنه بإمكان السعودية وتركيا الاستمرار بالعربدة من دون ضوء أخضر أميركي، وبالتالي فإن كل ما يتم الحديث عنه عن الاتفاق الأميركي ـ الروسي الذي تحول إلى قرار أممي لوقف الأعمال القتالية في سوريا قد يتحول في أية لحظة إلى منصة جديدة لتوسيع امتداد ألسنة اللهب بذرائع لا تعجز الإدارة الأميركية عن اختلاقها متى أرادت، وهنا لا بد من التمييز بين الأمنيات والرغبات من جهة وبين متطلبات المواجهة المفتوحة والاشتعال المحتمل من جهة أخرى، فتذبذب التصريحات الأميركية يؤكد خطورة غالبية السيناريوهات المحتملة، وتغيير حدة الخطاب الرسمي الأميركي بفعل واقع ميداني فرضه الجيش العربي السوري والقوى الرديفة لا يعني أن واشنطن سلمت بفشل مشروعها التفتيتي، ولكي تتضح الصورة أكثر لا بد من التوقف عند عدد من النقاط المهمة، ومنها:   حزب الله والإرهاب الوهابي السعودي: التعامل بردود الأفعال من قبل صبيان السياسة يأتي بنتائج كارثية قد يصعب التحكم بتداعياتها، والمتابع للسياسة السعودية يدرك مدى تحكم الفكر المتصحر المسكون بالأحقاد والرغبة الجامحة بالتعويض عن عقد النقص المزمن والانتقام، وهذا ما أعمى بصر وبصائر حكام الأسرة الحاكمة في الرياض ودفعها لارتكاب حماقة قابلها حكام تل أبيب بقهقات خففت من وطأة الكابوس الذي يعيشه أولئك من احتمال اشتعال النار في منطقة الشرق الأوسط وإمكانية امتداد ألسنة اللهب إليهم حتى ولو حرص اللاعبون الدوليون على تجنيبهم مغبة التورط المباشر في أي انفجار مستقبلي محتمل، إلا إن الإصرار السعودي على استصدار قرار من مجلس التعاون بتصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية ارتد بنتائج عكسية تفوق قدرة رعاة الإرهاب على التصور والتعامل مع التداعيات، وجميع معطيات الواقع تؤكد صحة المقولة" إياك والأحمق يريد أن ينفعك فيضرك"  وما ردات الفعل الفطرية في الشارع العربي والإسلامي  وحتى الإنساني تنديداً بالقرار الخليجي إلا الدليل الدامغ على صحة ما نقول، فإنجازات حزب الله وقدرته على تمريغ وجوه الجنرالات الصهاينة بأوحال الهزيمة، وإثبات المقاومة كمعادل موضوعي وحيد لتصحيح الخلل الاستراتيجي في موازين القوى، وما يقدمه اليوم من إضافة للفكر العسكري العالمي على ساحات المواجهة المفتوحة في سوريا قد أرغم الأفعى الوهابية على إخراج رأسها من جحرها ، واضطر حكام الرياض لخلع الأقنعة دفعة واحدة ليسفروا عن وجوههم القبيحة الكالحة وليعلنوا بكل صفاقة التماهي مع المشروع الصهيوني، ولا شك أن تكامل الاستراتيجيتين السعودية والإسرائيلية يخلف الكثير من المخاطر، ولا يجوز الاطمئنان التام إلى ان القوى الفاعلة مهتمة بعدم تفجير الساحة اللبنانية، فما يتفتق عنه الفكر التفتيتي قد يتجاوز المعقول، والساحة اللبنانية أكثر من هشة، وصواعق التفجير كثيرة بدءا بالمخيمات التي يجب أن تبقى تحت المجهر، وليس انتهاء بالحدود السورية اللبنانية المتصلة جغرافياً حتى طرابلس أي حتى البحر وهذا يترك الباب مفتوحاً على جميع الاحتمالات.   الفدرلة الجغرافية بمنطلقات ديمغرافية: كثرت الأحاديث والأخبار المسربة من بعض مراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية عن الهدف الرئيس الكامن وراء الحرب على سوريا وهو التقسيم والتشظي إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأي حديث عن التقسيم تحت أي مسمى كان  يضع المنطقة برمتها أمام مفترق طرق لا أحد يستطيع التنبؤ بالضفة التي يقود إليها أي طريق، فنظام الفيدرالية يتضمن في كينونته احتمال إعادة التموضع والمطالبة بالانفصال عن جسد الوطن الأم، وهنا لابد من التذكير بأن كل ما له علاقة بحاضر سوريا ومستقبلها ونظام الحكم فيها ومن يقودها هو حق حصري للشعب السوري، ولا يحق لأية قوة إقليمية أو دولية مصادرة هذا الحق ولا التدخل في تفاصيله، وبالتالي  فإن مثل هذه الدعوات تأتي في أحسن الأحوال ضمن سياق وضع العربة أمام الحصان، أو محاولة رسم حدود شبه إلزامية لفرضها على جدول أعمال  جلسات جنيف ثلاثة، ومن الضروري التوقف هنا عند موضوع العزف على أوتار انتماءات الضيقة، فالموقف الأميركي من مطالب تركيا بفرض منطقة عازلة لايعني معاداة تركيا كما لايعني محبة المكون الكردي ، بل سعي مفضوح الأهداف لإبقاء المنطقة متوترة، وخلق وضع قائم يمكن استثماره كرأس حربة ضد الدولة السورية من جهة وضد تركيا من جهة أخرى عند الحاجة، وضد المكون الكر دي عندما يتطلب الأمر،أو عندما يرفض هذا الطرف أو ذاك الإذعان للإملاءات الأميركية التي لا يمكن أن تشذ عن البوصلة الصهيونية.   التحشدات العسكرية والتداعيات الميدانية: لا يختلف متابعان على أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت مسرحا لتحشدات عسكرية من أربع جهات الأرض، ومن المسلم به في الاستراتيجيا العسكرية أن التحشد قد يقود إلى حرب حتى ولو لم يكن المتحشدون راغبين بذلك، وهذا يستدعي تساؤلاً مشروعاً : إذا لم تكن الدول التي أصبح لها وجود عسكري في المنطقة تسعى للحرب فلماذا التزاحم في الوجود العسكري المباشر؟ لاشك أن الجواب على هذا التساؤل يتطلب دراسات مستفيضة ومستقلة، لكن وباختصار شديد يمكن القول إن هناك مؤشرات مقلقة، وتتطلب التعامل معها بمنتهى المسؤولية بدءاً بالتهديدات السعودية التركية والحديث المتكرر عن تدخل بري في سوريا، ورفع سقف التصريحات حيناً وخفضه أحياناً أخرى، مع الأخذ بالحسبان طبيعة التحالف الملتبس للحرب على داعش، ورفض واشنطن حتى الآن تقديم لوائح بالتنظيمات المسلحة التي تدعي أنها معتدلة، وإذا أضفنا إلى ذلك المساحات الجغرافية التي يتم تطهيرها من داعش بشكل غير واضح المعالم، فهناك من يقول إن الكثير من تلك المناطق في العراق وسوريا أعيدت السيطرة عليها بدون إطلاق رصاصة واحدة، أي أن العملية تسليم واستلام، فماذا لو خلع إرهابيو داعش والنصرة وغيرهما القلنسوة السوداء والجلباب القصيرة واستبدلوهما بكرافيت وطقم رسمي، واستبدلوا الاسم المعتمد بأي اسم آخر ؟ وهل هناك ما يقلل من أهمية وخطورة المسميات الجديدة  التي ستحظى برعاية إقليمية ودولية، وكأنهم يعودون بالسوريين جميعا إلى المربع الأول؟ لاشك أن الأمر يتطلب الكثير من الانتباه والحذر والانطلاق من الأسوأ لتكون مواجهة السيئ ممكنة، أي أنه لا يجوز السماح بحدوث ذلك بأية ذريعة وتحت أي مسمى كان.   باختصار شديد يمكن القول: إن المنطقة تعيش تحديات مصيرية، ولو كان أصحاب المشروع التفتيتي مطمئنين إلى أنه بالإمكان تجنيب الكيان الصهيوني تداعيات أي انفجار محتمل لما ترددوا لحظة واحدة في إحراق المنطقة، وهذا يعني أن تبقى هذه الحقيقة قائمة، فضمان تجنيب الشرق الأوسط مغبة الاشتعال في أية لحظة مرهون بلجم رعاة الإرهاب التكفيري الوهابي وخلع أنيابهم ومخالبهم المسمومة، وإبقاء بوصلة البندقية متجهة  نحو الكيان الصهيوني لأنه السبب الرئيسي في كل ما تشهده المنطقة من اضطرابات ومخاطر وجودية لا يجوز تجاهلها ولا الاستهانة بأي مظهر من مظاهرها وإن بدت خادعة.

المصدر : حسن أحمد حسن - المنار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة