قبل بضع سنوات، أو أكثر قليلاً، استخدم كاتب تركي هو يالتشين كوتشوك أسلوباً معيناً لقياس وفهم الحزب الصاعد، المتميز بالغموض، والذي يطبق نوعاً من النهج التقوي في إدارته الداخلية، أي حزب العدالة والتنمية. ويقوم الأسلوب على متابعة أدق التفاصيل حول شخصيات الحزب، وشجرة عائلتها، ومرجعيتها الفكرية، وتاريخ الشيوخ الذين كانوا مريدين لديهم، إضافة لنهج لغوي معين في تفكيك نسب العائلة لهؤلاء القياديين، ومحاولة استنتاج الجذور الإثنية لها، وصولاً لاكتشاف علاقة عدد منهم باليهودية.

 

أسلوب كوتشوك شكل مصدر وحي لعدد من وجوه الجيل الحديث، الذين تجاوزوا معلمهم في بعض النقاط، وكشفوا حقائق خطيرة أسهمت في فهم أعمق لعقلية «العدالة والتنمية». فكشف سونير يالتشين عن الشيخ اليهودي الذي أنشأ عدداً من كبار الإسلاميين، وكشف بهجت هامبلميت أوغلو عن خطة «فتح القلعة من الداخل»، ثم تبعهما أرغون بويراز فكشف عن الميول للتشبه باليهود، في كتابه «أبناء موسى». وفوق ذلك أتت فضائح الفساد والمكالمات المسربة، وفضائح «ويكيليكس» والشهادات الشخصية عن أردوغان ورجاله، والنزاعات على تقاسم السلطة التي تحولت إلى صراعات علنية، لتزيد في معرفة جمهور الباحثين بطبيعة هذا الحزب. وأصبح بالإمكان استشراف شيء من طبيعة عمله اعتماداً على فهم شخصية قادته. وطبيعي أن الأمر هنا يتمحور بشكل أساسي حول شخصية أردوغان، بما فيها من تناقضات وأهواء وطموحات تعكس نفسها على سياسة البلاد، مثل أي طاغية.

 

إذا ما قاطعنا شخصية أردوغان بالسياسة التركية اتجاه سورية سينتج لدينا عاملان أساسيان، ويكملهما عامل ثالث مساعد.

 

1.    الاستعداد للتكويع في أي لحظة بحسب الأهواء.

 

إن أردوغان في هذه النقطة يفوق السياسي اللبناني وليد جنبلاط براعة وسرعة. فهو تحالف مع فتح الله غولن ثم انقلب عليه. وتحاور مع الأكراد، ثما حاربهم، ثم عاد للتفاوض، ثم عاد للحرب. وهو أعلن عن الانفتاح على الطائفة العلوية والبدء بحوار معها، ثم صرح تصريحات عنصرية ضدها. وهو هاجم كيان الاحتلال ثم أعلن المصالحة معه. ومن هنا، ليس مستبعداً أن يبادر للتكويع باتجاه سورية، وإيقاف حربه الغير مباشرة عليها.

 

2.    الحرص على عدم الظهور بمظهر الخاسر.

 

لسبب ما يعتبر أردوغان أن خسارته أي معركة، مهما كانت فرعية، هي خسارة تامة له. ولذا يحرص أبلغ الحرص على تسويق انتصاراته وليس خسارته. وهو يكمل حربه إلى أمد غير محدود إن أحس بهزيمة، حتى لو كانت صغيرة ومؤقتة. ولعل ذلك ناجم عن طبيعة تفكير تهتم بما يقول الناس عنه أكثر من الاهتمام بما يجري في الواقع.

 

ويكمل كلا العاملين أعلاه، عامل ثالث يترافق معهما كليهما، هو خطاب «الخديعة» الذي يطوره أردوغان لتبرير تكويعاته، وهو يشبه خطاب «لحظة الغفلة» الذي برر به جنبلاط انقلابه على حلفائه السوريين مع تغير الموازين الدولية. أما أردوغان فيقول في خطابه أنه تعرض للخديعة، وأنه في الحقيقة لم يكن يبغي إلا الخير والمنفعة.

 

بهذه العوامل نصل بسهولة إلى أن أردوغان قد يكون جاهزاً لإيقاف الحرب على سورية في لحظة ما إن أحس بتغير الموازين، وإن رأى بإمكانية اعتماد صيغة لا تظهره بمظهر المهزوم. لكن السؤال هنا هو: هل ستسمح له الولايات المتحدة الساعية هي أيضاً لعدم الظهور بمظهر المهزوم ولتحميل غيرها خطايا التورط في المستنقع السوري بذلك؟

 

يبدو من الموقف الروسي الذي انقلب عداوة غير مخفية اتجاه الحكومة التركية إلى أن روسيا كذلك ليست في وارد تبييض صفحة أردوغان. أما السوريون، الذين ذاقوا في السنوات الخمس الأخيرة ما لم يذقه أحد من آلام وخيانات، فبالتأكيد سيكون بينهم كتلة كبيرة كبيرة لن تقتنع بأي صيغة تنهي الحرب مع تركيا بصفقة سياسية.

 

من هنا، ولأن أطراف الحرب من كلا خطي القتال لن يقبلوا بتبييض صفحة أردوغان وانسحابه بسهولة، فإن المرجح هو أن يعمد أردوغان لتمديد فترة الحرب بكل ما أوتي من قوة. وهو ما قد نطلق عليه اسم «الإدارة بالأزمة»، فكلما اقتربت أزمة ما من نهايتها يبادر إلى إطلاق أزمة أخرى، وبعدها أزمة ثالثة... وهكذا دواليك. فمن خطة المنطقة العازلة إلى خطة الحرب البرية إلى خطة منطقة حظر الطيران، ثم مدينة اللاجئين داخل سورية، وسواها الكثير.

 

وحتى إذا ما خسرت تركيا الكثير من أوراقها في سورية، وهي خسرت جزءاً لا يستهان به حتى الآن، فيبقى لديها اتجاهان سبق أن جربتهما سابقاً، ولكن ضمن حدود لا تبالغ بإغضاب الدولة المعنية؛ وهما ورقة التركمان والآذربيجانيين في إيران، وورقة تركمان القرم في روسيا. وليس هذا رجماً في الغيب؛ فبالنسبة لموضوع الآذريين كان ضابط متقاعد في الجيش التركي، من الأقلية الآذرية، تم اعتقاله ضمن قضية «أرغنكون» الشهيرة، قد صرح أن اعتقاله جاء على خلفية رفضه لعب دور في تشجيع الآذريين في إيران على الانفصال. وأما من ناحية مسألة القرم فقد أعلنت تنظيمات قومية متطرفة النفير لجمع مسلحين وتدريبهم للدخول إلى القرم بهدف الاشتباك مع الجيش الروسي كما يحدث في سورية.

 

أي ببساطة، الاتجاه العام هو أن أردوغان يبادر إلى التصعيد كخيار وحيد للبقاء في الحكم. فمتى يكون الانفجار الكبير؟

  • فريق ماسة
  • 2016-03-06
  • 4245
  • من الأرشيف

متى تتراجع تركيا عن حربها على سورية؟

قبل بضع سنوات، أو أكثر قليلاً، استخدم كاتب تركي هو يالتشين كوتشوك أسلوباً معيناً لقياس وفهم الحزب الصاعد، المتميز بالغموض، والذي يطبق نوعاً من النهج التقوي في إدارته الداخلية، أي حزب العدالة والتنمية. ويقوم الأسلوب على متابعة أدق التفاصيل حول شخصيات الحزب، وشجرة عائلتها، ومرجعيتها الفكرية، وتاريخ الشيوخ الذين كانوا مريدين لديهم، إضافة لنهج لغوي معين في تفكيك نسب العائلة لهؤلاء القياديين، ومحاولة استنتاج الجذور الإثنية لها، وصولاً لاكتشاف علاقة عدد منهم باليهودية.   أسلوب كوتشوك شكل مصدر وحي لعدد من وجوه الجيل الحديث، الذين تجاوزوا معلمهم في بعض النقاط، وكشفوا حقائق خطيرة أسهمت في فهم أعمق لعقلية «العدالة والتنمية». فكشف سونير يالتشين عن الشيخ اليهودي الذي أنشأ عدداً من كبار الإسلاميين، وكشف بهجت هامبلميت أوغلو عن خطة «فتح القلعة من الداخل»، ثم تبعهما أرغون بويراز فكشف عن الميول للتشبه باليهود، في كتابه «أبناء موسى». وفوق ذلك أتت فضائح الفساد والمكالمات المسربة، وفضائح «ويكيليكس» والشهادات الشخصية عن أردوغان ورجاله، والنزاعات على تقاسم السلطة التي تحولت إلى صراعات علنية، لتزيد في معرفة جمهور الباحثين بطبيعة هذا الحزب. وأصبح بالإمكان استشراف شيء من طبيعة عمله اعتماداً على فهم شخصية قادته. وطبيعي أن الأمر هنا يتمحور بشكل أساسي حول شخصية أردوغان، بما فيها من تناقضات وأهواء وطموحات تعكس نفسها على سياسة البلاد، مثل أي طاغية.   إذا ما قاطعنا شخصية أردوغان بالسياسة التركية اتجاه سورية سينتج لدينا عاملان أساسيان، ويكملهما عامل ثالث مساعد.   1.    الاستعداد للتكويع في أي لحظة بحسب الأهواء.   إن أردوغان في هذه النقطة يفوق السياسي اللبناني وليد جنبلاط براعة وسرعة. فهو تحالف مع فتح الله غولن ثم انقلب عليه. وتحاور مع الأكراد، ثما حاربهم، ثم عاد للتفاوض، ثم عاد للحرب. وهو أعلن عن الانفتاح على الطائفة العلوية والبدء بحوار معها، ثم صرح تصريحات عنصرية ضدها. وهو هاجم كيان الاحتلال ثم أعلن المصالحة معه. ومن هنا، ليس مستبعداً أن يبادر للتكويع باتجاه سورية، وإيقاف حربه الغير مباشرة عليها.   2.    الحرص على عدم الظهور بمظهر الخاسر.   لسبب ما يعتبر أردوغان أن خسارته أي معركة، مهما كانت فرعية، هي خسارة تامة له. ولذا يحرص أبلغ الحرص على تسويق انتصاراته وليس خسارته. وهو يكمل حربه إلى أمد غير محدود إن أحس بهزيمة، حتى لو كانت صغيرة ومؤقتة. ولعل ذلك ناجم عن طبيعة تفكير تهتم بما يقول الناس عنه أكثر من الاهتمام بما يجري في الواقع.   ويكمل كلا العاملين أعلاه، عامل ثالث يترافق معهما كليهما، هو خطاب «الخديعة» الذي يطوره أردوغان لتبرير تكويعاته، وهو يشبه خطاب «لحظة الغفلة» الذي برر به جنبلاط انقلابه على حلفائه السوريين مع تغير الموازين الدولية. أما أردوغان فيقول في خطابه أنه تعرض للخديعة، وأنه في الحقيقة لم يكن يبغي إلا الخير والمنفعة.   بهذه العوامل نصل بسهولة إلى أن أردوغان قد يكون جاهزاً لإيقاف الحرب على سورية في لحظة ما إن أحس بتغير الموازين، وإن رأى بإمكانية اعتماد صيغة لا تظهره بمظهر المهزوم. لكن السؤال هنا هو: هل ستسمح له الولايات المتحدة الساعية هي أيضاً لعدم الظهور بمظهر المهزوم ولتحميل غيرها خطايا التورط في المستنقع السوري بذلك؟   يبدو من الموقف الروسي الذي انقلب عداوة غير مخفية اتجاه الحكومة التركية إلى أن روسيا كذلك ليست في وارد تبييض صفحة أردوغان. أما السوريون، الذين ذاقوا في السنوات الخمس الأخيرة ما لم يذقه أحد من آلام وخيانات، فبالتأكيد سيكون بينهم كتلة كبيرة كبيرة لن تقتنع بأي صيغة تنهي الحرب مع تركيا بصفقة سياسية.   من هنا، ولأن أطراف الحرب من كلا خطي القتال لن يقبلوا بتبييض صفحة أردوغان وانسحابه بسهولة، فإن المرجح هو أن يعمد أردوغان لتمديد فترة الحرب بكل ما أوتي من قوة. وهو ما قد نطلق عليه اسم «الإدارة بالأزمة»، فكلما اقتربت أزمة ما من نهايتها يبادر إلى إطلاق أزمة أخرى، وبعدها أزمة ثالثة... وهكذا دواليك. فمن خطة المنطقة العازلة إلى خطة الحرب البرية إلى خطة منطقة حظر الطيران، ثم مدينة اللاجئين داخل سورية، وسواها الكثير.   وحتى إذا ما خسرت تركيا الكثير من أوراقها في سورية، وهي خسرت جزءاً لا يستهان به حتى الآن، فيبقى لديها اتجاهان سبق أن جربتهما سابقاً، ولكن ضمن حدود لا تبالغ بإغضاب الدولة المعنية؛ وهما ورقة التركمان والآذربيجانيين في إيران، وورقة تركمان القرم في روسيا. وليس هذا رجماً في الغيب؛ فبالنسبة لموضوع الآذريين كان ضابط متقاعد في الجيش التركي، من الأقلية الآذرية، تم اعتقاله ضمن قضية «أرغنكون» الشهيرة، قد صرح أن اعتقاله جاء على خلفية رفضه لعب دور في تشجيع الآذريين في إيران على الانفصال. وأما من ناحية مسألة القرم فقد أعلنت تنظيمات قومية متطرفة النفير لجمع مسلحين وتدريبهم للدخول إلى القرم بهدف الاشتباك مع الجيش الروسي كما يحدث في سورية.   أي ببساطة، الاتجاه العام هو أن أردوغان يبادر إلى التصعيد كخيار وحيد للبقاء في الحكم. فمتى يكون الانفجار الكبير؟

المصدر : سومر سلطان/ وكالة أنباء آسيا


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة