منذ خمس سنوات، وسكان دمشق يعايشون الخوف والقلق. في بداية العام 2011، ومع اندلاع أحداث «الربيع العربي» بنسختها السورية، كان الخوف من المجهول والفوضى يخيم على وجوه السكان والمناطق المتفرقة.

وعدا البلدات، وشرائح المجتمع الضيقة التي اعتقدت أن تغيراً سياسياً فعلياً يمكن أن يحصل، وهؤلاء بمعظمهم عاشوا صعود حلمهم وكبوته سريعاً، كانت البقية خائفة وقلقة.

والخوف كان مبرراً، كما تبين، وفاق ما جرى لاحقاً كل التوقعات المتشائمة، التي تنبأت قلة بالوصول إليها.

في خريف العام 2011 كانت المتاجر الصغيرة والمتوسطة تخلو من المنتجات. كثر في تلك الآونة، متأثرين بالحرب على ليبيا، تخوفوا من أمر مماثل، وملأوا مخازنهم بالحاجيات الأساسية. بدورهم قام التجار بتخبئة ما تبقى بانتظار اليوم المشؤوم.

مواطنون باعوا سياراتهم خوفاً من الفوضى التي يمكن أن تجري، وآخرين تنبأوا بانهيار العملة، فحولوا أملاكهم وأموالهم إلى عملات دولية، أو اقترضوا من المصارف الحكومية مبالغ طائلة، وهربوا بها من البلاد.

فيما بعد، ومع مجيء سحب سياسية عديدة، تضمنت الحديث عن مفاوضات سياسية، كما في جنيف 1 و2، ومحاولات وقف إطلاق نار، جرّبتها من دون نجاح بعثات مراقبة عربية ودولية، بات المواطنون أشبه بمراقبين سلبيين لما يجري، يقضون يومياتهم في سبيل إنقاذ الغد، والذي لا يتعدى الساعات الأربع والعشرين المقبلة.

وبات واضحاً للغالبية أن العناوين لا تفضح التفاصيل، وكل الحراك السياسي الذي يجري لا يساوي ساعات عمل في الميدان. وبالنسبة للغالبية العظمى، القاطنة في مناطق حكم الدولة وسيطرتها، القضية هي «محاربة الإرهاب» الذي يأتي مدعوماً من عشرات الدول، بشكل مباشر أو غير مباشر، لـ «إقامة حكم إسلامي»، أو باختصار «تغيير النظام الحالي».

وبالنسبة للذين على الضفاف الأخرى، تتنوع الأهداف الكبرى من «تغيير النظام» و «إقامة الدولة الإسلامية» المنشودة، إلى «إقامة دولة إسلامية بصبغة مدنية»، وصولاً إلى «دولة بنظام فيدرالي» يطالب بها قسم من الأكراد في الشمال، الأمر الذي يجعل وقف إطلاق النار الحالي شبيهاً بغيره، ولا سيما أن الأجندات هي ذاتها عسكرياً، وإن تحدث الجميع، باستثناء تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، عن كون الحل سياسياً بالدرجة الأولى.

وللوقوف على إمكانية وقف إطلاق النار وواقعه، وزعت محطات محلية، تهتم عادة بالأخبار الميدانية، مراسليها على الجبهات، لا سيما الدمشقية والشمالية وفي جبال الساحل ودرعا وحمص. واهتم المراسلون بنقل انطباعاتهم عن خبو أصوات القصف والمعارك، ودخول الليل في سكون، لا يخلو من ضجيج طبيعي هو الآخر، كما في دمشق، التي تعتمد إنارتها كثيراً حالياً على المولدات الكهربائية الخاصة.

ترقب وقف إطلاق النار في المنازل، كان عبر الشاشات التي نشرت أخباراً عاجلة مع حلول ساعة منتصف الليل عن بدء سريان «الهدنة». كثر غيروا المحطات بعد الدقائق الأولى، فالحياة ماضية كيفما اتفق. وكثر لم يصدقوا «هذه الفبركة الدولية أساساً»، وغيرهم ظلوا مسمَّرين أمام الشريط الأحمر الذي يتحدث عن وقف القتال، فيما الذاكرة تغرق في استجلاب وجوه وأحداث وأقارب ومعارف غابوا من دون رجعة في ضجيج الفوضى الدموية.

تشبه ساعات وقف إطلاق النار ساعات بدء الحرب. الساعة صفر، ما الذي يأتي بعدها؟ من يعلم؟

في صيف العام 2012، وتحديداً في 18 تموز، وبعد ساعات من التفجير الشهير لمكتب الأمن الوطني في منطقة الروضة في دمشق، خلت الشوارع من المارة. وحل الليل سريعاً، وأُغلقت المحال والمطاعم، وبدت المدينة كأنما تتحضر لعاصفة استثنائية. وليلاً، وبعد الحادية عشرة اشتعلت السماء بالخطوط الحمراء والصفراء، والبالونات الحرارية، وسُمعت أصوات التفجيرات، ولم يأت يوم مختلف بعدها.

هل يأتي وقف إطلاق النار الحالي بجديد؟ لا يعيش الناس حدثاً استثنائياً الآن، أو على الأقل لا يبالغون في انتظار السلام المنشود.

«الرؤوس الحامية كثيرة» في هذه الفوضى العسكرية، و «المستفيدون كثر».

«استغرقت هدنة ومصالحة الوعر أكثر من عام ونصف العام من التفاوض، وإجراءات بناء الثقة».

«تقف مناطق كثيرة جرت فيها مصالحات محلية على حافة تجدد الحرب اليومية»، و«كم ستستغرق مفاوضات السلام السورية؟». يعتقد مسؤولون كثر في سوريا أن هذه الهدنة «فصل من فصول الحرب المستمرة»، وأن «التوافق الروسي ـ الأميركي مهم جداً، ولكن هل هو قادر على الاستمرار؟».

بالنسبة للكثيرين في دمشق «الحرب هي مع تركيا» بالدرجة الأولى والثانية. كل العوامل الأخرى تأتي بدرجات، بعد إصرار حكم «حزب العدالة والتنمية» الشديد على تغيير نظام الحكم في دمشق.

«لذا الهدنة الحقيقية ربما تحصل حين يتغير الحكم في تركيا، أو ييأس الأتراك تماماً من الحرب السورية».

 

  • فريق ماسة
  • 2016-02-28
  • 14712
  • من الأرشيف

الهدنة السورية.. يوم استثنائي من أيام عادية

منذ خمس سنوات، وسكان دمشق يعايشون الخوف والقلق. في بداية العام 2011، ومع اندلاع أحداث «الربيع العربي» بنسختها السورية، كان الخوف من المجهول والفوضى يخيم على وجوه السكان والمناطق المتفرقة. وعدا البلدات، وشرائح المجتمع الضيقة التي اعتقدت أن تغيراً سياسياً فعلياً يمكن أن يحصل، وهؤلاء بمعظمهم عاشوا صعود حلمهم وكبوته سريعاً، كانت البقية خائفة وقلقة. والخوف كان مبرراً، كما تبين، وفاق ما جرى لاحقاً كل التوقعات المتشائمة، التي تنبأت قلة بالوصول إليها. في خريف العام 2011 كانت المتاجر الصغيرة والمتوسطة تخلو من المنتجات. كثر في تلك الآونة، متأثرين بالحرب على ليبيا، تخوفوا من أمر مماثل، وملأوا مخازنهم بالحاجيات الأساسية. بدورهم قام التجار بتخبئة ما تبقى بانتظار اليوم المشؤوم. مواطنون باعوا سياراتهم خوفاً من الفوضى التي يمكن أن تجري، وآخرين تنبأوا بانهيار العملة، فحولوا أملاكهم وأموالهم إلى عملات دولية، أو اقترضوا من المصارف الحكومية مبالغ طائلة، وهربوا بها من البلاد. فيما بعد، ومع مجيء سحب سياسية عديدة، تضمنت الحديث عن مفاوضات سياسية، كما في جنيف 1 و2، ومحاولات وقف إطلاق نار، جرّبتها من دون نجاح بعثات مراقبة عربية ودولية، بات المواطنون أشبه بمراقبين سلبيين لما يجري، يقضون يومياتهم في سبيل إنقاذ الغد، والذي لا يتعدى الساعات الأربع والعشرين المقبلة. وبات واضحاً للغالبية أن العناوين لا تفضح التفاصيل، وكل الحراك السياسي الذي يجري لا يساوي ساعات عمل في الميدان. وبالنسبة للغالبية العظمى، القاطنة في مناطق حكم الدولة وسيطرتها، القضية هي «محاربة الإرهاب» الذي يأتي مدعوماً من عشرات الدول، بشكل مباشر أو غير مباشر، لـ «إقامة حكم إسلامي»، أو باختصار «تغيير النظام الحالي». وبالنسبة للذين على الضفاف الأخرى، تتنوع الأهداف الكبرى من «تغيير النظام» و «إقامة الدولة الإسلامية» المنشودة، إلى «إقامة دولة إسلامية بصبغة مدنية»، وصولاً إلى «دولة بنظام فيدرالي» يطالب بها قسم من الأكراد في الشمال، الأمر الذي يجعل وقف إطلاق النار الحالي شبيهاً بغيره، ولا سيما أن الأجندات هي ذاتها عسكرياً، وإن تحدث الجميع، باستثناء تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، عن كون الحل سياسياً بالدرجة الأولى. وللوقوف على إمكانية وقف إطلاق النار وواقعه، وزعت محطات محلية، تهتم عادة بالأخبار الميدانية، مراسليها على الجبهات، لا سيما الدمشقية والشمالية وفي جبال الساحل ودرعا وحمص. واهتم المراسلون بنقل انطباعاتهم عن خبو أصوات القصف والمعارك، ودخول الليل في سكون، لا يخلو من ضجيج طبيعي هو الآخر، كما في دمشق، التي تعتمد إنارتها كثيراً حالياً على المولدات الكهربائية الخاصة. ترقب وقف إطلاق النار في المنازل، كان عبر الشاشات التي نشرت أخباراً عاجلة مع حلول ساعة منتصف الليل عن بدء سريان «الهدنة». كثر غيروا المحطات بعد الدقائق الأولى، فالحياة ماضية كيفما اتفق. وكثر لم يصدقوا «هذه الفبركة الدولية أساساً»، وغيرهم ظلوا مسمَّرين أمام الشريط الأحمر الذي يتحدث عن وقف القتال، فيما الذاكرة تغرق في استجلاب وجوه وأحداث وأقارب ومعارف غابوا من دون رجعة في ضجيج الفوضى الدموية. تشبه ساعات وقف إطلاق النار ساعات بدء الحرب. الساعة صفر، ما الذي يأتي بعدها؟ من يعلم؟ في صيف العام 2012، وتحديداً في 18 تموز، وبعد ساعات من التفجير الشهير لمكتب الأمن الوطني في منطقة الروضة في دمشق، خلت الشوارع من المارة. وحل الليل سريعاً، وأُغلقت المحال والمطاعم، وبدت المدينة كأنما تتحضر لعاصفة استثنائية. وليلاً، وبعد الحادية عشرة اشتعلت السماء بالخطوط الحمراء والصفراء، والبالونات الحرارية، وسُمعت أصوات التفجيرات، ولم يأت يوم مختلف بعدها. هل يأتي وقف إطلاق النار الحالي بجديد؟ لا يعيش الناس حدثاً استثنائياً الآن، أو على الأقل لا يبالغون في انتظار السلام المنشود. «الرؤوس الحامية كثيرة» في هذه الفوضى العسكرية، و «المستفيدون كثر». «استغرقت هدنة ومصالحة الوعر أكثر من عام ونصف العام من التفاوض، وإجراءات بناء الثقة». «تقف مناطق كثيرة جرت فيها مصالحات محلية على حافة تجدد الحرب اليومية»، و«كم ستستغرق مفاوضات السلام السورية؟». يعتقد مسؤولون كثر في سوريا أن هذه الهدنة «فصل من فصول الحرب المستمرة»، وأن «التوافق الروسي ـ الأميركي مهم جداً، ولكن هل هو قادر على الاستمرار؟». بالنسبة للكثيرين في دمشق «الحرب هي مع تركيا» بالدرجة الأولى والثانية. كل العوامل الأخرى تأتي بدرجات، بعد إصرار حكم «حزب العدالة والتنمية» الشديد على تغيير نظام الحكم في دمشق. «لذا الهدنة الحقيقية ربما تحصل حين يتغير الحكم في تركيا، أو ييأس الأتراك تماماً من الحرب السورية».  

المصدر : السفير / زياد حيدر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة