سوريا اليوم تحدد مستقبل المنطقة وتعيد رسم خارطتھا السياسية. ومعركة حلب بالذات ھي التي تحدد مستقبل سوريا وترسم خارطتھا ونظامھا. ولذلك فإن الأنظار تتجه شمال سوريا حيث تدور مواجھة دولية إقليمية بين محورين: المحور الروسي- الإيراني، والمحور التركي- السعودي. وأما الولايات المتحدة، فإنھا في صدد "إدارة الصراع" وتقيم اتصالات مع المحورين: تتفاھم مع روسيا وإيران على إطار الحرب والحل، وتساير تركيا والسعودية في دعم المعارضة دون أن تجاريھما في خطط المنطقة الأمنية والتدخل البري.

 

يعتمد التفاھم التركي - السعودي على تغيير قواعد اللعبة شمال سوريا، وهنا يبرز احتمالان:

 

-إما أن بادرت كل من تركيا والسعودية الى ھذه السياسة الھجومية من باب "التھويل والمناورة" للضغط على واشنطن وحملھا على وقف تغطيتھا للمشروع الروسي في سوريا.

 

-وإما أن تركيا والسعودية لا تھوّلان ويكون تھديدھما جدّيا، ويحظى بتشجيع أميركي بھدف إعادة التوازن على الأرض والى قواعد المفاوضات السياسية.

 

 بعد أن أعاد الجيش السوري رسم الخريطة الميدانية عبر كسره الحصار الذي كان مفروضاً على قريتي نبّل والزهراء، تقدم الأكراد في الشمال المفتوح على تركيا والذي جوبه بردة فعل تركية عنيفة، تمثلت بقصف مدفعي متواصل على مواقع القتال، بالتزامن مع إدخال أكثر من 700 مسلح من معبر باب السلامة الحدودي نحو جبھات القتال المشتعلة.

 

تركيا بذلت جھوداً لفرض منطقة آمنة بين جرابلس وأعزاز بدعم جوي من التحالف الدولي بقيادة أميركا، لكن واشنطن لم توفر الغطاء لذلك، وتعتبر تركيا، حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري)، الذي تصفه بـ"الإرھابي" أشد خطرا من تنظيم "داعش" على حدودھا وأمنھا القومي. وهذا ما بدا واضحاً في التفجير الأخير الذي استھدف قافلة عسكرية عند توقفھا عند تقاطع طرق في انقرة، حيث سارعت حكومة أردوغان بتوجيه أصابع الاتهام الفوري إلى حزب العمال الكردستاني بعدما كانت الاتھامات في تفجيرات سابقة حصلت في أنقرة واسطنبول تتجه نحو "داعش".

 

التفجيرات الأمنية داخل تركيا تزيد من صعوبة الوضع الضاغط الذي يرزح تحته أردوغان وتجعله يحارب على جبھتين: جبھة حدودية مع سوريا وجبھة داخلية مع حزب العمال الكردستاني الذي يقيم صلات وثيقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري.

 

يتزامن ذلك مع استئناف التراشق السعودي - الأميركي - الروسي حول احتمال التدخل البري. ورد رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف أنه:" دعوني أكرر أن أحد لا يرغب في اندلاع حرب جديدة، وان عملية برية ستقود إلى حرب شاملة وطويلة". أما طهران فقد حذرت الرياض من مغبة إرسال قوات إلى سوريا. وقال نائب رئيس ھيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية العميد مسعود جزائري "نحن لن نسمح أبدا بأن تسير الأمور في سوريا كما تريده الدول الشريرة التي تريد تنفيذ سياساتھا، وسنتخذ الإجراءات اللازمة في حينھا".

 

المشكلة الرئيسة في العلاقات التركية - الأميركية ھي تباين الأولويات بين الطرفين. قادة في "حزب العدالة والتنمية" يعتبرون سوريا شأناً داخلياً تركياً لتبرير تدخلھم في شؤونھا.

 

لقد استفاد الغرب كثيرا من النزعة العثمانية المذھبية العرقية لتأجيج الصراع في لحظة معينة. لكن الزاوية التي ينظر منھا الشريك الغربي لا تتطابق مع زاوية النظر التركية في كثير من العناوين، وعلى رأسھا اليوم مسألة تكوين السلطة الجديدة في سوريا وموقع الرئيس السوري بشار الأسد فيھا، ودور قوات الحماية الكردية السورية في الشمال السوري إضافة إلى طريقة التعامل مع "داعش".

 

فكلما ارتفع الصراخ التركي بوجه الولايات المتحدة كان ذلك دليل على المأزق الذي تواجھه أنقرة. ولا يبدو أن الأميركيين سيمتنعون، عن تسليف بعض المواقف المؤيدة للسعوديين، رغم أنھم لا يبدون حماسة لأي تدخل برّي لقواتھم أو أي عملية برية في سوريا، غير أنھم قد لا يمانعون في رؤية قوات خليجية تقاتل في سوريا.

 

فما يجري في شمال سوريا ھو الرد الروسي المباشر على إسقاط تركيا طائرة روسية مقاتلة قبل أشھر. الرد الروسي جاء استراتيجيا لجھة وضع سوريا تحت الحماية الكاملة لروسيا، وإفقاد تركيا المبادرة العسكرية في سوريا، والوصول الى الحدود التركية وقطع طرق الإمداد والتواصل بين تركيا وفصائل المعارضة والتنظيمات المسلحة. أما رد تركيا على الھجوم الروسي الاستراتيجي فلم تظھر معالمه واتجاھاته بشكل نھائي وواضح حتى الآن.

 

تركيا تھدد بعدم السماح بسقوط مدينة أعزاز السورية الحدودية بأيدي الوحدات الكردية ولا بتقدم الميليشيات الكردية نحو غرب الفرات أو شرق عفرين. وترجم التھديد التركي على الأرض بعمليات قصف مدفعي ورفع حجم ومستوى المساعدة العسكرية للمعارضة وتمرير مقاتلين وحتى إرسال قوات تركية خاصة. ولكن كل ذلك لم يوقف تقدم الأكراد، معتمدين على التحذير الروسي من أن أي دخول تركي الى داخل سوريا سيقابل برد فوري وحاسم. بالإضافة إلى عدم وجود غطاء أميركي، ومن دونه لا إمكانية لحدوث تدخل تركي وسيكون مكشوفا من الناحيتين السياسية والعسكرية. يضاف إليه حالة التعاطف والتضامن "الدولية" (الأميركية والأوروبية) مع أكراد سوريا الذين يحاربون بفعالية ضد تنظيم "داعش". وما يريده الأوروبيون ھو ضرب "داعش" ودعم الأكراد في هذه المهمة. الخطورة فيما تقوم به تركيا تكمن في فتح الباب على المجھول ونقل الحرب في سوريا الى مرحلة التدويل والمواجھة المباشرة بين قوى إقليمية ودولية كانت حتى الآن تتواجه بالواسطة.

 

وحسب رأي خبراء ودبلوماسيين "يبدو واضحاً أن محادثات "جنيف 3" التي قُدمت على أنھا تھدف الى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية قامت على خديعة". فبينما كانت البعثات الديبلوماسية منشغلة بتذليل الخلافات، كانت موسكو تحضر لشن ھجوم بري مدعوم من القوات الخاصة على مواقع المعارضة في حلب وريفھا. ومنذ افتتاح مؤتمر جنيف نجحت روسيا في تسجيل وقائع على الأرض. حيث أفادت من الانكفاء الأميركي لتذھب بعيدا في إحداث واقع جديد وفرض شروطھا وتصورھا للحل.

 

يرى ھؤلاء أن التواطؤ الأميركي المريب في سوريا يطلق يد موسكو سياسياً وعسكرياً في ھذا البلد، ويزيد التوترات مع تركيا والسعودية ويقوّض أي آمال في اتفاق سلام قابل للتنفيذ. فوزير الخارجية جون كيري نسف مؤتمر جنيف قبل انعقاده بإذعانه للطلب الروسي اسقاط شرط رحيل الرئيس الأسد واسكاته الانتقادات لروسيا بقصفھا الفصائل السورية كلھا، بدل التركيز على "داعش".

 

الأوساط الأوروبية ترى أن المنطقة كلھا أمام مفترق خطير. وإذا لم ينجح الكبار ومعھم اللاعبون الإقليميون في تقديم تنازلات متبادلة لن يكون ھناك خيار سوى توسيع نطاق النيران والحرب.

 

ويبدو أن اتجاھات رياح الحرب المستمرة منذ خمس سنوات، ستھب من بلدة أعزاز التي تشكل نقطة التقاء طرفي المناطق الكردية وخط إمداد للمعارضة. ويبدو من استنفار اللاعبين الدوليين والإقليميين، جعل مصير أعزاز يشكل محطة رئيسية في مصير حلب ومن ثم رسم مستقبل الشرق الأوسط. ومن يفوز بھذه البلدة الصغيرة، سيعزز موقعه في رسم النظام الإقليمي الجديد.

  • فريق ماسة
  • 2016-02-23
  • 15520
  • من الأرشيف

معركة حلب ترسم النظام الإقليمي الجديد

سوريا اليوم تحدد مستقبل المنطقة وتعيد رسم خارطتھا السياسية. ومعركة حلب بالذات ھي التي تحدد مستقبل سوريا وترسم خارطتھا ونظامھا. ولذلك فإن الأنظار تتجه شمال سوريا حيث تدور مواجھة دولية إقليمية بين محورين: المحور الروسي- الإيراني، والمحور التركي- السعودي. وأما الولايات المتحدة، فإنھا في صدد "إدارة الصراع" وتقيم اتصالات مع المحورين: تتفاھم مع روسيا وإيران على إطار الحرب والحل، وتساير تركيا والسعودية في دعم المعارضة دون أن تجاريھما في خطط المنطقة الأمنية والتدخل البري.   يعتمد التفاھم التركي - السعودي على تغيير قواعد اللعبة شمال سوريا، وهنا يبرز احتمالان:   -إما أن بادرت كل من تركيا والسعودية الى ھذه السياسة الھجومية من باب "التھويل والمناورة" للضغط على واشنطن وحملھا على وقف تغطيتھا للمشروع الروسي في سوريا.   -وإما أن تركيا والسعودية لا تھوّلان ويكون تھديدھما جدّيا، ويحظى بتشجيع أميركي بھدف إعادة التوازن على الأرض والى قواعد المفاوضات السياسية.    بعد أن أعاد الجيش السوري رسم الخريطة الميدانية عبر كسره الحصار الذي كان مفروضاً على قريتي نبّل والزهراء، تقدم الأكراد في الشمال المفتوح على تركيا والذي جوبه بردة فعل تركية عنيفة، تمثلت بقصف مدفعي متواصل على مواقع القتال، بالتزامن مع إدخال أكثر من 700 مسلح من معبر باب السلامة الحدودي نحو جبھات القتال المشتعلة.   تركيا بذلت جھوداً لفرض منطقة آمنة بين جرابلس وأعزاز بدعم جوي من التحالف الدولي بقيادة أميركا، لكن واشنطن لم توفر الغطاء لذلك، وتعتبر تركيا، حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري)، الذي تصفه بـ"الإرھابي" أشد خطرا من تنظيم "داعش" على حدودھا وأمنھا القومي. وهذا ما بدا واضحاً في التفجير الأخير الذي استھدف قافلة عسكرية عند توقفھا عند تقاطع طرق في انقرة، حيث سارعت حكومة أردوغان بتوجيه أصابع الاتهام الفوري إلى حزب العمال الكردستاني بعدما كانت الاتھامات في تفجيرات سابقة حصلت في أنقرة واسطنبول تتجه نحو "داعش".   التفجيرات الأمنية داخل تركيا تزيد من صعوبة الوضع الضاغط الذي يرزح تحته أردوغان وتجعله يحارب على جبھتين: جبھة حدودية مع سوريا وجبھة داخلية مع حزب العمال الكردستاني الذي يقيم صلات وثيقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري.   يتزامن ذلك مع استئناف التراشق السعودي - الأميركي - الروسي حول احتمال التدخل البري. ورد رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف أنه:" دعوني أكرر أن أحد لا يرغب في اندلاع حرب جديدة، وان عملية برية ستقود إلى حرب شاملة وطويلة". أما طهران فقد حذرت الرياض من مغبة إرسال قوات إلى سوريا. وقال نائب رئيس ھيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية العميد مسعود جزائري "نحن لن نسمح أبدا بأن تسير الأمور في سوريا كما تريده الدول الشريرة التي تريد تنفيذ سياساتھا، وسنتخذ الإجراءات اللازمة في حينھا".   المشكلة الرئيسة في العلاقات التركية - الأميركية ھي تباين الأولويات بين الطرفين. قادة في "حزب العدالة والتنمية" يعتبرون سوريا شأناً داخلياً تركياً لتبرير تدخلھم في شؤونھا.   لقد استفاد الغرب كثيرا من النزعة العثمانية المذھبية العرقية لتأجيج الصراع في لحظة معينة. لكن الزاوية التي ينظر منھا الشريك الغربي لا تتطابق مع زاوية النظر التركية في كثير من العناوين، وعلى رأسھا اليوم مسألة تكوين السلطة الجديدة في سوريا وموقع الرئيس السوري بشار الأسد فيھا، ودور قوات الحماية الكردية السورية في الشمال السوري إضافة إلى طريقة التعامل مع "داعش".   فكلما ارتفع الصراخ التركي بوجه الولايات المتحدة كان ذلك دليل على المأزق الذي تواجھه أنقرة. ولا يبدو أن الأميركيين سيمتنعون، عن تسليف بعض المواقف المؤيدة للسعوديين، رغم أنھم لا يبدون حماسة لأي تدخل برّي لقواتھم أو أي عملية برية في سوريا، غير أنھم قد لا يمانعون في رؤية قوات خليجية تقاتل في سوريا.   فما يجري في شمال سوريا ھو الرد الروسي المباشر على إسقاط تركيا طائرة روسية مقاتلة قبل أشھر. الرد الروسي جاء استراتيجيا لجھة وضع سوريا تحت الحماية الكاملة لروسيا، وإفقاد تركيا المبادرة العسكرية في سوريا، والوصول الى الحدود التركية وقطع طرق الإمداد والتواصل بين تركيا وفصائل المعارضة والتنظيمات المسلحة. أما رد تركيا على الھجوم الروسي الاستراتيجي فلم تظھر معالمه واتجاھاته بشكل نھائي وواضح حتى الآن.   تركيا تھدد بعدم السماح بسقوط مدينة أعزاز السورية الحدودية بأيدي الوحدات الكردية ولا بتقدم الميليشيات الكردية نحو غرب الفرات أو شرق عفرين. وترجم التھديد التركي على الأرض بعمليات قصف مدفعي ورفع حجم ومستوى المساعدة العسكرية للمعارضة وتمرير مقاتلين وحتى إرسال قوات تركية خاصة. ولكن كل ذلك لم يوقف تقدم الأكراد، معتمدين على التحذير الروسي من أن أي دخول تركي الى داخل سوريا سيقابل برد فوري وحاسم. بالإضافة إلى عدم وجود غطاء أميركي، ومن دونه لا إمكانية لحدوث تدخل تركي وسيكون مكشوفا من الناحيتين السياسية والعسكرية. يضاف إليه حالة التعاطف والتضامن "الدولية" (الأميركية والأوروبية) مع أكراد سوريا الذين يحاربون بفعالية ضد تنظيم "داعش". وما يريده الأوروبيون ھو ضرب "داعش" ودعم الأكراد في هذه المهمة. الخطورة فيما تقوم به تركيا تكمن في فتح الباب على المجھول ونقل الحرب في سوريا الى مرحلة التدويل والمواجھة المباشرة بين قوى إقليمية ودولية كانت حتى الآن تتواجه بالواسطة.   وحسب رأي خبراء ودبلوماسيين "يبدو واضحاً أن محادثات "جنيف 3" التي قُدمت على أنھا تھدف الى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية قامت على خديعة". فبينما كانت البعثات الديبلوماسية منشغلة بتذليل الخلافات، كانت موسكو تحضر لشن ھجوم بري مدعوم من القوات الخاصة على مواقع المعارضة في حلب وريفھا. ومنذ افتتاح مؤتمر جنيف نجحت روسيا في تسجيل وقائع على الأرض. حيث أفادت من الانكفاء الأميركي لتذھب بعيدا في إحداث واقع جديد وفرض شروطھا وتصورھا للحل.   يرى ھؤلاء أن التواطؤ الأميركي المريب في سوريا يطلق يد موسكو سياسياً وعسكرياً في ھذا البلد، ويزيد التوترات مع تركيا والسعودية ويقوّض أي آمال في اتفاق سلام قابل للتنفيذ. فوزير الخارجية جون كيري نسف مؤتمر جنيف قبل انعقاده بإذعانه للطلب الروسي اسقاط شرط رحيل الرئيس الأسد واسكاته الانتقادات لروسيا بقصفھا الفصائل السورية كلھا، بدل التركيز على "داعش".   الأوساط الأوروبية ترى أن المنطقة كلھا أمام مفترق خطير. وإذا لم ينجح الكبار ومعھم اللاعبون الإقليميون في تقديم تنازلات متبادلة لن يكون ھناك خيار سوى توسيع نطاق النيران والحرب.   ويبدو أن اتجاھات رياح الحرب المستمرة منذ خمس سنوات، ستھب من بلدة أعزاز التي تشكل نقطة التقاء طرفي المناطق الكردية وخط إمداد للمعارضة. ويبدو من استنفار اللاعبين الدوليين والإقليميين، جعل مصير أعزاز يشكل محطة رئيسية في مصير حلب ومن ثم رسم مستقبل الشرق الأوسط. ومن يفوز بھذه البلدة الصغيرة، سيعزز موقعه في رسم النظام الإقليمي الجديد.

المصدر : الماسة السورية/ العهد


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة