إذا أردت ان تعرف من سيكون رئيس الجمهورية المقبل في لبنان، فعليك ان تعرف ماذا يجري في العواصم الاقليمية والدولية المؤثرة؟

ستبقى هذه المعادلة هي الحاكمة للاستحقاق الرئاسي، كما لكل الاستحقاقات اللبنانية الاخرى، برغم محاولات تطعيمها أحيانا بجرعات رمزية من اللبننة، لحفظ بعض قطرات ماء الوجه.

وإذا كان ترشيح كل من سعد الحريري للنائب سليمان فرنجية ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع للعماد ميشال عون، لبناني المظهر، إلا ان العارفين يجزمون ان «البطانة» الخارجية تكمن في طياته، لان أي تحولات من النوع الذي حصل مؤخرا، لا يمكن ان تكون قابلة للتشكل او للصرف ما لم تكتسب قوة دفع عبر الحدود.

بهذا المعنى، فان التغطية الاقليمية ـ الدولية لمبادرة الحريري الى ترشيح فرنجية توافرت من خلال الدعم الاميركي ـ السعودي، قبل ان يتبين ان هذا الترشيح يفتقر الى «النصف الآخر» وتحديدا الايراني، ثم أتى تصاعد التوتر بين طهران والرياض ليجمد هذه المبادرة ويضعها خارج الخدمة.

ولكن السؤال الذي طُرح مع قرار جعجع بترشيح عون تمحور حول هوية الراعي الخارجي الذي تولى تأمين الحصانة لهذا القرار، لاسيما ان السعودية بدت معترضة عليه، على طريقتها، وسط معلومات تفيد بان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أبلغ نظيره الفرنسي لوران فابيوس بعد ساعات من لقاء معراب ان الرياض مستمرة في تأييد خيار سليمان فرنجية.

 

السعودية.. وجعجع

وفي سياق متصل، قال مصدر موثوق في «تيار المستقبل» لـ«السفير» إن الديوان الملكي السعودي أبلغ جعجع بأن تأييده ترشيح عون خطيئة كبرى. وأضاف المصدر: لقد بات جعجع يحتاج الى ميزان حرارة جديد يقيس به علاقته بالسعودية و سعد الحريري و«14آذار».

وبرغم ان هناك من يتوقع ان تضطر المملكة، عاجلا ام آجلا، الى إبداء شيء من المرونة في التعاطي مع ملفات المنطقة، وصولا الى تفهم ضرورات انتخاب عون ولو بعد حين، ربطا بتأثير التطورات المتدحرجة من الميدان السوري الى المرحلة الجديدة في العلاقة بين طهران وواشنطن (مع المباشرة في تنفيذ الاتفاق النووي)، إلا ان البعض يرجح في المقابل ان تنحو الرياض نحو المزيد من «التطرف السياسي» ردا على ترميم «التعايش» الاميركي ـ الايراني فوق الصفائح الاقليمية الساخنة، مع ما يعنيه ذلك من تمسك بالفيتو على عون المصنف سعوديا في خانة الامتدادات الايرانية، والعداء لاتفاق الطائف الذي يحمل اسم احدى مدن المملكة.

ولعل جعجع استفاد من الغبار الكثيف الذي يغطي المنطقة في هذه اللحظة، لـ«يتحلل» من التزاماته الرئاسية السابقة حيال السعودية، باقل الخسائر الممكنة، ويعيد التموضع لبنانيا وفق ما يناسب مصالحه، بعدما اعتبر ان بعض دوائر القرار في الرياض أخطأت في حساباتها بسبب إصرارها على المضي في دعم فرنجية.

والمفارقة، ان الحساسية السعودية حيال ترشيح جعجع لعون تتعارض مع الواقعة التي كان نائب رئيس مجلس النواب السابق ايلي الفرزلي شاهدا عليها، وشريكا فيها، خلال تعزيته قبل فترة السفير علي عواض العسيري بوفاة وزير الخارجية الامير سعود الفيصل. يومها همس العسيري في أذن الفرزلي قائلا: دولة الرئيس، أنت على علاقة جيدة مع الجميع، فلماذا لا تبادر الى التقريب بين ميشال عون وسمير جعجع، تحت سقف البعد الداخلي، على ان يحافظ كل منهما على صداقاته الاقليمية..

 

الدور القطري

في ظل هذا المناخ السعودي «الجاف»، سارعت الدوحة الى التقاط اللحظة اللبنانية المستجدة واستثمارها في سياق تحسين شروط المنافسة الاقليمية مع السعودية، فكان وزير الخارجية القطري خالد العطية اول الاصوات الخارجية المباركة لموقف جعجع «الحكيم»، معتبرا انه «أخذ بعين الاعتبار مصلحة لبنان.»

والدلالة الابرز لهذا الموقف القطري تتمثل في كونه يؤشر الى طلائع غطاء خارجي لاستدارة جعجع الذي تربطه للمناسبة علاقة قديمة بالدوحة، وهو سبق ان زارها، ترافقه زوجته النائبة ستريدا جعجع، ما يدفع الى التساؤل عما اذا كان رئيس «القوات» بصدد «الانزياح السياسي» المتدرج والهادئ، من تحالفه الاستراتيجي مع الرياض الى تموضع جديد.

وهناك في بيروت من يدعو الى عدم الفصل بين ترحيب قطر بترشيح جعجع لعون، والاطار الاوسع لسياساتها البراغماتية التي تبقي الاقنية مفتوحة مع موسكو وطهران وقيادة «حزب الله»، برغم طابع هذه السياسة الراديكالي في سوريا، بل ان أصحاب هذه النظرية يفترضون ان كلام العطية إنما ينطوي ضمنا على رسالة قطرية إيجابية الى «حزب الله» وحليفه الايراني بالدرجة الاولى، قبل ان تكون موجهة الى جعجع.

 

طهران ودمشق

أما طهران ودمشق فلا تزالان تمنحان الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله التفويض الكامل في مقاربة الشأن الرئاسي، وفق المعطيات المتوافرة لديه، لاسيما ان المنافسة أصبحت بين حليفين لهما، هما عون وفرنجية، الامر الذي يحمي مصالحهما الاستراتيجية كيفما استقرت النتيجة النهائية.

وكان لافتا للانتباه قول جعجع خلال مقابلته التلفزيونية أمس مع محطة «أم تي في» ان «حزب الله» قادر، إذا أراد، على تأمين انتخاب عون فوراً وأنه يستطيع إلزام حلفائه في «8آذار» بدعم الجنرال، وهو طرح، وجدت فيه أوساط سياسية تحريضاً لعون على الحزب، وتحريضاً للحزب على الصدام مع المكوّن السني الأوسع، المتمثل في «المستقبل».

ولفتت الاوساط الانتباه الى ان الكرة الرئاسية باتت عمليا في ملعب «المستقبل» لا في ملعب «حزب الله»، ذلك ان الحريري يستطيع بأصوات كتلته، عدديا وميثاقيا، تسهيل طريق عون الى بعبدا واختصارها، بمجرد ان يعلن عن تأييده له.

 

الاتجاه الاميركي

ماذا عن حسابات الاميركيين؟

ليس خافيا ان واشنطن كانت داعمة بل راعية لفكرة ترشيح فرنجية، التي كانت تضمر محاولة لدفع «حزب الله» وايران الى منتصف الطريق، لكن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لخوض معركة من أجل هذا الطرح، وبالتالي فان عدم حماسة الحزب له عطل مفعوله، وربما الغرض منه، الامر الذي أوجد على الارجح، هامشا ما، تسرب من خلاله جعجع الى خيار ترشيح الجنرال.

وكان لافتا للانتباه أمس ان القائم بالاعمال الاميركي السفير ريتشارد جونز زار النائب وليد جنبلاط الذي كان قد أوفد الوزير وائل ابو فاعور الى السعودية، وذلك عشية اجتماع «اللقاء الديموقراطي» اليوم، والذي سيصدر عنه بيان يعكس الموقف من التطور الرئاسي المستجد.

 

الانتخابات مؤجلة

واغلب الظن، ان جنبلاط لن يغادر مربع تأييده لفرنجية، لئلا يصطدم باتجاهات الريح السعودية، من جهة، ولشعوره من جهة أخرى، بان التعايش مع فرنجية الرئيس- وهو ابن النظام- يبقى اسهل منه مع عون الذي يبدو أقرب الى ان يكون ضيفا على النظام.

لكن جنبلاط سيتجنب في الوقت ذاته استفزاز عون، وهو الذي يدرك ان الاعتبارات الانتخابية والديموغرافية في الجبل الذي يضم شريحة مسيحية مؤيدة ل»التيار الوطني الحر»، تتطلب أعلى قدر ممكن من تنظيم الخلاف مع الجنرال، إذا كان الاتفاق بينهما لا يزال متعذرا حتى إشعار آخر.

.. ولأن المشهد الاقليمي لم يستقر بعد على معادلة منجزة وتوازنات مكتملة، فان الانتخابات الرئاسية اللبنانية ستظل مؤجلة، والارجح ان جلسة 8شباط لن يكتمل نصابها ايضا، في انتظار تأمين نصاب المنطقة المفقود.

 

  • فريق ماسة
  • 2016-01-20
  • 5782
  • من الأرشيف

الديوان الملكي السعودي لجعجع: ارتكبت خطيئة

إذا أردت ان تعرف من سيكون رئيس الجمهورية المقبل في لبنان، فعليك ان تعرف ماذا يجري في العواصم الاقليمية والدولية المؤثرة؟ ستبقى هذه المعادلة هي الحاكمة للاستحقاق الرئاسي، كما لكل الاستحقاقات اللبنانية الاخرى، برغم محاولات تطعيمها أحيانا بجرعات رمزية من اللبننة، لحفظ بعض قطرات ماء الوجه. وإذا كان ترشيح كل من سعد الحريري للنائب سليمان فرنجية ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع للعماد ميشال عون، لبناني المظهر، إلا ان العارفين يجزمون ان «البطانة» الخارجية تكمن في طياته، لان أي تحولات من النوع الذي حصل مؤخرا، لا يمكن ان تكون قابلة للتشكل او للصرف ما لم تكتسب قوة دفع عبر الحدود. بهذا المعنى، فان التغطية الاقليمية ـ الدولية لمبادرة الحريري الى ترشيح فرنجية توافرت من خلال الدعم الاميركي ـ السعودي، قبل ان يتبين ان هذا الترشيح يفتقر الى «النصف الآخر» وتحديدا الايراني، ثم أتى تصاعد التوتر بين طهران والرياض ليجمد هذه المبادرة ويضعها خارج الخدمة. ولكن السؤال الذي طُرح مع قرار جعجع بترشيح عون تمحور حول هوية الراعي الخارجي الذي تولى تأمين الحصانة لهذا القرار، لاسيما ان السعودية بدت معترضة عليه، على طريقتها، وسط معلومات تفيد بان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أبلغ نظيره الفرنسي لوران فابيوس بعد ساعات من لقاء معراب ان الرياض مستمرة في تأييد خيار سليمان فرنجية.   السعودية.. وجعجع وفي سياق متصل، قال مصدر موثوق في «تيار المستقبل» لـ«السفير» إن الديوان الملكي السعودي أبلغ جعجع بأن تأييده ترشيح عون خطيئة كبرى. وأضاف المصدر: لقد بات جعجع يحتاج الى ميزان حرارة جديد يقيس به علاقته بالسعودية و سعد الحريري و«14آذار». وبرغم ان هناك من يتوقع ان تضطر المملكة، عاجلا ام آجلا، الى إبداء شيء من المرونة في التعاطي مع ملفات المنطقة، وصولا الى تفهم ضرورات انتخاب عون ولو بعد حين، ربطا بتأثير التطورات المتدحرجة من الميدان السوري الى المرحلة الجديدة في العلاقة بين طهران وواشنطن (مع المباشرة في تنفيذ الاتفاق النووي)، إلا ان البعض يرجح في المقابل ان تنحو الرياض نحو المزيد من «التطرف السياسي» ردا على ترميم «التعايش» الاميركي ـ الايراني فوق الصفائح الاقليمية الساخنة، مع ما يعنيه ذلك من تمسك بالفيتو على عون المصنف سعوديا في خانة الامتدادات الايرانية، والعداء لاتفاق الطائف الذي يحمل اسم احدى مدن المملكة. ولعل جعجع استفاد من الغبار الكثيف الذي يغطي المنطقة في هذه اللحظة، لـ«يتحلل» من التزاماته الرئاسية السابقة حيال السعودية، باقل الخسائر الممكنة، ويعيد التموضع لبنانيا وفق ما يناسب مصالحه، بعدما اعتبر ان بعض دوائر القرار في الرياض أخطأت في حساباتها بسبب إصرارها على المضي في دعم فرنجية. والمفارقة، ان الحساسية السعودية حيال ترشيح جعجع لعون تتعارض مع الواقعة التي كان نائب رئيس مجلس النواب السابق ايلي الفرزلي شاهدا عليها، وشريكا فيها، خلال تعزيته قبل فترة السفير علي عواض العسيري بوفاة وزير الخارجية الامير سعود الفيصل. يومها همس العسيري في أذن الفرزلي قائلا: دولة الرئيس، أنت على علاقة جيدة مع الجميع، فلماذا لا تبادر الى التقريب بين ميشال عون وسمير جعجع، تحت سقف البعد الداخلي، على ان يحافظ كل منهما على صداقاته الاقليمية..   الدور القطري في ظل هذا المناخ السعودي «الجاف»، سارعت الدوحة الى التقاط اللحظة اللبنانية المستجدة واستثمارها في سياق تحسين شروط المنافسة الاقليمية مع السعودية، فكان وزير الخارجية القطري خالد العطية اول الاصوات الخارجية المباركة لموقف جعجع «الحكيم»، معتبرا انه «أخذ بعين الاعتبار مصلحة لبنان.» والدلالة الابرز لهذا الموقف القطري تتمثل في كونه يؤشر الى طلائع غطاء خارجي لاستدارة جعجع الذي تربطه للمناسبة علاقة قديمة بالدوحة، وهو سبق ان زارها، ترافقه زوجته النائبة ستريدا جعجع، ما يدفع الى التساؤل عما اذا كان رئيس «القوات» بصدد «الانزياح السياسي» المتدرج والهادئ، من تحالفه الاستراتيجي مع الرياض الى تموضع جديد. وهناك في بيروت من يدعو الى عدم الفصل بين ترحيب قطر بترشيح جعجع لعون، والاطار الاوسع لسياساتها البراغماتية التي تبقي الاقنية مفتوحة مع موسكو وطهران وقيادة «حزب الله»، برغم طابع هذه السياسة الراديكالي في سوريا، بل ان أصحاب هذه النظرية يفترضون ان كلام العطية إنما ينطوي ضمنا على رسالة قطرية إيجابية الى «حزب الله» وحليفه الايراني بالدرجة الاولى، قبل ان تكون موجهة الى جعجع.   طهران ودمشق أما طهران ودمشق فلا تزالان تمنحان الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله التفويض الكامل في مقاربة الشأن الرئاسي، وفق المعطيات المتوافرة لديه، لاسيما ان المنافسة أصبحت بين حليفين لهما، هما عون وفرنجية، الامر الذي يحمي مصالحهما الاستراتيجية كيفما استقرت النتيجة النهائية. وكان لافتا للانتباه قول جعجع خلال مقابلته التلفزيونية أمس مع محطة «أم تي في» ان «حزب الله» قادر، إذا أراد، على تأمين انتخاب عون فوراً وأنه يستطيع إلزام حلفائه في «8آذار» بدعم الجنرال، وهو طرح، وجدت فيه أوساط سياسية تحريضاً لعون على الحزب، وتحريضاً للحزب على الصدام مع المكوّن السني الأوسع، المتمثل في «المستقبل». ولفتت الاوساط الانتباه الى ان الكرة الرئاسية باتت عمليا في ملعب «المستقبل» لا في ملعب «حزب الله»، ذلك ان الحريري يستطيع بأصوات كتلته، عدديا وميثاقيا، تسهيل طريق عون الى بعبدا واختصارها، بمجرد ان يعلن عن تأييده له.   الاتجاه الاميركي ماذا عن حسابات الاميركيين؟ ليس خافيا ان واشنطن كانت داعمة بل راعية لفكرة ترشيح فرنجية، التي كانت تضمر محاولة لدفع «حزب الله» وايران الى منتصف الطريق، لكن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لخوض معركة من أجل هذا الطرح، وبالتالي فان عدم حماسة الحزب له عطل مفعوله، وربما الغرض منه، الامر الذي أوجد على الارجح، هامشا ما، تسرب من خلاله جعجع الى خيار ترشيح الجنرال. وكان لافتا للانتباه أمس ان القائم بالاعمال الاميركي السفير ريتشارد جونز زار النائب وليد جنبلاط الذي كان قد أوفد الوزير وائل ابو فاعور الى السعودية، وذلك عشية اجتماع «اللقاء الديموقراطي» اليوم، والذي سيصدر عنه بيان يعكس الموقف من التطور الرئاسي المستجد.   الانتخابات مؤجلة واغلب الظن، ان جنبلاط لن يغادر مربع تأييده لفرنجية، لئلا يصطدم باتجاهات الريح السعودية، من جهة، ولشعوره من جهة أخرى، بان التعايش مع فرنجية الرئيس- وهو ابن النظام- يبقى اسهل منه مع عون الذي يبدو أقرب الى ان يكون ضيفا على النظام. لكن جنبلاط سيتجنب في الوقت ذاته استفزاز عون، وهو الذي يدرك ان الاعتبارات الانتخابية والديموغرافية في الجبل الذي يضم شريحة مسيحية مؤيدة ل»التيار الوطني الحر»، تتطلب أعلى قدر ممكن من تنظيم الخلاف مع الجنرال، إذا كان الاتفاق بينهما لا يزال متعذرا حتى إشعار آخر. .. ولأن المشهد الاقليمي لم يستقر بعد على معادلة منجزة وتوازنات مكتملة، فان الانتخابات الرئاسية اللبنانية ستظل مؤجلة، والارجح ان جلسة 8شباط لن يكتمل نصابها ايضا، في انتظار تأمين نصاب المنطقة المفقود.  

المصدر : الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة