- السياق الذي اختارته السعودية بعناية للتصعيد مع إيران يشبه سياق كارثة الحج قبل أشهر قليلة، لاستدراج أزمة تتصاعد تدريجاً إلى توتر يخرج عن نطاق السيطرة،

  وبالرغم من ضخامة المصاب الإيراني في كارثة الحج، تمكنت القيادة الإيرانية من التعامل ببرودة عالية مع التصعيد، وسجلت مواقف مبدئية قاسية، من دون أن تترجمها خطوات تصعيدية تمنح السعودية ذريعة السير في التصعيد، وحجة السعودية أنّ الأمر لا يتعدّى كونه مجرد حادث خارج نطاق السيطرة، طالما لا أدلة على أنه مفتعَل، فعضّت إيران على الجرح وتحمّلت الأذى بانتظار ساعة حساب مقبلة، وتسييراً لمسارات بدأتها ولا تريد السماح بقطعها، وهي المنتصرة ولن تتهاون مع محاولات جرّها إلى مواجهات تأكل من وهج انتصارها وتجعل المهزوم منتصراً، ووقت الحساب يأتي لاحقاً، فصبرت حتى أنتجت المداخلات الخارجية إحراجاً للسعودية، فقامت بإرسال سفير جديد إلى طهران وهي تخبّئ خلف ظهرها خنجر تصعيد جديد، بدأ مع الإعلان عن صدور حكم بإعدام الشيخ نمر النمر. وهكذا بعد أيام من إرسال السفير إلى طهران قامت السعودية بتنفيذ الإعدام، وهي تعلم حجم وقع الحدث على إيران، وتتوقع ردود الفعل الغاضبة، كأنها تراهن عليها للسير في خطوات ترفع منسوب التوتر والتصعيد وصولاً إلى حافة الانفجار.

 - حاولت إيران الجمع بين الموقف المبدئي القاسي، والخطوات العملية الباردة، واستوعبت موجة الغضب التي اجتاحت شارعها، دون أن يصاب أيّ من أفراد البعثة الديبلوماسية السعودية، وهو تحدٍّ غاية في الصعوبة في مناخ الحادث الكبير، لكن الرياض تتربّص فتلقّفت ما جرى وأعلنت قطع العلاقات الديبلوماسية مع إيران، والذريعة هي ما تعرّضت له البعثة الديبلوماسية، كما الذريعة أنّ الإعدام هو شأن قانوني داخلي، والهدف تصوير إيران دائماً كدولة تتخطى حدودها في التعامل مع الأمن الإقليمي، واستدراج التصعيد معها على هذه الخلفية، مع الأخذ بالحساب أنّ السعودية تعلم أنّ سلسلة التصعيد تتوقف على أمرين، الأول انزلاق الإيرانيين إلى الحلبة بقوة ضغط الشارع والغضب والحجم الكبير للاستفزاز من جهة، وتلقي الخارج الدولي والإقليمي للموقف السعودي والاصطفاف وراءه من جهة مقابلة.

 - عملياً كان التحدّي لإيران أن تتمكّن من امتصاص الصدمات وقطع طريق التصعيد حتى تتبلور المعادلات الإقليمية الجديدة التي تقع فيها السعودية على ضفة الخاسرين، خصوصاً في سورية واليمن، وتخطت إيران التحدّي بنجاح، وكانت رسالتها إلى مجلس الأمن بالأسف لما تعرّضت له البعثات السعودية والتمسك بتقديم كلّ حماية لكلّ البعثات التي تستضيفها طهران، والسير بالتحقيق في الحوادث التي جرت ومعاقبة الذين تعرّضوا للبعثة السعودية، ضرباً من الذكاء الديبلوماسي الذي أصاب السعودية بالإحباط، لأنه إذا كان الردّ الإيراني على اغتيال الشيخ نمر النمر هو بالذي جرى مع السفارة والقنصلية، فبئس الردّ، بل إنّ التبريد وتفويت التصعيد على التوقيت السعودي هو الدليل على النية بالردّ الموجع والمؤلم وفي التوقيت المناسب وبطريقة إسقاط الذريعة، والإمساك بنقاط الوجع.

 - المعيار للفشل والنجاح السعودي يبقى في كيفية تلقي البيئتين الإقليمية والدولية للتصعيد مع إيران، وهنا تظهر نتائج محبطة جداً للرياض، تفسّر برود طهران من جهة، ويبدو أنّ الردود الفاترة كانت تستند إلى هذا البرود الإيراني من جهة أخرى، وكأنّ العالم كله مع طهران على اتفاق، أنّ وضع حكام الرياض يشبه جملاً هائجاً، يجب الابتعاد من طريقه، وتقييده وتهدئة جموحه وعدم الصراخ في وجهه، وبعدها يكون الحساب. فاللافت حيث التوقعات السعودية كانت محسومة لمصلحة كسب التأييد، ففي دول الخليج حيث لا قيمة لموقف حكام البحرين الذين يحميهم الحرس الوطني السعودي من شعبهم، وقفت الإمارات بموقف رفع عتب تخفض مستوى التمثيل وترفض قطع العلاقات مع إيران، ووقفت الكويت تستدعي سفيرها للتشاور وترفض إغلاق السفارة وقطع العلاقات، وقطر وعُمان بلا تعليق، أيّ بمواصلة العلاقات مع إيران وربما التشاور لدور وساطة، لكن اللافت أكثر يأتي من أميركا التي عاملت طهران والرياض على قدم المساواة في الاتصالات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع نظيريه عادل الجبير وجواد ظريف داعياً إلى عدم التصعيد، وفي إدانة إعدام الشيخ النمر وإدانة ما تعرّضت له البعثات السعودية في طهران. ومثل أميركا جاء موقف حليفَيْ السعودي الأقرب في العالم الإسلامي تركيا وباكستان، في الموقف الداعي إلى التهدئة والإعلان عن الاستعداد للوساطة بين الرياض وطهران، بمواقف تشبه ما صدر عن موسكو وهي حليف لإيران بادلتها ما سبق وأعلنته إيران عن استعدادها للوساطة بين موسكو وأنقرة بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية.

 - الواضح أنّ التصعيد السعودي يأتي خارج السياق الدولي المناسب، وأنّ تركيا الشريك للسعودية في مناخ التصعيد تلقت ما يكفي من الرسائل للابتعاد عن صبّ الزيت على النار، وأنّ واشنطن تصرّفت بما يتناسب مع قواعد المعادلة الجديدة في المنطقة، بإعلان انتهاء زمن الدلال السعودي. وهذه هي الحصيلة الأهمّ التي كشفتها أحداث اليومين الماضيين، وهذه هي الحصيلة التي سيُبنى عليها الردّ الإيراني على اغتيال الشيخ النمر، والآتي لا محالة، وربما لمجموعة ردود بالتتابع بما يشبه ردّ حزب الله على اغتيال الشهيد سمير القنطار، والردّ الروسي على اغتيال الطيار الروسي.

 - أرادت السعودية حياكة عزلة جديدة لإيران، فأصيبت هي بالعزلة، والأهمّ أنّ المغزل السعودي ما عاد تحت الطلب الدولي، وأنّ قطبه المخفية صارت مكشوفة، وزمن جديد يولد.

  • فريق ماسة
  • 2016-01-06
  • 14022
  • من الأرشيف

مَن يعزل مَن: السعودية أم إيران؟ ....بقلم ناصر قنديل

- السياق الذي اختارته السعودية بعناية للتصعيد مع إيران يشبه سياق كارثة الحج قبل أشهر قليلة، لاستدراج أزمة تتصاعد تدريجاً إلى توتر يخرج عن نطاق السيطرة،   وبالرغم من ضخامة المصاب الإيراني في كارثة الحج، تمكنت القيادة الإيرانية من التعامل ببرودة عالية مع التصعيد، وسجلت مواقف مبدئية قاسية، من دون أن تترجمها خطوات تصعيدية تمنح السعودية ذريعة السير في التصعيد، وحجة السعودية أنّ الأمر لا يتعدّى كونه مجرد حادث خارج نطاق السيطرة، طالما لا أدلة على أنه مفتعَل، فعضّت إيران على الجرح وتحمّلت الأذى بانتظار ساعة حساب مقبلة، وتسييراً لمسارات بدأتها ولا تريد السماح بقطعها، وهي المنتصرة ولن تتهاون مع محاولات جرّها إلى مواجهات تأكل من وهج انتصارها وتجعل المهزوم منتصراً، ووقت الحساب يأتي لاحقاً، فصبرت حتى أنتجت المداخلات الخارجية إحراجاً للسعودية، فقامت بإرسال سفير جديد إلى طهران وهي تخبّئ خلف ظهرها خنجر تصعيد جديد، بدأ مع الإعلان عن صدور حكم بإعدام الشيخ نمر النمر. وهكذا بعد أيام من إرسال السفير إلى طهران قامت السعودية بتنفيذ الإعدام، وهي تعلم حجم وقع الحدث على إيران، وتتوقع ردود الفعل الغاضبة، كأنها تراهن عليها للسير في خطوات ترفع منسوب التوتر والتصعيد وصولاً إلى حافة الانفجار.  - حاولت إيران الجمع بين الموقف المبدئي القاسي، والخطوات العملية الباردة، واستوعبت موجة الغضب التي اجتاحت شارعها، دون أن يصاب أيّ من أفراد البعثة الديبلوماسية السعودية، وهو تحدٍّ غاية في الصعوبة في مناخ الحادث الكبير، لكن الرياض تتربّص فتلقّفت ما جرى وأعلنت قطع العلاقات الديبلوماسية مع إيران، والذريعة هي ما تعرّضت له البعثة الديبلوماسية، كما الذريعة أنّ الإعدام هو شأن قانوني داخلي، والهدف تصوير إيران دائماً كدولة تتخطى حدودها في التعامل مع الأمن الإقليمي، واستدراج التصعيد معها على هذه الخلفية، مع الأخذ بالحساب أنّ السعودية تعلم أنّ سلسلة التصعيد تتوقف على أمرين، الأول انزلاق الإيرانيين إلى الحلبة بقوة ضغط الشارع والغضب والحجم الكبير للاستفزاز من جهة، وتلقي الخارج الدولي والإقليمي للموقف السعودي والاصطفاف وراءه من جهة مقابلة.  - عملياً كان التحدّي لإيران أن تتمكّن من امتصاص الصدمات وقطع طريق التصعيد حتى تتبلور المعادلات الإقليمية الجديدة التي تقع فيها السعودية على ضفة الخاسرين، خصوصاً في سورية واليمن، وتخطت إيران التحدّي بنجاح، وكانت رسالتها إلى مجلس الأمن بالأسف لما تعرّضت له البعثات السعودية والتمسك بتقديم كلّ حماية لكلّ البعثات التي تستضيفها طهران، والسير بالتحقيق في الحوادث التي جرت ومعاقبة الذين تعرّضوا للبعثة السعودية، ضرباً من الذكاء الديبلوماسي الذي أصاب السعودية بالإحباط، لأنه إذا كان الردّ الإيراني على اغتيال الشيخ نمر النمر هو بالذي جرى مع السفارة والقنصلية، فبئس الردّ، بل إنّ التبريد وتفويت التصعيد على التوقيت السعودي هو الدليل على النية بالردّ الموجع والمؤلم وفي التوقيت المناسب وبطريقة إسقاط الذريعة، والإمساك بنقاط الوجع.  - المعيار للفشل والنجاح السعودي يبقى في كيفية تلقي البيئتين الإقليمية والدولية للتصعيد مع إيران، وهنا تظهر نتائج محبطة جداً للرياض، تفسّر برود طهران من جهة، ويبدو أنّ الردود الفاترة كانت تستند إلى هذا البرود الإيراني من جهة أخرى، وكأنّ العالم كله مع طهران على اتفاق، أنّ وضع حكام الرياض يشبه جملاً هائجاً، يجب الابتعاد من طريقه، وتقييده وتهدئة جموحه وعدم الصراخ في وجهه، وبعدها يكون الحساب. فاللافت حيث التوقعات السعودية كانت محسومة لمصلحة كسب التأييد، ففي دول الخليج حيث لا قيمة لموقف حكام البحرين الذين يحميهم الحرس الوطني السعودي من شعبهم، وقفت الإمارات بموقف رفع عتب تخفض مستوى التمثيل وترفض قطع العلاقات مع إيران، ووقفت الكويت تستدعي سفيرها للتشاور وترفض إغلاق السفارة وقطع العلاقات، وقطر وعُمان بلا تعليق، أيّ بمواصلة العلاقات مع إيران وربما التشاور لدور وساطة، لكن اللافت أكثر يأتي من أميركا التي عاملت طهران والرياض على قدم المساواة في الاتصالات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع نظيريه عادل الجبير وجواد ظريف داعياً إلى عدم التصعيد، وفي إدانة إعدام الشيخ النمر وإدانة ما تعرّضت له البعثات السعودية في طهران. ومثل أميركا جاء موقف حليفَيْ السعودي الأقرب في العالم الإسلامي تركيا وباكستان، في الموقف الداعي إلى التهدئة والإعلان عن الاستعداد للوساطة بين الرياض وطهران، بمواقف تشبه ما صدر عن موسكو وهي حليف لإيران بادلتها ما سبق وأعلنته إيران عن استعدادها للوساطة بين موسكو وأنقرة بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية.  - الواضح أنّ التصعيد السعودي يأتي خارج السياق الدولي المناسب، وأنّ تركيا الشريك للسعودية في مناخ التصعيد تلقت ما يكفي من الرسائل للابتعاد عن صبّ الزيت على النار، وأنّ واشنطن تصرّفت بما يتناسب مع قواعد المعادلة الجديدة في المنطقة، بإعلان انتهاء زمن الدلال السعودي. وهذه هي الحصيلة الأهمّ التي كشفتها أحداث اليومين الماضيين، وهذه هي الحصيلة التي سيُبنى عليها الردّ الإيراني على اغتيال الشيخ النمر، والآتي لا محالة، وربما لمجموعة ردود بالتتابع بما يشبه ردّ حزب الله على اغتيال الشهيد سمير القنطار، والردّ الروسي على اغتيال الطيار الروسي.  - أرادت السعودية حياكة عزلة جديدة لإيران، فأصيبت هي بالعزلة، والأهمّ أنّ المغزل السعودي ما عاد تحت الطلب الدولي، وأنّ قطبه المخفية صارت مكشوفة، وزمن جديد يولد.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة