دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
كيف "ورثت" واشنطن لندن، ومتى تسيّدت العالم؟ من يعمل لإسقاط أمريكا، وكيف؟ تأهيل معامل صيانة الدبابات في سورية، ماذا يعني؟... منذ سايكس-بيكو،
أخذت منطقتنا شكلها الجيوسياسي الذي لم يتغير كثيراً حتى اللحظة، واللافت في الأمر أن خطوط "الفصل" السياسية والاجتماعية والاقتصادية... رُسمت بأيد أجنبية خالصة، وبقي أبناء المنطقة يمارسون دور المتلقي لـ"قدر" لا يرد.
وبالرغم من انتقال العالم إلى نظام دولي جديد عقب الحرب العالمية الثانية، وبزوغ الإمبراطورية الأمريكية و"تسلمها" لمفاتيح المستعمرات الإنجليزية باتفاق مكتوب وقعه أيزنهاور، الرئيس الأمريكي، ومكميلان، رئيس الوزراء البريطاني، في برمودا العام 1957. اتفق الطرفان، على أن تخلي بريطانيا مستعمراتها الواحدة تلو الأخرى، وبالتنسيق الكامل مع أمريكا، ليتسنى لها السيطرة على هذه المستعمرات بناءً على قيمة كل مستعمرة الجغرافية والسياسية والاقتصادية... مقابل حصول لندن على 400 مليون دولار!. صحيح أن لندن احتفظت بنفوذ قوي في مستعمراتها السابقة، ولكن "الكلمة الفصل" انتقلت إلى البيت الأبيض، وهكذا تمّ تقاسم "العالم القديم" بين قطبي الأنجلوسكسون، واشنطن بيت القرار والمال والقوة العسكرية... ولندن عاصمة الدهاء الإمبراطوري والخبرة الإستعمارية الدولية. استعبدت واشنطن أوروبا عبر أداتين حاسمتين، مشروع مارشال المالي-الاقتصادي وحلف النيتو، حتى أن دولة مثل فرنسا "ثارت" على هذا الاستعباد المُقنّع وخرجت من النيتو إبان رئاسة الجنرال ديغول، ولكن هذه "الثورة" ما لبثت أن خبت لتعود فرنسا إلى عباءة النيتو ثانية.
استمر النظام ثنائي القطبية حتى انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية مطلع تسعينيات القرن الفائت، لتعلن أمريكا نظاماً عالمياً جديداً ينفرد بإدارته بيتها الأبيض... صحيح أن أفغانستان والعراق تصدرتا ضحايا هذا النظام الدولي المتوحش، لكن العالم بأسره أصبح فريسة لنهمه السياسي والاقتصادي والأمني... خصوصا الكتلة الشرقية وكلّ من دار في فلك موسكو عموماً. إن أهم خلاصة يمكن إستنتاجها منذ اتفاقية برمودا حتى اليوم لناحية آليات انتقال "المركز الإمبراطوري" من بلد إلى آخر، أن هذا الانتقال بات يُعبر عن نفسه على شكل اتفاق مكتوب بين قوة ناهضة وأخرى هابطة يتم فيه تقاسم النفوذ على طاولات التفاوض استناداً إلى وقائع الاقتصاد والسياسة والقوة المتاحة والطاقات الكامنة... لا كما جرت العادة في "العالم القديم" أن "ترث" إمبراطورية أخرى بعد هزمها وكسرها عسكريا. يعود السبب الجوهري في هذا التحول الجوهري إلى القدرة التدميرية الهائلة للقوى المتصارعة، حيث أصبح متاحاً لدولتين كروسيا وأمريكا تدمير الكرة الأرضية 23,000 مرة بما تمتلكاه من أسلحة. أي أن الحرب بينهما أصبحت ممنوعة، لأنها لن تنتهي بمنتصر ومهزوم، الكل مهزوم وميّت في أي حرب بينهما.
* آليات إسقاط الإمبراطورية الأمريكية:
من المسلم به أن آليات الصراع في العلاقات الدولية أصبحت أكثر تطوراً وتعقيداً وشمولاً... لكنها في العمق تشبه إلى حدّ بعيد تلك المستخدمة منذ القدم: الحرب المباشرة، الحصار الاقتصادي، الجيوش الضخمة المتطورة، وسائل الاتصال والتنقل، القوة النارية وتنوعها وسعة انتشارها... من هنا، سأحاول الإشارة إلى ثلاث من آليات المواجهة بين روسيا والصين وحلفائهما في منظمتي بريكس وشنغهاي من جهة، وأمريكا وبريطانيا وحلفائهما في النيتو والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية.
1- الطاقة والغذاء: يقول هنري كيسنجر:"إن السيطرة على النفط هي الطريق للسيطرة على الدول، وأما السيطرة على الغذاء فهي السبيل للسيطرة على الشعوب". بما أن النفط ما زال المصدر الأول للطاقة في العالم، فإن الكثير من الحروب –إن لم يكن جميعها- تفوح منها رائحة النفط. منذ حرب تشرين 1973، وظهور النفط كواحد من الأسلحة المستخدمة فيها، إتخذت الإدارة الأمريكية قراراً بالسيطرة على هذا العصب الحيوي للإنسانية جمعاء، تنقيباً واستخراجاً وتصنيعاً وتصديراً... وربط أسعاره بالدولار الأمريكي حصراً. هكذا تحول النفط إلى احد أمضى أسلحة واشنطن في وجه أعدائها وأصدقائها على حد سواء، والمصدر الأبرز لدعم عملتها بعد فك ارتباطه بالذهب، وسرقة جلّ عائداته الضخمة على شكل صفقات تسليح ومشاريع بنية تحتية واستثمارات أجنبية في أمريكا... . عندما اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية العام 1980، كان سعر برميل النفط حوالي الأربعين دولاراً، وإنتاج مملكة آل سعود قرابة الخمسة ملايين برميل يومياً، وتحت غطاء محاربة إيران رفعت إنتاجها إلى 10 ملايين برميل يومياً، لكن الهدف الحقيقي لإغراق الأسواق بالنفط لم يقتصر على ضرب الاقتصاد الإيراني؛ بل إنهاك اقتصاد الاتحاد السوفيتي الذي ينتج قرابة 8 ملايين برميل يومياً خصوصاً وانه وقع في فخ حرب الاستنزاف الأفغانية ومشاريع حرب النجوم الأمريكية... وأما بخصوص الغذاء فالأمثلة أكثر من أن تحصى، وتمتد من رمي أمريكا لملايين الأطنان من القمح في البحر حتى لا يتحقق الاكتفاء العالمي من هذه المادة الحيوية، ومنعاً لتدهور أسعارها... وصولاً للحصار الاقتصادي الشامل لإركاع دول وشعوب بأكملها كما حصل مع سورية والعراق وكوبا وكوريا الشمالية... .
وأما اليوم، تقوم روسيا والصين وحلفائهم في منظمة "شنغهاي" ومجموعة "بريكس" باستخدام ذات الآليات "لإركاع" واشنطن وحلفائها، حيث استغنت هذه الدول في معاملاتها البينية عن الدولار، كما ترفض الانضمام إلى المؤسسات الدولية التي تقف واشنطن خلف نشوئها مثل "أوبك"؛ بل وتشن حرب شعواء عليها... فاغرق روسيا وإيران وغيرهما للسوق النفطية بملايين البرميل يومياً أفقد أوبك ومحمية آل سعود الفائض المالي الذي كانت تستخدمه لإسقاط أنظمة وتثبيت أخرى وإثارة القلاقل والفتن وضخ مئات المليارات في مفاصل الاقتصاد الأمريكي والغربي المتهالك... ما أجبرها على تجميد 75% من موازنتها للعام الحالي مع عجز فاق 120 مليار دولار... ودخول واشنطن والغرب عموماً مرحلة كساد كارثية، ونسب دين فاقت ناتجها القومي... انعكس ذلك مباشرة على القدرة العسكرية لهذه الدول، حيث تراجع الإنفاق العسكري، وتقادمت منظوماتها التسليحية، وتآكلت قدرتها على الحشد والانتشار...
2- قوة المال "مشروع مارشال":
عقب الحرب العالمية الثانية أطلقت واشنطن مشروع "مارشال" بدعوى إعادة بناء أوروبا بعد أن دمرتها الحرب، ولكن الحقيقة كانت في موقع آخر: إنّه الذراع الاقتصادية للهيمنة على أوروبا، ومحاصرة الاتحاد السوفيتي، والمقدمة الحقيقية للسيطرة العسكرية عبر حلف النيتو. من أطلق مشروع مارشال بالأمس أصبح اليوم بحاجة ماسة إلى مشروع مماثل ينقذه من الانهيار والتفكك، سأكتفي بذكر شاهدين فقط: هناك ستة ولايات أمريكية باتت تستخدم عُملة خاصة بها استعداداً لانهيار العملة الفدرالية... والثاني، جعل سقف الدين مفتوحاً بعد أن تجاوز الـ17 ألف مليار المقررة، ما يعني أن الأزمة الاقتصادية مستمرة ولا أفق لحلها... والأمر ذاته ينطبق على عموم أوروبا. على الضفة الأخرى نرى الصين مثلاً، وقد خصصت 1000 مليار دولار للاستثمارات الخارجية خلال السنوات الخمس القادمة... وإذا ما أضفنا بنك تنمية البنية التحتية وصندوق البريكس... نجد بأننا أمام مشروع "مارشال" مقابل، جاهز "لتلقف" المغادرون للمشروع القديم؛ بل ومحو القديم ولكن ضمن فلسفة دولية جديدة تختلف كلياً عنها في النسخة الأمريكية-الغربية.
3- الاحتواء العسكري، وبتر الأطراف:
إنطلاقاً من حقيقة أن حرب "الكبار" باتت "ممنوعة" بسبب نتائجها القاتلة للطرفين، تعاظمت قيمة إستراتيجية احتواء النفوذ والتواجد الأمريكي في العالم، وفي مجالها الحيوي المباشر... تُلحظ هذه الإستراتيجية في أفريقيا حيث النفوذ الصيني المتصاعد، وفي أميركا اللاتينية حيث النفوذ الروسي المتنامي... ويبقى شرق المتوسط الإقليم الأهم الذي تستخدم فيه هذه الثنائية -الاحتواء العسكري، وبتر الأطراف- على نحو صارخ وعنيف جداً... القوتان الأعظم وحلفائهما تقفان على طرفي الحدود، يُسخّرون جلّ إمكانياتهم بشكل تصعيدي في حرب فاصلة باتت تشكل البوابة الحقيقة لبزوغ نظام دولي جديد... يمكن ملاحظة هذه الإستراتيجية في الكثير من المواقع، سورية مثلاً، حيث يُرسل المسلحين بالنار إلى حتفهم أو للحدود التي جاءوا منها.
* كلمة أخيرة:
هكذا، يمكن قراءة إسقاط القاذفة الروسية كجزء من الصراع مع أمريكا وأدواتها لإسقاط نظام دولي قديم وتَخَلّق آخر... والأمر ذاته ينطبق على الاحتلال التركي لأراض عراقية في الموصل. وفي إطار الصراع ذاته يمكن ملاحظة أفعال وردود أفعال الطرف الآخر، مثلاً: نشر أربع بطاريات S-400 في سورية –حتى اللحظة- لا بطاريتين كما أشيع، نشر صواريخ 300S- في اليونان وإيران وربما في قبرص وأرمينيا ومطارات سورية تنتشر أو ستنتشر فيها قريبا قوات ومعدات روسية مثل مطار خلخلة-السويداء، T-4 والشعيرات-حمص، كويرس والنيرب-حلب... "أزمة" الجنود الأتراك في الموصل، وإرسال قوات روسية ضخمة إلى أرمينيا كجزء من عملية حصار النيتو وتركيا، صاحبة الدور الأخطر في تفجير أواسط آسيا والقوقاز والمشرق العربي... ومن هنا جاء تأهيل وتطوير معامل صيانة الدبابات في سورية... ما يعني:
1- أن هناك هجوم بري مدرع واسع قادم لا محالة... خصوصاً بعد سحب "أعداد" من دبابات "T-72B"-ما تزال مثيلاتها تخدم في الجيش الروسي- من مخازن الجيش لترسل إلى ميادين القتال في سورية.
2- سيشهد سلاح الدبابات السوري، والدروع عموماً، نقلة نوعية كبرى، أي أن موسكو قررت تأهيل سلاح الدروع السوري وتطوير وحداته القائمة من جهة ورفده بإصدارات حديثة من الدبابات وناقلات الجند من جهة ثانية.
3- سورية التي كانت مهددة بجغرافيتها وهويتها ودورها، باتت محصنة بشبكة من أحدث أنظمة الدفاع الجوي، وهي تعيش ورشة تحديث كبرى في كافة صنوف قواتها المسلحة... ما يجعل السؤال عن المستقبل أمراً مشروعاً!. عند الانتقال من نظام دولي إلى آخر، تندثر دول وتتقزم أخرى وتظهر أو تتوسع ثالثة... تقزمت أوكرانيا، استهدفت سورية ولكنها صمدت، وهي أقرب إلى معركتها الكبرى التي قد تشعل حرباً إقليمية في الحد الأدنى أو التسليم بانتصارها... لكن التسليم بالإنتصار سيكون له تبعات كبرى، ربما سيكون تكرار تجربة بوابة فاطمة-2000 في الجولان أحدها، لكن العين الأخرى على تركيا.
المصدر :
سمير الفزاع
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة