حُسم ما كان متوقعاً وطويت مسألة تشكيل حكومة إئتلافية في تركيا لتذهب البلاد الى انتخابات مبكرة تقرر إجراؤها في الأول من تشرين الثاني المقبل.

يُعتبر هذا، لجهة التكتيك، نصراً لرئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، ومن خلفه «حزب العدالة والتنمية»، إذ كما بات معروفاً، فقد عمل أردوغان منذ لحظة إعلان نتائج الانتخابات على خطة إفراغ الانتخابات من مضمونها ورسائلها، بل واعتبارها كأنها لم تكن.

أردوغان الذي كان يقول قبل سنوات لمن يدعونه الى انتخابات مبكرة إن على الأتراك أن يتعوّدوا على إجراء الانتخابات في موعدها أي كل أربع سنوات، لم يستطع أن يتحمل شهرين فقط من عمر البرلمان الجديد، ذهبا في مشاورات ومفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة. هكذا، صار مجلس النواب المنتخب البرلمان الأقصر في تاريخ الجمهورية التركية ولم تتعدَّ فترة عمله 22 ساعة.

خطة أردوغان منذ البداية هي إفشال تشكيل الحكومة الجديدة من جهة، وعدم إعطاء وقت كافٍ لتكليف شخص آخر ليحاول التشكيل من جهة أخرى. لذا تأخّر أولاً في تكليف من يشكل الحكومة شهراً بكامله، ثم عمل احمد داود اوغلو على تبديد الوقت في مفاوضات مع المعارضة، فلم يقترح عليها سوى تشكيل حكومة انتخابات.

وقبل خمسة أيام فقط من انتهاء مهلة الـ 45 يوماً لتشكيل الحكومة الجديدة اعتذر داود اوغلو عن مهمته.

ورغم أن مهلة الخمسة أيام لم تكن كافية لتشكيل حكومة من جانب شخصية أخرى فقد كان العرف الدستوري يقضي بأن يكلف أردوغان رئيس الحزب الثاني في البرلمان، وهو رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو بتشكيل الحكومة الجديدة، ولو خلال خمسة أيام. لكنه لم يفعل. كما أن اردوغان انتهك الدستور عندما لم ينتظر انتهاء المهلة الدستورية، وأعلن قبل ثلاثة أيام على نهايتها أنّه تقرر إجراء انتخابات نيابية في الأول من تشرين الثاني المقبل.

«انقلاب القصر»

كل دروب أردوغان كانت تفضي الى انتخابات جديدة.

في الشكل يطلق أردوغان على الانتخابات الجديدة اسم «انتخابات مكرّرة» أو انتخابات الإعادة او إعادة الانتخابات وليس انتخابات مبكرة. وهو في ذلك يريد أن يوجه رسالة مفادها أن الانتخابات النيابية السابقة أبطلت وكأنها لم تكن، وبالتالي تتوجّب إعادتها.

منذ الأساس، تصرّف أردوغان كما لو أنه لم تجر انتخابات. لم يرد أن يسجل عليه أنه خسِر وبالضربة القاضية أهم انتخابات جرت في تركيا منذ 13 عاماً، وكانت نتيجتها الأهم دفن أحلامه الرئاسية، وثانياً فشل «حزب العدالة والتنمية»، أي أردوغان، في الاحتفاظ بالسلطة بمفرده.

وقد اتبع أردوغان من أجل الالتفاف على هذه النتائج خطة بمسارين.

في المسار الأول، قام أردوغان بلعبة علنية لم يخجل من الكشف عنها علناً. قال إنه، بسبب كونه منتَخَباً مباشرة من الشعب التركي، فهو مسؤول أمام الشعب، وبالتالي فإن هذا يقضي بإدارة مختلفة للبلاد، وبوجود تغيير في النظام، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى. والمطلوب بنظره إعداد دستور جديد يضع الإطار الحقوقي لهذا التغيير.

هكذا يغير أردوغان نصوص الدستور من دون حسيب أو رقيب. كلامه هذا فسّرته المعارضة على أنه «انقلاب قصر» وانقلاب سياسي لا يختلف بشيء عما قام به قائد انقلاب العام 1980 كنعان إيفرين، الذي مارس السلطة الانقلابية بصلاحيات خاصة تم تحويلها لاحقاً الى بنود في دستور زجري عُرض على استفتاء في العام 1982.

يريد أردوغان فرض أمر واقع وبالقوة وهو يتصرّف على أساس أنه مطلق الصلاحيات خصوصاً في ظل قبول داود أوغلو أن يكون مجرد دمية بيده.

في المسار الثاني، فإن بيت القصيد هو في كيفية استعادة ثلاث نقاط، وربما أكثر، أي حصول «حزب العدالة والتنمية» على 18 نائباً إضافياً، وهي عدد المقاعد التي تنقصه ليبلغ من جديد الغالبية المطلقة (276 نائباً) التي خسرها في انتخابات السابع من حزيران الماضي.

وهنا تبدأ حكاية تحويل البلاد إلى حلبة للتوتر السياسي والصدام العسكري مع الأكراد وما يواكب ذلك من دم ودموع وتوابيت لا تنقطع صورتها يومياً.

في الخطة، فإنّ توقيت إجراء الانتخابات في مطلع تشرين الثاني المقبل هو محاولة لاستعادة عطف فقده على اعتبار أن الانتخابات التي جاءت بأردوغان الى الحكم قد حصلت في التاريخ نفسه تقريباً أي في الثالث من تشرين الثاني من العام 2002.

أنا.. أو الفوضى!

ما يظهر حتى الآن أن أردوغان لجأ الى التصعيد على جميع الأصعدة على قاعدة إغراق البلاد في فوضى وتوترات بحيث يدفع هذا الناخب الى تفسير الفوضى بعدم حصول أي حزب على الغالبية المطلقة. أما الخروج من هذه الفوضى فيكون بالتصويت مجدداً، وبكثافة، لـ «حزب العدالة والتنمية»، لكي يعود الى السلطة منفرداً فيتحقق الاستقرار، وذلك على أساس انه الحزب الأوفر حظاً لبلوغ هذه الغالبية المطلقة.

وقد أعلن أردوغان قبل أيام بصورة صريحة ما كان يُضمره في طريقة تعامله مع الوقائع منذ السابع من حزيران الماضي، وهو أن على المواطن التركي أن يختار بين الفوضى او استمرار الاستقرار بعودة «حزب العدالة والتنمية» منفرداً الى السلطة.

في سياق توسيع هذه الفوضى إلى أقصى دائرة ممكنة كان الإعلان المزدوج للحرب على كل من تنظيم «داعش» و «حزب العمال الكردستاني». وكان الهدف إدخال البلاد في مناخ من الترقب والقلق لأن حرباً واحدة بالكاد تستطيع حكومة مواجهتها، فكيف بحرب على جبهتين، وفي ظل حكومة مستقيلة؟

الكل بات يعرف أن إعلان الحرب على «داعش» لم يكن سوى ذريعة لشن الحرب الفعلية ضد «حزب العمال الكردستاني». وحتى الآن لم يتبنَّ «داعش» مجزرة سوروتش، ولم يقم بأي عمل ضد المصالح التركية. كما أن تركيا، بدورها، لم تقم بأي شيء يُذكَر ضد هذا التنظيم المتشدد، بينما كانت الغارات المتوالية ويومياً ضد معاقل «الكردستاني» في جبال قنديل، وفي الداخل التركي.

لم يكتف أردوغان بالجانب العسكري من الضغط على الأكراد بل عمل على إلقاء القبض على عدد كبير من رؤساء البلديات أو المؤيدين لـ «حزب الشعوب الديموقراطي» في جنوب شرق تركيا ووضع الحزب الكردي تحت ضغط القضاء، وكل هذا بتهمة أنه امتداد لـ «حزب العمال الكردستاني» الذي يصفه بأنه «إرهابي».

يعرف أردوغان أنه فشل في الانتخابات الماضية بسبب نجاح «حزب الشعوب الديموقراطي» في تجاوز نسبة العشرة في المئة الذي نال 13 في المئة وثمانين نائباً. وبالتالي فإنّ كسر الحزب الكردي أو إضعافه عبر إلصاق تهمة الإرهاب به، يهدف إلى إنزاله لتحت العشرة في المئة، او على الأقل تخفيض نسبة التأييد له، فيقطف أردوغان ثمن هذا التراجع نقاطاً إضافية لحزبه.

التآمر ضد القوميين

وعلى خط موازٍ، فإن تصعيد الحرب على الأكراد يهدف الى إظهار هيبة الدولة والظهور أمام الرأي العام بأنه المدافع عن الحقوق القومية للأتراك. في هذه النقطة يريد أردوغان أن يدخل الى معقل خطاب حزب «الحركة القومية» الذي ينصّب نفسه المدافع الأول عن القومية التركية فيخطف أردوغان منه بعض النقاط.

لكن أردوغان المحنّك وصاحب التجربة الغنية في الانقلاب على شركائه، دخل الى قلب بيت دولت باهتشلي زعيم «الحركة القومية» بالتآمر، مع طغرل توركيش نائب رئيس الحركة، وحفيد زعيمها التاريخي الراحل ألب أرسلان توركيش، بأن أقنعه بالانضمام الى حكومة الانتخابات الجديدة التي لا يزال داود اوغلو في طور تشكيلها. وقد قبل توركيش هذا العرض، بالرغم من أن «الحركة القومية» رفضت المشاركة في الحكومة الانتخابية.

ومع أن «الحركة القومية» تتجه الى فصل توركيش من صفوفها، إلا أن رمزيته من جهة، واحتمال ان يعمد آخرون الى التمرد على باهتشلي سيضعها أمام تصدّع ولو كان محدوداً. وهذا سيتبين حجمه الفعلي في الأيام المقبلة.

هكذا فإنّ أردوغان تجاوز الخطوط الحمر بمحاولة تفكيك حزب «الحركة القومية» وإشغاله بمشكلات تنظيمية داخلية، لكي يخطف أصواتاً إضافية لصالح «حزب العدالة والتنمية».

بمعنى ثمة خطة لتجميع النقاط: نقطة من هنا، وثانية من هناك، فيصل الى غالبية النصف زائداً واحداً.

فرص غير مضمونة

ومع أن هذه الرهانات من جانب أردوغان لها حظ بالنجاح، إلا أن نجاحها ليس محسوماً وقد تأتي عليه بنتائج عكسية.

وأظهرت تطورات ما قبل انتخابات السابع من حزيران، أنه كلما زاد الضغط الأردوغاني على الأكراد، تكتّلوا أكثر ضده؛ وهذا يفترض أن يخسر أردوغان المزيد من أصوات الأكراد فتتراجع نقاطه.

وسيواجه أردوغان مشكلة في خطابه التصعيدي ضد الأكراد و «حزب الشعوب الديموقراطي»، إذ في وقت اتهم أردوغان وبحدّة الحزب الكردي المتمثل في البرلمان بثمانين نائباً بانه امتداد لـ «المنظمة الإرهابية» فإنه سيكون معه في حكومة الانتخابات على الطاولة ذاتها، ذلك أن الدستور يفرض تمثيل الأحزاب بحسب عدد نوابها في حكومة الانتخابات.

ومع أن داود اوغلو يقول إن هذا مقتضى دستوري صرف، فإنّ تمثل الحزب الكردي في الحكومة بثلاثة وزراء سيكون سابقة في تاريخ تركيا، وأمراً محرجاً جداً لأردوغان شخصياً.

وربّما يكون داود أوغلو راهن على أن «حزب الشعوب الديموقراطي» سيرفض المشاركة، إلا الحزب الكردي أعلن أنه سيشارك وسيقبل بأي وزارات تُعرَض عليه.

وفي ظل رفض حزبَي المعارضة الآخرين، أي «حزب الشعب الجمهوري» و «الحركة القومية»، المشاركة، فإن حكومة الانتخابات ستتشكل عملياً من حزبَي «العدالة والتنمية» و «الشعوب الديموقراطي» وبعض «المستقلين». هذا الأمر سيُحرج جداً «حزب العدالة والتنمية» الذي رفض في الأساس حتى التشاور مع الحزب الكردي ليدخل حكومة جديدة بعد الانتخابات الماضية، فإذا به اليوم يكون في حكومة طرفها الآخر الوحيد «حزب الشعوب الديموقراطي» المعتبَر امتداداً لـ «المنظمة الإرهابية».

يكسر الحزب الكردي بذلك طروحات أردوغان ويُفرغها من مضمونها. لكن بالتوازي هذا سيكون مادة دسمة جداً يستفيد منها حزب «الحركة القومية» في حملته الانتخابية ليظهر أن أردوغان غير جدّي في محاربة «الإرهاب» الكردي، بل إنه يجلس معهم على طاولة واحدة، وليس أي طاولة، بل طاولة مجلس الوزراء.

خطة المعارضة في رفض المشاركة في الحكومة الانتخابية، التي بالمناسبة لا تحتاج إلى نيل ثقة البرلمان، يمكن أن تكون ضربة معلم في إلحاق الضرر بصورة أردوغان التضليلية.

تذهب تركيا الى انتخابات مبكرة في ظل حرب مفتوحة مع الأكراد وهي أول انتخابات في عهد «حزب العدالة والتنمية» لا تجري في ظل وقف للنار أو هدنة بين الحكومة، و «حزب العمال الكردستاني».

وهذا يمكن أن يكون دافعاً ليتساءل الناخب عن المسؤول عن مواكب الجنازات وحمامات الدم ودموع الأمهات. وكم كان بليغاً مشهد شقيق أحد قتلى الجيش التركي في محافظة عثمانية، وهو (أي الشقيق واسمه محمد ألكان) عقيد أيضاً في الجيش، وهو يصرخ، لابساً بزته العسكرية، فوق تابوت شقيقه الأصغر: «لقد وعدتمونا بالحل فجئتمونا بالحرب». كذلك صراخ أحد المواطنين في إحدى الجنازات» في أرضروم: «فليرسل أردوغان ابنه الى الحرب بدلاً من أبنائنا». فهل الوعد بالاستقرار يكون بإراقة المزيد من الدماء في حرب لا أفق لها وخاسرة مسبقاً؟ وما الذي سيقوله المواطن وهو الذي يرى راتبه يذوب بين يديه بسبب تراجع سعر صرف الليرة وبلوغه أرقاماً قياسية لامست بل تخطت احياناً الثلاث ليرات؟ كل ذلك بسبب الفشل بتشكيل حكومة ائتلافية حال دون تشكيلها أردوغان نفسه!

إضافة الى ذلك فإنه في حال جرت الانتخابات النيابية المبكرة ولم يستطع «حزب العدالة والتنمية» أن ينال الغالبية المطلقة وفشلت الأحزاب في تشكيل حكومة إئتلافية فإن حكومة الانتخابات الحالية الجديدة سوف تبقى هي في السلطة، بمشاركة الأكراد، تسيّر الأعمال إلى أن تجد البلاد حلاً لأزمتها. وفي جميع الأحوال فإن حكومة الانتخابات في النهاية هي حكومة انتقالية ولكن لها كل الصلاحيات الدستورية لحكم البلاد واتخاذ القرارات الى حين تشكيل حكومة جديدة وهو ما فعلته حكومة داود اوغلو المستقيلة بعد انتخابات السابع من حزيران ولا تزال. فما الذي سيقوله أردوغان المحارب للإرهاب حتى النهاية وهو يجلس مع «الإرهابيين» على الطاولة نفسها؟

أسئلة كثيرة لا تنتهي تُرمَى بوجه الناخب التركي وهو يذهب الى صندوق الاقتراع، وستؤثر حتماً في خياراته.

من المبكر الجزم بما ستكون عليه نتائج الانتخابات المبكرة في الأول من تشرين الثاني. لكنها انتخابات يعلم الجميع أنه تجري ليس بسبب الفشل في تشكيل حكومة جديدة بل لأن أردوغان أرادها لكي يمحو نتائج الانتخابات الماضية لا أكثر ولا أقل. وهذا العامل قد لا يجد قبولاً لدى المواطن التركي الذي يرى أنه كان بالإمكان تشكيل حكومة ائتلافية مع «حزب الشعب الجمهوري» لو لم يتدخل أردوغان ويمنع قيام ذلك في تجيير شخصي للحسابات السياسية.

شركات الاستطلاع التي تعمل لحساب أردوغان تقول اليوم إن نسبة الأصوات التي سيحصل عليها «حزب العدالة والتنمية» سترتفع من 41 في المئة الى 43-44 في المئة. نسبة قد تجعل الحزب يحصل وإن بصعوبة على النصف زائداً واحداً أي 276 مقعداً. وتشير هذه الاستطلاعات الى تراجع أصوات الحزب الكردي الى 11 في المئة تقريباً. لكن المفارقة أن هذه الاستطلاعات المؤيدة لأردوغان تضع احتمال أن تتراجع بقوة أصوات حزب «الحركة القومية». والأرجح أن هذه الاستطلاعات تهدف إلى ممارسة ضغط نفسي على ناخبي «الحركة القومية» للاقتراع الى جانب حزب العدالة والتنمية.

اما بقية استطلاعات الرأي المعارضة لأردوغان او الحيادية فإنها لا تتوقع تغييراً يُذكر في النتائج بل إن العديد منها يتوقع أن تتراجع أصوات «حزب العدالة والتنمية» الى 39-40 في المئة مع تقدّم للأحزاب الأخرى، وأن يتراجع عدد مقاعد «العدالة والتنمية» الى 240-250 مع زيادة لعدد نواب الأحزاب الأخرى.

لكن السؤال الجوهري هو: إذا فاز «حزب العدالة والتنمية» بالغالبية المطلقة فهل يعتقد أنه لا يزال يستطيع إدارة البلاد بمفرده بعد كل هذا الانفجار العسكري مع الأكراد وهذا التراجع الاقتصادي وهذا الاحتقان السياسي؟ الإجابة بنعم ستكون حتماً خاطئة.

  • فريق ماسة
  • 2015-08-28
  • 15504
  • من الأرشيف

تركيا إلى انتخابات مبكرة: مؤثرات واحتمالات

حُسم ما كان متوقعاً وطويت مسألة تشكيل حكومة إئتلافية في تركيا لتذهب البلاد الى انتخابات مبكرة تقرر إجراؤها في الأول من تشرين الثاني المقبل. يُعتبر هذا، لجهة التكتيك، نصراً لرئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، ومن خلفه «حزب العدالة والتنمية»، إذ كما بات معروفاً، فقد عمل أردوغان منذ لحظة إعلان نتائج الانتخابات على خطة إفراغ الانتخابات من مضمونها ورسائلها، بل واعتبارها كأنها لم تكن. أردوغان الذي كان يقول قبل سنوات لمن يدعونه الى انتخابات مبكرة إن على الأتراك أن يتعوّدوا على إجراء الانتخابات في موعدها أي كل أربع سنوات، لم يستطع أن يتحمل شهرين فقط من عمر البرلمان الجديد، ذهبا في مشاورات ومفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة. هكذا، صار مجلس النواب المنتخب البرلمان الأقصر في تاريخ الجمهورية التركية ولم تتعدَّ فترة عمله 22 ساعة. خطة أردوغان منذ البداية هي إفشال تشكيل الحكومة الجديدة من جهة، وعدم إعطاء وقت كافٍ لتكليف شخص آخر ليحاول التشكيل من جهة أخرى. لذا تأخّر أولاً في تكليف من يشكل الحكومة شهراً بكامله، ثم عمل احمد داود اوغلو على تبديد الوقت في مفاوضات مع المعارضة، فلم يقترح عليها سوى تشكيل حكومة انتخابات. وقبل خمسة أيام فقط من انتهاء مهلة الـ 45 يوماً لتشكيل الحكومة الجديدة اعتذر داود اوغلو عن مهمته. ورغم أن مهلة الخمسة أيام لم تكن كافية لتشكيل حكومة من جانب شخصية أخرى فقد كان العرف الدستوري يقضي بأن يكلف أردوغان رئيس الحزب الثاني في البرلمان، وهو رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو بتشكيل الحكومة الجديدة، ولو خلال خمسة أيام. لكنه لم يفعل. كما أن اردوغان انتهك الدستور عندما لم ينتظر انتهاء المهلة الدستورية، وأعلن قبل ثلاثة أيام على نهايتها أنّه تقرر إجراء انتخابات نيابية في الأول من تشرين الثاني المقبل. «انقلاب القصر» كل دروب أردوغان كانت تفضي الى انتخابات جديدة. في الشكل يطلق أردوغان على الانتخابات الجديدة اسم «انتخابات مكرّرة» أو انتخابات الإعادة او إعادة الانتخابات وليس انتخابات مبكرة. وهو في ذلك يريد أن يوجه رسالة مفادها أن الانتخابات النيابية السابقة أبطلت وكأنها لم تكن، وبالتالي تتوجّب إعادتها. منذ الأساس، تصرّف أردوغان كما لو أنه لم تجر انتخابات. لم يرد أن يسجل عليه أنه خسِر وبالضربة القاضية أهم انتخابات جرت في تركيا منذ 13 عاماً، وكانت نتيجتها الأهم دفن أحلامه الرئاسية، وثانياً فشل «حزب العدالة والتنمية»، أي أردوغان، في الاحتفاظ بالسلطة بمفرده. وقد اتبع أردوغان من أجل الالتفاف على هذه النتائج خطة بمسارين. في المسار الأول، قام أردوغان بلعبة علنية لم يخجل من الكشف عنها علناً. قال إنه، بسبب كونه منتَخَباً مباشرة من الشعب التركي، فهو مسؤول أمام الشعب، وبالتالي فإن هذا يقضي بإدارة مختلفة للبلاد، وبوجود تغيير في النظام، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى. والمطلوب بنظره إعداد دستور جديد يضع الإطار الحقوقي لهذا التغيير. هكذا يغير أردوغان نصوص الدستور من دون حسيب أو رقيب. كلامه هذا فسّرته المعارضة على أنه «انقلاب قصر» وانقلاب سياسي لا يختلف بشيء عما قام به قائد انقلاب العام 1980 كنعان إيفرين، الذي مارس السلطة الانقلابية بصلاحيات خاصة تم تحويلها لاحقاً الى بنود في دستور زجري عُرض على استفتاء في العام 1982. يريد أردوغان فرض أمر واقع وبالقوة وهو يتصرّف على أساس أنه مطلق الصلاحيات خصوصاً في ظل قبول داود أوغلو أن يكون مجرد دمية بيده. في المسار الثاني، فإن بيت القصيد هو في كيفية استعادة ثلاث نقاط، وربما أكثر، أي حصول «حزب العدالة والتنمية» على 18 نائباً إضافياً، وهي عدد المقاعد التي تنقصه ليبلغ من جديد الغالبية المطلقة (276 نائباً) التي خسرها في انتخابات السابع من حزيران الماضي. وهنا تبدأ حكاية تحويل البلاد إلى حلبة للتوتر السياسي والصدام العسكري مع الأكراد وما يواكب ذلك من دم ودموع وتوابيت لا تنقطع صورتها يومياً. في الخطة، فإنّ توقيت إجراء الانتخابات في مطلع تشرين الثاني المقبل هو محاولة لاستعادة عطف فقده على اعتبار أن الانتخابات التي جاءت بأردوغان الى الحكم قد حصلت في التاريخ نفسه تقريباً أي في الثالث من تشرين الثاني من العام 2002. أنا.. أو الفوضى! ما يظهر حتى الآن أن أردوغان لجأ الى التصعيد على جميع الأصعدة على قاعدة إغراق البلاد في فوضى وتوترات بحيث يدفع هذا الناخب الى تفسير الفوضى بعدم حصول أي حزب على الغالبية المطلقة. أما الخروج من هذه الفوضى فيكون بالتصويت مجدداً، وبكثافة، لـ «حزب العدالة والتنمية»، لكي يعود الى السلطة منفرداً فيتحقق الاستقرار، وذلك على أساس انه الحزب الأوفر حظاً لبلوغ هذه الغالبية المطلقة. وقد أعلن أردوغان قبل أيام بصورة صريحة ما كان يُضمره في طريقة تعامله مع الوقائع منذ السابع من حزيران الماضي، وهو أن على المواطن التركي أن يختار بين الفوضى او استمرار الاستقرار بعودة «حزب العدالة والتنمية» منفرداً الى السلطة. في سياق توسيع هذه الفوضى إلى أقصى دائرة ممكنة كان الإعلان المزدوج للحرب على كل من تنظيم «داعش» و «حزب العمال الكردستاني». وكان الهدف إدخال البلاد في مناخ من الترقب والقلق لأن حرباً واحدة بالكاد تستطيع حكومة مواجهتها، فكيف بحرب على جبهتين، وفي ظل حكومة مستقيلة؟ الكل بات يعرف أن إعلان الحرب على «داعش» لم يكن سوى ذريعة لشن الحرب الفعلية ضد «حزب العمال الكردستاني». وحتى الآن لم يتبنَّ «داعش» مجزرة سوروتش، ولم يقم بأي عمل ضد المصالح التركية. كما أن تركيا، بدورها، لم تقم بأي شيء يُذكَر ضد هذا التنظيم المتشدد، بينما كانت الغارات المتوالية ويومياً ضد معاقل «الكردستاني» في جبال قنديل، وفي الداخل التركي. لم يكتف أردوغان بالجانب العسكري من الضغط على الأكراد بل عمل على إلقاء القبض على عدد كبير من رؤساء البلديات أو المؤيدين لـ «حزب الشعوب الديموقراطي» في جنوب شرق تركيا ووضع الحزب الكردي تحت ضغط القضاء، وكل هذا بتهمة أنه امتداد لـ «حزب العمال الكردستاني» الذي يصفه بأنه «إرهابي». يعرف أردوغان أنه فشل في الانتخابات الماضية بسبب نجاح «حزب الشعوب الديموقراطي» في تجاوز نسبة العشرة في المئة الذي نال 13 في المئة وثمانين نائباً. وبالتالي فإنّ كسر الحزب الكردي أو إضعافه عبر إلصاق تهمة الإرهاب به، يهدف إلى إنزاله لتحت العشرة في المئة، او على الأقل تخفيض نسبة التأييد له، فيقطف أردوغان ثمن هذا التراجع نقاطاً إضافية لحزبه. التآمر ضد القوميين وعلى خط موازٍ، فإن تصعيد الحرب على الأكراد يهدف الى إظهار هيبة الدولة والظهور أمام الرأي العام بأنه المدافع عن الحقوق القومية للأتراك. في هذه النقطة يريد أردوغان أن يدخل الى معقل خطاب حزب «الحركة القومية» الذي ينصّب نفسه المدافع الأول عن القومية التركية فيخطف أردوغان منه بعض النقاط. لكن أردوغان المحنّك وصاحب التجربة الغنية في الانقلاب على شركائه، دخل الى قلب بيت دولت باهتشلي زعيم «الحركة القومية» بالتآمر، مع طغرل توركيش نائب رئيس الحركة، وحفيد زعيمها التاريخي الراحل ألب أرسلان توركيش، بأن أقنعه بالانضمام الى حكومة الانتخابات الجديدة التي لا يزال داود اوغلو في طور تشكيلها. وقد قبل توركيش هذا العرض، بالرغم من أن «الحركة القومية» رفضت المشاركة في الحكومة الانتخابية. ومع أن «الحركة القومية» تتجه الى فصل توركيش من صفوفها، إلا أن رمزيته من جهة، واحتمال ان يعمد آخرون الى التمرد على باهتشلي سيضعها أمام تصدّع ولو كان محدوداً. وهذا سيتبين حجمه الفعلي في الأيام المقبلة. هكذا فإنّ أردوغان تجاوز الخطوط الحمر بمحاولة تفكيك حزب «الحركة القومية» وإشغاله بمشكلات تنظيمية داخلية، لكي يخطف أصواتاً إضافية لصالح «حزب العدالة والتنمية». بمعنى ثمة خطة لتجميع النقاط: نقطة من هنا، وثانية من هناك، فيصل الى غالبية النصف زائداً واحداً. فرص غير مضمونة ومع أن هذه الرهانات من جانب أردوغان لها حظ بالنجاح، إلا أن نجاحها ليس محسوماً وقد تأتي عليه بنتائج عكسية. وأظهرت تطورات ما قبل انتخابات السابع من حزيران، أنه كلما زاد الضغط الأردوغاني على الأكراد، تكتّلوا أكثر ضده؛ وهذا يفترض أن يخسر أردوغان المزيد من أصوات الأكراد فتتراجع نقاطه. وسيواجه أردوغان مشكلة في خطابه التصعيدي ضد الأكراد و «حزب الشعوب الديموقراطي»، إذ في وقت اتهم أردوغان وبحدّة الحزب الكردي المتمثل في البرلمان بثمانين نائباً بانه امتداد لـ «المنظمة الإرهابية» فإنه سيكون معه في حكومة الانتخابات على الطاولة ذاتها، ذلك أن الدستور يفرض تمثيل الأحزاب بحسب عدد نوابها في حكومة الانتخابات. ومع أن داود اوغلو يقول إن هذا مقتضى دستوري صرف، فإنّ تمثل الحزب الكردي في الحكومة بثلاثة وزراء سيكون سابقة في تاريخ تركيا، وأمراً محرجاً جداً لأردوغان شخصياً. وربّما يكون داود أوغلو راهن على أن «حزب الشعوب الديموقراطي» سيرفض المشاركة، إلا الحزب الكردي أعلن أنه سيشارك وسيقبل بأي وزارات تُعرَض عليه. وفي ظل رفض حزبَي المعارضة الآخرين، أي «حزب الشعب الجمهوري» و «الحركة القومية»، المشاركة، فإن حكومة الانتخابات ستتشكل عملياً من حزبَي «العدالة والتنمية» و «الشعوب الديموقراطي» وبعض «المستقلين». هذا الأمر سيُحرج جداً «حزب العدالة والتنمية» الذي رفض في الأساس حتى التشاور مع الحزب الكردي ليدخل حكومة جديدة بعد الانتخابات الماضية، فإذا به اليوم يكون في حكومة طرفها الآخر الوحيد «حزب الشعوب الديموقراطي» المعتبَر امتداداً لـ «المنظمة الإرهابية». يكسر الحزب الكردي بذلك طروحات أردوغان ويُفرغها من مضمونها. لكن بالتوازي هذا سيكون مادة دسمة جداً يستفيد منها حزب «الحركة القومية» في حملته الانتخابية ليظهر أن أردوغان غير جدّي في محاربة «الإرهاب» الكردي، بل إنه يجلس معهم على طاولة واحدة، وليس أي طاولة، بل طاولة مجلس الوزراء. خطة المعارضة في رفض المشاركة في الحكومة الانتخابية، التي بالمناسبة لا تحتاج إلى نيل ثقة البرلمان، يمكن أن تكون ضربة معلم في إلحاق الضرر بصورة أردوغان التضليلية. تذهب تركيا الى انتخابات مبكرة في ظل حرب مفتوحة مع الأكراد وهي أول انتخابات في عهد «حزب العدالة والتنمية» لا تجري في ظل وقف للنار أو هدنة بين الحكومة، و «حزب العمال الكردستاني». وهذا يمكن أن يكون دافعاً ليتساءل الناخب عن المسؤول عن مواكب الجنازات وحمامات الدم ودموع الأمهات. وكم كان بليغاً مشهد شقيق أحد قتلى الجيش التركي في محافظة عثمانية، وهو (أي الشقيق واسمه محمد ألكان) عقيد أيضاً في الجيش، وهو يصرخ، لابساً بزته العسكرية، فوق تابوت شقيقه الأصغر: «لقد وعدتمونا بالحل فجئتمونا بالحرب». كذلك صراخ أحد المواطنين في إحدى الجنازات» في أرضروم: «فليرسل أردوغان ابنه الى الحرب بدلاً من أبنائنا». فهل الوعد بالاستقرار يكون بإراقة المزيد من الدماء في حرب لا أفق لها وخاسرة مسبقاً؟ وما الذي سيقوله المواطن وهو الذي يرى راتبه يذوب بين يديه بسبب تراجع سعر صرف الليرة وبلوغه أرقاماً قياسية لامست بل تخطت احياناً الثلاث ليرات؟ كل ذلك بسبب الفشل بتشكيل حكومة ائتلافية حال دون تشكيلها أردوغان نفسه! إضافة الى ذلك فإنه في حال جرت الانتخابات النيابية المبكرة ولم يستطع «حزب العدالة والتنمية» أن ينال الغالبية المطلقة وفشلت الأحزاب في تشكيل حكومة إئتلافية فإن حكومة الانتخابات الحالية الجديدة سوف تبقى هي في السلطة، بمشاركة الأكراد، تسيّر الأعمال إلى أن تجد البلاد حلاً لأزمتها. وفي جميع الأحوال فإن حكومة الانتخابات في النهاية هي حكومة انتقالية ولكن لها كل الصلاحيات الدستورية لحكم البلاد واتخاذ القرارات الى حين تشكيل حكومة جديدة وهو ما فعلته حكومة داود اوغلو المستقيلة بعد انتخابات السابع من حزيران ولا تزال. فما الذي سيقوله أردوغان المحارب للإرهاب حتى النهاية وهو يجلس مع «الإرهابيين» على الطاولة نفسها؟ أسئلة كثيرة لا تنتهي تُرمَى بوجه الناخب التركي وهو يذهب الى صندوق الاقتراع، وستؤثر حتماً في خياراته. من المبكر الجزم بما ستكون عليه نتائج الانتخابات المبكرة في الأول من تشرين الثاني. لكنها انتخابات يعلم الجميع أنه تجري ليس بسبب الفشل في تشكيل حكومة جديدة بل لأن أردوغان أرادها لكي يمحو نتائج الانتخابات الماضية لا أكثر ولا أقل. وهذا العامل قد لا يجد قبولاً لدى المواطن التركي الذي يرى أنه كان بالإمكان تشكيل حكومة ائتلافية مع «حزب الشعب الجمهوري» لو لم يتدخل أردوغان ويمنع قيام ذلك في تجيير شخصي للحسابات السياسية. شركات الاستطلاع التي تعمل لحساب أردوغان تقول اليوم إن نسبة الأصوات التي سيحصل عليها «حزب العدالة والتنمية» سترتفع من 41 في المئة الى 43-44 في المئة. نسبة قد تجعل الحزب يحصل وإن بصعوبة على النصف زائداً واحداً أي 276 مقعداً. وتشير هذه الاستطلاعات الى تراجع أصوات الحزب الكردي الى 11 في المئة تقريباً. لكن المفارقة أن هذه الاستطلاعات المؤيدة لأردوغان تضع احتمال أن تتراجع بقوة أصوات حزب «الحركة القومية». والأرجح أن هذه الاستطلاعات تهدف إلى ممارسة ضغط نفسي على ناخبي «الحركة القومية» للاقتراع الى جانب حزب العدالة والتنمية. اما بقية استطلاعات الرأي المعارضة لأردوغان او الحيادية فإنها لا تتوقع تغييراً يُذكر في النتائج بل إن العديد منها يتوقع أن تتراجع أصوات «حزب العدالة والتنمية» الى 39-40 في المئة مع تقدّم للأحزاب الأخرى، وأن يتراجع عدد مقاعد «العدالة والتنمية» الى 240-250 مع زيادة لعدد نواب الأحزاب الأخرى. لكن السؤال الجوهري هو: إذا فاز «حزب العدالة والتنمية» بالغالبية المطلقة فهل يعتقد أنه لا يزال يستطيع إدارة البلاد بمفرده بعد كل هذا الانفجار العسكري مع الأكراد وهذا التراجع الاقتصادي وهذا الاحتقان السياسي؟ الإجابة بنعم ستكون حتماً خاطئة.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة