أن تُقيم حالة سياسية معينة، أو تطوراً سياسياً ما فهذا له قواعده العلمية والتحليلية التي لا تخضع في كثير من الأحيان للعاطفة الشخصية، والانفعالات ومبدأ الحب، والكراهية، ولكن بعض الإعلام المملوك لآبار النفط، والغاز أخضع هزيمة أردوغان الأخيرة لمعايير سعودية حتى وصل به الأمر إلى القول: إن (نكران الجميل عادة أصيلة لدى الشعوب) فبرأي هذا الصحفي فإن كل الشعوب ناكرة للجميل، بمن فيها الشعب التركي الذي أطاح بأردوغان وأحلامه السلطانية المريضة عبر صندوق الاقتراع. لكن هذا الصحفي الذي أشاد بإنجازات أردوغان لم يشرح لنا إطلاقاً كم كان أردوغان نفسه ناكراً للجميل حتى يعاقبه شعبه هذه العقوبة؟

 سنشرح له قصة أردوغان، ونكرانه للجميل التي هي جزء أساسي من شخصية صاحب (الوهم العثماني)، فأردوغان هذا كان ناكراً لجميل تجاه معلمه (نجم الدين أربكان) الذي وثق به، وعيّنه مسؤولاً حزبياً في مدينة إسطنبول، ومن هناك كانت انطلاقته، لتأتيه فرصته الذهبية مع المشروع الأميركي- الغربي (الشرق الأوسط الكبير) الذي هدف إلى تقسيم المنطقة على أساس (إتني طائفي)، وهو ما رفضه أربكان عندما عرض عليه كما كشف مصطفى كامالاك زعيم حزب السعادة- وصديق أربكان الشخصي، وكان محتوى المشروع أن واشنطن ستتجه لإيصال (الإخوان المسلمين) للسلطة، وستؤمن التمويل اللازم لهم، وتزيح من وجههم كل من يعارضهم. وآنذاك تحمس أردوغان للمشروع الذي رفضه أستاذه، وقال له: يمكننا التعاون مع هذا المشروع حتى نتمكن من السلطة في تركيا، وبعدئذٍ لن يستطيعوا إزاحتنا، إلا أن حكمة أربكان الذي يعرف مخاطر اللعب مع قوى كبرى في العالم دعته للقول لأردوغان: (إن إدخال الفيل إلى حجرتك ليس كإخراجه، وإذا حاولت إخراجه فإنه سوف يحطّم لك كل محتويات الحجرة)، ولكن الطامع في السلطة والجاه أردوغان خان أستاذه، وذهب بدعم أميركي غربي مطلق للقبول بالمشروع، وتوقيع العقد معهم ومع رفاقه (عبد الله غُل- بولنت ارينتش) وغيرهم ممن أسسوا ما يعرف بـ(حزب العدالة والتنمية) كقاطرة أساسية ومرجعية لحركات الإخوان- والتكفير في العالم من أجل تنفيذ المشروع الأميركي.

– قَبِلَ أردوغان العرض لأنه كان مقتنعاً تماماً كما أسرّ لأحد أصدقائه: إن (الديمقراطية هي أداتنا للوصول للأهداف… وإنها مثل القطار يجب أن تعرف متى تركب فيه، وفي أي محطة يجب أن تغادره؟)…

مع وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 للسلطة حشدت أميركا له كلّ أدواتها داخل تركيا (مؤسسات فتح الله غولين- الليبيراليين- وحتى بعض اليسار الذي اعتقد أنها فرصة للتخلص من حكم العسكر)، وآنذاك قاد عبد الله غُل الحزب، وتسلم رئاسة الوزراء لفترة من الزمن- ليسلمها لاحقاً لرجب طيب أردوغان- الذي كان يقول: إن (الأحزاب السياسية التقليدية تحولت إلى حكومات، ولكنها لم تصبح الدولة بحد ذاتها، ونحن سوف نبني دولة جديدة، وهذه هي الإمكانية الوحيدة إذا أردت أن تصبح الدولة بحد ذاتها)…

وهنا كان بإمكان (غُل) أن يكون ناكراً للجميل مثلاً- وألا يسلم أردوغان رئاسة الحكومة، ويصبح هو وزيراً للخارجية… ولكنه لم يفعل…

استخدام أردوغان- انتشار مؤيدي (فتح الله غولين) في مفاصل القضاء، والشرطة، والخدمة المدنية، لينقضّ على العسكر، ونفوذهم، فاخترع معهم قصة (أرغينيكون) والمؤامرة لقلب الحكومة لسجن كل معارضيه ليعترف لاحقاً أن الأدلة ضدهم كانت مفبركة، ويطلق سراحهم، بعد أن بدأ الصراع يظهر بين أردوغان وغولين.

دخل أردوغان في عملية بناء الدولة التي سعى لها من خلال الهيمنة على القضاء والتعليم والإعلام وأصبح له مؤسسات اقتصادية يحركها، ومال خليجي يصب في خدمته، وطوّع العسكر والأمن لتنفيذ المشروع الذي كلف به، والذي بموجبه أدخل الفيل إلى حجرته.

نكران الجميل لدى أردوغان كان بالانقلاب على حليفه (فتح الله غولين) وملاحقة كوادره في كل مكان، ومصادرة مؤسساته الاقتصادية والمالية، ومحاولة إغلاق وسائل إعلامه وخاصة أنه اتهمه بأنه وراء فضيحة الفساد التي تدين أردوغان وعائلته وحكومته التي كشفت أواخر عام 2013، ونكران الجميل بدا واضحاً عندما استبعد رفيق دربه عبد الله غل من العودة للحزب بعد انتهاء فترة رئاسته، ونكران الجميل واضح باستبعاده لكل مؤسسي الحزب معه ليستفرد هو بكل شيء.

نكران الجميل عندما قدم نفسه إسلامياً مؤمناً ليتبين أنه لص فاسد مجرم، وعندما هاجم إسرائيل وتحدث عن فلسطين ليتبين أن بواخر ابنه لم تنقطع عن نقل النفط إلى عسقلان، وأن التبادل التجاري والتعاون العسكري تعزز في عهده.

نكران الجميل الأكبر في علاقته مع سورية التي فتحت أبوابها منطلقة من ضرورة التكامل الاقتصادي بين دول وشعوب المنطقة لتحقيق الرفاه للجميع ولكن أردوغان حوّل العلاقة مع الرئيس بشار الأسد من علاقة شخصية حميمية إلى علاقة «عداوة» لتتحول لدى أردوغان إلى «عقدة نفسية» اسمها «الرئيس بشار الأسد» والسبب أن صمود الرئيس الأسد وسورية أسقطا مشروعه العثماني لتتتالى السبحة بسقوطه الحالي.

نكران الجميل مفاصله كثيرة وعديدة في حياة «السلطان» الموهوم فقد تنكر لحلفائه وأصدقائه وحتى داعميه معتقداً أن بإمكانه أن ينهض بتركيا على حساب دماء جيرانها وأن بإمكانه أن يحكم تركيا على حساب كل من في الداخل، وأن بإمكانه أن يمد نفوذ العثمانية الجديدة بالكلام المعسول، وبالكذب والنفاق.

إن استعراضنا السابق ليس هدفه الشماتة كما حاول بعض الإعلام الخليجي التسويق له، وإن كان من حقي أن أشمت بهذا السفاح- ولكنه للرد المنطقي خارج لغة العاطفة من أن سقوط أردوغان المدوي «ليس لأن نكران الجميل عادة أصيلة لدى الشعوب»، بل لأن أردوغان نفسه أكبر ناكر للجميل، وإذا كانت التجربة التركية مفيدة للجميع كما يشير الإعلام الخليجي، فإن سؤالنا الأساسي هو أن سورية إن شاء الله سوف تنجز نموذجها مستقبلاً- بناء على إرادة شعبها وقراره-، ولكن ماذا عن مملكة آل سعود التي يكتب هؤلاء في صحفها؟ هل بإمكانهم كتابة مقال واحد فقط يتحدثون فيه عن الكيفية التي يستطيع من خلالها شعب شبه الجزيرة العربية التعبير عن رأيه وبأي طريقة من دون إشارة لإرادة صاحب جلالة مصاب بالزهايمر ورؤيته الثاقبة ونكران الجميل لدى الشعوب؟ وهنا تكمن الطامّة الكبرى لدى المرتزقة من هذا الإعلام الذين ينظّرون لنا عن سورية، وتركيا، واليمن ولبنان والعراق ويبقى السؤال مرة أخرى: أجيبونا ماذا عن مملكة القرون الوسطى والشعب الذي يتبع لعائلة متى يحين وقت التغيير وبأي طريقة؟

  • فريق ماسة
  • 2015-06-13
  • 13939
  • من الأرشيف

أردوغان ونكران الجميل

أن تُقيم حالة سياسية معينة، أو تطوراً سياسياً ما فهذا له قواعده العلمية والتحليلية التي لا تخضع في كثير من الأحيان للعاطفة الشخصية، والانفعالات ومبدأ الحب، والكراهية، ولكن بعض الإعلام المملوك لآبار النفط، والغاز أخضع هزيمة أردوغان الأخيرة لمعايير سعودية حتى وصل به الأمر إلى القول: إن (نكران الجميل عادة أصيلة لدى الشعوب) فبرأي هذا الصحفي فإن كل الشعوب ناكرة للجميل، بمن فيها الشعب التركي الذي أطاح بأردوغان وأحلامه السلطانية المريضة عبر صندوق الاقتراع. لكن هذا الصحفي الذي أشاد بإنجازات أردوغان لم يشرح لنا إطلاقاً كم كان أردوغان نفسه ناكراً للجميل حتى يعاقبه شعبه هذه العقوبة؟  سنشرح له قصة أردوغان، ونكرانه للجميل التي هي جزء أساسي من شخصية صاحب (الوهم العثماني)، فأردوغان هذا كان ناكراً لجميل تجاه معلمه (نجم الدين أربكان) الذي وثق به، وعيّنه مسؤولاً حزبياً في مدينة إسطنبول، ومن هناك كانت انطلاقته، لتأتيه فرصته الذهبية مع المشروع الأميركي- الغربي (الشرق الأوسط الكبير) الذي هدف إلى تقسيم المنطقة على أساس (إتني طائفي)، وهو ما رفضه أربكان عندما عرض عليه كما كشف مصطفى كامالاك زعيم حزب السعادة- وصديق أربكان الشخصي، وكان محتوى المشروع أن واشنطن ستتجه لإيصال (الإخوان المسلمين) للسلطة، وستؤمن التمويل اللازم لهم، وتزيح من وجههم كل من يعارضهم. وآنذاك تحمس أردوغان للمشروع الذي رفضه أستاذه، وقال له: يمكننا التعاون مع هذا المشروع حتى نتمكن من السلطة في تركيا، وبعدئذٍ لن يستطيعوا إزاحتنا، إلا أن حكمة أربكان الذي يعرف مخاطر اللعب مع قوى كبرى في العالم دعته للقول لأردوغان: (إن إدخال الفيل إلى حجرتك ليس كإخراجه، وإذا حاولت إخراجه فإنه سوف يحطّم لك كل محتويات الحجرة)، ولكن الطامع في السلطة والجاه أردوغان خان أستاذه، وذهب بدعم أميركي غربي مطلق للقبول بالمشروع، وتوقيع العقد معهم ومع رفاقه (عبد الله غُل- بولنت ارينتش) وغيرهم ممن أسسوا ما يعرف بـ(حزب العدالة والتنمية) كقاطرة أساسية ومرجعية لحركات الإخوان- والتكفير في العالم من أجل تنفيذ المشروع الأميركي. – قَبِلَ أردوغان العرض لأنه كان مقتنعاً تماماً كما أسرّ لأحد أصدقائه: إن (الديمقراطية هي أداتنا للوصول للأهداف… وإنها مثل القطار يجب أن تعرف متى تركب فيه، وفي أي محطة يجب أن تغادره؟)… مع وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 للسلطة حشدت أميركا له كلّ أدواتها داخل تركيا (مؤسسات فتح الله غولين- الليبيراليين- وحتى بعض اليسار الذي اعتقد أنها فرصة للتخلص من حكم العسكر)، وآنذاك قاد عبد الله غُل الحزب، وتسلم رئاسة الوزراء لفترة من الزمن- ليسلمها لاحقاً لرجب طيب أردوغان- الذي كان يقول: إن (الأحزاب السياسية التقليدية تحولت إلى حكومات، ولكنها لم تصبح الدولة بحد ذاتها، ونحن سوف نبني دولة جديدة، وهذه هي الإمكانية الوحيدة إذا أردت أن تصبح الدولة بحد ذاتها)… وهنا كان بإمكان (غُل) أن يكون ناكراً للجميل مثلاً- وألا يسلم أردوغان رئاسة الحكومة، ويصبح هو وزيراً للخارجية… ولكنه لم يفعل… استخدام أردوغان- انتشار مؤيدي (فتح الله غولين) في مفاصل القضاء، والشرطة، والخدمة المدنية، لينقضّ على العسكر، ونفوذهم، فاخترع معهم قصة (أرغينيكون) والمؤامرة لقلب الحكومة لسجن كل معارضيه ليعترف لاحقاً أن الأدلة ضدهم كانت مفبركة، ويطلق سراحهم، بعد أن بدأ الصراع يظهر بين أردوغان وغولين. دخل أردوغان في عملية بناء الدولة التي سعى لها من خلال الهيمنة على القضاء والتعليم والإعلام وأصبح له مؤسسات اقتصادية يحركها، ومال خليجي يصب في خدمته، وطوّع العسكر والأمن لتنفيذ المشروع الذي كلف به، والذي بموجبه أدخل الفيل إلى حجرته. نكران الجميل لدى أردوغان كان بالانقلاب على حليفه (فتح الله غولين) وملاحقة كوادره في كل مكان، ومصادرة مؤسساته الاقتصادية والمالية، ومحاولة إغلاق وسائل إعلامه وخاصة أنه اتهمه بأنه وراء فضيحة الفساد التي تدين أردوغان وعائلته وحكومته التي كشفت أواخر عام 2013، ونكران الجميل بدا واضحاً عندما استبعد رفيق دربه عبد الله غل من العودة للحزب بعد انتهاء فترة رئاسته، ونكران الجميل واضح باستبعاده لكل مؤسسي الحزب معه ليستفرد هو بكل شيء. نكران الجميل عندما قدم نفسه إسلامياً مؤمناً ليتبين أنه لص فاسد مجرم، وعندما هاجم إسرائيل وتحدث عن فلسطين ليتبين أن بواخر ابنه لم تنقطع عن نقل النفط إلى عسقلان، وأن التبادل التجاري والتعاون العسكري تعزز في عهده. نكران الجميل الأكبر في علاقته مع سورية التي فتحت أبوابها منطلقة من ضرورة التكامل الاقتصادي بين دول وشعوب المنطقة لتحقيق الرفاه للجميع ولكن أردوغان حوّل العلاقة مع الرئيس بشار الأسد من علاقة شخصية حميمية إلى علاقة «عداوة» لتتحول لدى أردوغان إلى «عقدة نفسية» اسمها «الرئيس بشار الأسد» والسبب أن صمود الرئيس الأسد وسورية أسقطا مشروعه العثماني لتتتالى السبحة بسقوطه الحالي. نكران الجميل مفاصله كثيرة وعديدة في حياة «السلطان» الموهوم فقد تنكر لحلفائه وأصدقائه وحتى داعميه معتقداً أن بإمكانه أن ينهض بتركيا على حساب دماء جيرانها وأن بإمكانه أن يحكم تركيا على حساب كل من في الداخل، وأن بإمكانه أن يمد نفوذ العثمانية الجديدة بالكلام المعسول، وبالكذب والنفاق. إن استعراضنا السابق ليس هدفه الشماتة كما حاول بعض الإعلام الخليجي التسويق له، وإن كان من حقي أن أشمت بهذا السفاح- ولكنه للرد المنطقي خارج لغة العاطفة من أن سقوط أردوغان المدوي «ليس لأن نكران الجميل عادة أصيلة لدى الشعوب»، بل لأن أردوغان نفسه أكبر ناكر للجميل، وإذا كانت التجربة التركية مفيدة للجميع كما يشير الإعلام الخليجي، فإن سؤالنا الأساسي هو أن سورية إن شاء الله سوف تنجز نموذجها مستقبلاً- بناء على إرادة شعبها وقراره-، ولكن ماذا عن مملكة آل سعود التي يكتب هؤلاء في صحفها؟ هل بإمكانهم كتابة مقال واحد فقط يتحدثون فيه عن الكيفية التي يستطيع من خلالها شعب شبه الجزيرة العربية التعبير عن رأيه وبأي طريقة من دون إشارة لإرادة صاحب جلالة مصاب بالزهايمر ورؤيته الثاقبة ونكران الجميل لدى الشعوب؟ وهنا تكمن الطامّة الكبرى لدى المرتزقة من هذا الإعلام الذين ينظّرون لنا عن سورية، وتركيا، واليمن ولبنان والعراق ويبقى السؤال مرة أخرى: أجيبونا ماذا عن مملكة القرون الوسطى والشعب الذي يتبع لعائلة متى يحين وقت التغيير وبأي طريقة؟

المصدر : د. بسام أبو عبد الله


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة