أثارت الزيارة الأخيرة التي قام بها الزعيم الكردي مسعود بارزاني للولايات المتحدة الكثير من الجدل في شأن إعلان إقامة دولة كردية، خصوصاً أن الفريق المقرب منه أثار مسبقاً أنه سيطرح موضوع إقامة الدولة الكردية على الرئيس باراك أوباما، بل أن بارزاني نفسه أشار قبيل الزيارة إلى أن الموقف الأميركي قد تغير لجهة الموافقة على إقامة هذه الدولة. غير أن الزيارة انتهت من دون موقف أميركي واضح من هذه القضية، بل شهدنا في الإعلام حرصاً أميركياً على تكرار المواقف السابقة لجهة تأكيد العراق الفيديرالي، علماً أن الموقف الأميركي السابق لم يمنع بارزاني وهو في أميركا من القول أن الدولة الكردية آتية لا محالة، وأنها ستتحقق بالحوار لا بالعنف، وهو ما يوحي أن موضوع الدولة كان حاضراً، وربما لحظة الإعلان عنها لم تكتمل لاعتبارات كثيرة.

في الواقع، لعل الهاجس أو السؤال الأساسي الذي لا يفارق تفكير بارزاني، هو متى إعلان دولة كردية مستقلة؟ فليس خافياً أن الرجل يطمح إلى أن يدخل التاريخ كأول زعيم كردي نجح في إقامة دولة كردية في العصر الحديث بعد أن حرم الأكراد من هذا الحق بسبب الاتفاقات الدولية التي قسمت المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى على مذبح المصالح والتوازنات الدولية. وبارزاني هنا لا ينطلق من مبدأ حق تقرير المصير كحق للشعوب أقرته المواثيق والشرائع الدولية فحسب وإنما من جملة الظروف والتطورات الدراماتيكية التي تشهدها العراق والمنطقة عموما وتطورات العلاقة بين أربيل وبغداد بعد غزو العراق عام 2003 وصولاً إلى التطورات الجارية في المنطقة والتي تشي بإمكان إعادة تأسيسها.

تطورات تؤسس لإعلان دولة

على وقع التطورات الدراماتيكية الجارية في المنطقة، ثمة اقتناع لدى الأكراد يترسخ يوماً بعد آخر بأنهم أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر لتحقيق حلمهم القديم – الجديد. وعليه يمكن القول إن طرح بارزاني لإقامة الدولة الكردية في واشنطن في هذا التوقيت استند إلى جملة من العوامل والأسباب، أهمها:

1- بات الأكراد يشكلون قوة حليفة للولايات المتحدة والغرب عموماً في الحرب ضد تنظيم «داعش»، وبإمكان الولايات المتحدة الاعتماد عليهم في هذه الحرب لتحقيق أهدافها. فعلى الأقل لا يمكن خوض معركة استعادة الموصل من سيطرة «داعش» من دون البيشمركة الذين اثبتوا جدارتهم في القتال، والأكراد هنا يربطون بين الحاجة الأمنية الغربية إليهم والتطلع إلى جلب اعتراف دولي بحقوقهم، مع أن هذا الأمر يثير استفهامات كثيرة في العلاقة التاريخية بين أكراد العراق وواشنطن، ولعل تجربة بارزاني الأب ما زالت حية في الأذهان.

2- نجح إقليم كردستان العراق عملياً في بسط سيطرته على ما كان يعده مناطق متنازعاً عليها مع بغداد ولا سيما كركوك الغنية بالنفط والغاز، ورسمت هذه السيطرة الحدود الجغرافية للإقليم ووفّرت له مورداً مالياً يمكّنه من الاستغناء عن بغداد التي قطعت في عهد نوري المالكي حصة الإقليم من الموازنة وأوقفت رواتب موظفي الإقليم. والحقيقة أن مسار الأحداث الميدانية على الأرض بدأ يرسم خريطة جغرافية هي في مصلحة الهوية الكردية.

3- الانفتاح الغربي والإقليمي على إقليم كردستان العراق، فالإقليم ومن خلال مؤسساته (البرلمان، الحكومة، الجيش...) يتبع سياسة براغماتية نجحت في نسج علاقات مع أميركا وأوروبا، وعلى المستوى الإقليمي مع تركيا والأردن ودول الخليج العربي وإلى حد ما مع إيران. وبفضل هذه السياسة بات الإقليم لاعباً مهماً في المعادلة العراقية والإقليمية خصوصاص أن علاقاته القوية مع بقية القوى في الأجزاء الكردية الأخرى تجعل منه عاملاً مهماً في الأحداث الإقليمية الجارية. وتأسيساً على ما سبق، تتحدث مصادر حزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة بارزاني عن موافقة عشرين دولة حتى الآن على الاعتراف بالدولة الكردية في حال إعلانها، وأن ثمة جهوداً تجرى في لندن وواشنطن وباريس لإخراج مسعى إعلان الدولة إلى النور.

4 – على مستوى مشروعية المطالبة بدولة قومية، يستند الأكراد في مطلبهم هذا إلى جملة من المبادئ الأخلاقية والقانونية والسياسية التي تنص على حق الشعوب في تقرير المصير وتحديد خياراته السياسية. فالكرد الذين يقارب عددهم أربعين مليوناً يعيشون وسط ثلاث قوميات كبرى (العرب، الأتراك، الإيرانيون) ويتساءلون إلى متى سيبقون من دون كيان قومي يجمعهم أسوة بجيرانهم؟ ولسان حال بارزاني يقول اليوم إن الحدود التي رسمها اتفاق سايكس – بيكو انتهت وأن الحدود الجديدة ترسم بالدم كما قال في مقابلة مع «الحياة».

 

 

 

خطوات

كثيراً ما يوصف إقليم كردستان العراق بأنه أكثر من إقليم وأقل من دولة، وهو وصف دقيق، لأن الإقليم الذي جاء كإنجاز سياسي للأكراد نجح في تكريس هذا الحق دستورياً من خلال دستور العراق عام 2005 الذي أقر بأن العراق دولة فيديرالية اتحادية، وهو ما فتح الباب أمام تطور الإقليم سياسياً وإدارياً واقتصادياً وعسكرياً إلى درجة أنه تجاوز المركز وأصبح نموذجاً متقدماً عليه في الأمن والنمو التطور والتعايش الاجتماعي. فالإقليم الذي له حكومة وبرلمان وجيش (قوات البيشمركة)، ونجح في اتباع سياسة براغماتية سمحت له بالانفتاح على الخارج بعيداً عن بغداد، إلى درجة أن علاقاته مع بعض الدول الإقليمية ولا سيما تركيا تطورت أكثر من علاقات بغداد بهذه الدول.

الأمر الثاني هو أن الإقليم مارس سياسة فيها الكثير من الندية تجاه بغداد خلال السنوات الماضية عبر التمسك بحقوق الإقليم إزاء القضايا الخلافية كمصير كركوك والمناطق الحدودية المتنازع عليها والنفط واستثماره وتصديره، وغير ذلك من المسائل الشائكة التي لم تنجح الجهود السياسية في إيجاد حل لها حتى الآن والتي بسببها وصلت العلاقات بين بغداد وأربيل إلى حد الصدام في لحظات كثيرة. واللافت هنا، هو أنه كلما تأزمت العلاقة بين الجانبين تعالت الأصوات الكردية الداعية إلى البحث عن المصير الكردي خارج العراق حتى لو وضع البعض هذا الخيار في خانة الانفصال. فمستوى العلاقة بين الجانبين وتوافر الموارد الاقتصادية من نفط وغاز ومياه ووجود علاقات قوية مع الخارج وتجربة محلية ناجحة نسبياً، فضلاً عن تعاظم الروح القومية الكردية في ظل التطورات العاصفة التي تشهدها المنطقة، كل هذه المعطيات تشكل عوامل مشجعة للسير في التأسيس للدولة الكردية وإعلانها في الظرف المناسب في ظل انشغال الدول الإقليمية بقضاياها الخاصة.

في الواقع، مع تأكيد عدم وجود خطة كردية واضحة بخصوص مسألة إعلان الدولة، يمكن التحدّث عن مجموعة من الخيارات على شكل مفاضلة في البحث عن الأفضل والممكن. ولعل أهم هذه الخيارات:

- خيار التوجه إلى الأمم المتحدة لنيل الاعتراف الأممي بالدولة الكردية على غرار تجربة السلطة الفلسطينية.

- خيار الاستفتاء بالاتفاق مع المركز على غرار تجربة دولة جنوب السودان.

- خيار إعلان إقامة الدولة الكردية من طرف واحد عبر إصدار البيان الأول الخاص بالاستقلال.

 

- خيار إجراء استفتاء في الإقليم على الاستقلال في إطار ممارسة حق تقرير المصير يكون مدخلا لإعلان الدولة المستقلة.

تبدو كل هذه الخيارات مطروحة أمام الأكراد، ولعل لكل خيار فيه من السلبيات والإيجابيات التي تؤخذ في الاعتبار لجهة الحسابات والنتائج، فخيار الذهاب إلى الأمم المتحدة قد لا يكون مجدياً نظراً إلى عدد الدول العربية والإسلامية التي قد تقف ضده، من دون أن يعني هذا عدم وجود تعاطف إنساني من هذه الدول مع القضية الكردية. وخيار جنوب السودان قد لا يحظى بموافقة أميركية كما جرى مع جوبا نظراً إلى علاقات واشنطن القوية بعدد من دول المنطقة، ولا سيما تركيا التي تخشى قيام دولة كردية في المنطقة وإن خارج أراضيها. كما أن خيار إعلان الاستقلال من طرف واحد قد يفجر الصراع مع بغداد ويأتي بالعداوة الإقليمية والعزلة، بما يجعل كل ذلك من الدولة الوليدة في محيط متوتر وعدائي.

من الواضح، أن ثمة مشكلات عقبات كثيرة تعترض طريق الدولة الكردية المستقلة على رغم كل المقدمات والعوامل والظروف الإيجابية التي تحققت، وهي مشكلات وعقبات تطرح تحديات أمام الأكراد في تطلعهم التاريخي والمستقبلي إلى الدولة، تتلخص في كيفية إقامة الدولة الكردية من دون الصدام مع دول المنطقة وأنظمتها التي بنت سياستها على عدم إقامة هذه الدولة. وبارزاني في إدراكه لهذه الظروف يعتقد أن مفتاح الدولة الكردية هو في واشنطن، نظراً إلى نفوذها الكبير في المنطقة، ولدورها على الساحة العالمية وتأثيرها في قرارات الدول، ونفوذها في المنظمات الدولية، بالتالي قدرتها على إنجاح أي قرار أو إفشاله. وهو في موازنته للظروف والمصالح والسياسات، يدرك أن الانفتاح الأميركي على الأكراد لم يصل إلى حد التعامل مع الشأن الكردي كقضية شعب يطالب بالاستقلال بقدر ما يندرج في إطار الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة وموقع الأكراد في هذه الاستراتيجية التي تتحكم فيها مصالح واشنطن مع الحليفة تركيا، وهي مصالح تتجاوز فوائد العلاقة مع الأكراد. لكن بارزاني يدرك أيضاً أن الاستراتيجية الأميركية تجاه العراق رسمت على أرض الواقع ملامح أو مسار ثلاث دول في العراق، وهي سياسة دشنها عمليا نائب الرئيس الأميركي جو بايدن عندما طرح تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم هي عبارة عن ثلاث دول أقرب إلى النظام الكونفيديرالي منه إلى الفيديرالي المعمول به حالياً. وفي هذا السياق، فإن مشروع القرار الأخير المعروض على الكونغرس والذي ينص على دعم البيشمركة والعشائر السنية كطرفين مستقلين بمعزل عن موافقة الحكومة العراقية، يشكل نقطة مهمة في مسيرة الاعتراف الأميركي باستقلال إقليم كردستان. ولعل عدم موافقة النواب الأكراد في البرلمان العراقي على رفض مشروع الكونغرس الأميركي يأتي تعبيراً عن طموح الاستقلال. ومن الجائز القول إن زيارة بارزاني في هذا التوقيت تنبع من اقتناعه بأن الإدارة الأميركية باتت مهيأة أكثر من أي وقت مضى للاعتراف بالدولة الكردية في حال إعلانها، وعلى أقل تقدير، وضع مصير كردستان على طاولة البحث في البيت الأبيض، ليبقى السؤال هل سينال بارزاني الدولة الكردية من أوباما قبل أن يغادر البيت الأبيض في نهاية ولايته الثانية؟

  

  • فريق ماسة
  • 2015-05-24
  • 10182
  • من الأرشيف

بارزاني والدولة الكردية... المفتاح في واشنطن

أثارت الزيارة الأخيرة التي قام بها الزعيم الكردي مسعود بارزاني للولايات المتحدة الكثير من الجدل في شأن إعلان إقامة دولة كردية، خصوصاً أن الفريق المقرب منه أثار مسبقاً أنه سيطرح موضوع إقامة الدولة الكردية على الرئيس باراك أوباما، بل أن بارزاني نفسه أشار قبيل الزيارة إلى أن الموقف الأميركي قد تغير لجهة الموافقة على إقامة هذه الدولة. غير أن الزيارة انتهت من دون موقف أميركي واضح من هذه القضية، بل شهدنا في الإعلام حرصاً أميركياً على تكرار المواقف السابقة لجهة تأكيد العراق الفيديرالي، علماً أن الموقف الأميركي السابق لم يمنع بارزاني وهو في أميركا من القول أن الدولة الكردية آتية لا محالة، وأنها ستتحقق بالحوار لا بالعنف، وهو ما يوحي أن موضوع الدولة كان حاضراً، وربما لحظة الإعلان عنها لم تكتمل لاعتبارات كثيرة. في الواقع، لعل الهاجس أو السؤال الأساسي الذي لا يفارق تفكير بارزاني، هو متى إعلان دولة كردية مستقلة؟ فليس خافياً أن الرجل يطمح إلى أن يدخل التاريخ كأول زعيم كردي نجح في إقامة دولة كردية في العصر الحديث بعد أن حرم الأكراد من هذا الحق بسبب الاتفاقات الدولية التي قسمت المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى على مذبح المصالح والتوازنات الدولية. وبارزاني هنا لا ينطلق من مبدأ حق تقرير المصير كحق للشعوب أقرته المواثيق والشرائع الدولية فحسب وإنما من جملة الظروف والتطورات الدراماتيكية التي تشهدها العراق والمنطقة عموما وتطورات العلاقة بين أربيل وبغداد بعد غزو العراق عام 2003 وصولاً إلى التطورات الجارية في المنطقة والتي تشي بإمكان إعادة تأسيسها. تطورات تؤسس لإعلان دولة على وقع التطورات الدراماتيكية الجارية في المنطقة، ثمة اقتناع لدى الأكراد يترسخ يوماً بعد آخر بأنهم أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر لتحقيق حلمهم القديم – الجديد. وعليه يمكن القول إن طرح بارزاني لإقامة الدولة الكردية في واشنطن في هذا التوقيت استند إلى جملة من العوامل والأسباب، أهمها: 1- بات الأكراد يشكلون قوة حليفة للولايات المتحدة والغرب عموماً في الحرب ضد تنظيم «داعش»، وبإمكان الولايات المتحدة الاعتماد عليهم في هذه الحرب لتحقيق أهدافها. فعلى الأقل لا يمكن خوض معركة استعادة الموصل من سيطرة «داعش» من دون البيشمركة الذين اثبتوا جدارتهم في القتال، والأكراد هنا يربطون بين الحاجة الأمنية الغربية إليهم والتطلع إلى جلب اعتراف دولي بحقوقهم، مع أن هذا الأمر يثير استفهامات كثيرة في العلاقة التاريخية بين أكراد العراق وواشنطن، ولعل تجربة بارزاني الأب ما زالت حية في الأذهان. 2- نجح إقليم كردستان العراق عملياً في بسط سيطرته على ما كان يعده مناطق متنازعاً عليها مع بغداد ولا سيما كركوك الغنية بالنفط والغاز، ورسمت هذه السيطرة الحدود الجغرافية للإقليم ووفّرت له مورداً مالياً يمكّنه من الاستغناء عن بغداد التي قطعت في عهد نوري المالكي حصة الإقليم من الموازنة وأوقفت رواتب موظفي الإقليم. والحقيقة أن مسار الأحداث الميدانية على الأرض بدأ يرسم خريطة جغرافية هي في مصلحة الهوية الكردية. 3- الانفتاح الغربي والإقليمي على إقليم كردستان العراق، فالإقليم ومن خلال مؤسساته (البرلمان، الحكومة، الجيش...) يتبع سياسة براغماتية نجحت في نسج علاقات مع أميركا وأوروبا، وعلى المستوى الإقليمي مع تركيا والأردن ودول الخليج العربي وإلى حد ما مع إيران. وبفضل هذه السياسة بات الإقليم لاعباً مهماً في المعادلة العراقية والإقليمية خصوصاص أن علاقاته القوية مع بقية القوى في الأجزاء الكردية الأخرى تجعل منه عاملاً مهماً في الأحداث الإقليمية الجارية. وتأسيساً على ما سبق، تتحدث مصادر حزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة بارزاني عن موافقة عشرين دولة حتى الآن على الاعتراف بالدولة الكردية في حال إعلانها، وأن ثمة جهوداً تجرى في لندن وواشنطن وباريس لإخراج مسعى إعلان الدولة إلى النور. 4 – على مستوى مشروعية المطالبة بدولة قومية، يستند الأكراد في مطلبهم هذا إلى جملة من المبادئ الأخلاقية والقانونية والسياسية التي تنص على حق الشعوب في تقرير المصير وتحديد خياراته السياسية. فالكرد الذين يقارب عددهم أربعين مليوناً يعيشون وسط ثلاث قوميات كبرى (العرب، الأتراك، الإيرانيون) ويتساءلون إلى متى سيبقون من دون كيان قومي يجمعهم أسوة بجيرانهم؟ ولسان حال بارزاني يقول اليوم إن الحدود التي رسمها اتفاق سايكس – بيكو انتهت وأن الحدود الجديدة ترسم بالدم كما قال في مقابلة مع «الحياة».       خطوات كثيراً ما يوصف إقليم كردستان العراق بأنه أكثر من إقليم وأقل من دولة، وهو وصف دقيق، لأن الإقليم الذي جاء كإنجاز سياسي للأكراد نجح في تكريس هذا الحق دستورياً من خلال دستور العراق عام 2005 الذي أقر بأن العراق دولة فيديرالية اتحادية، وهو ما فتح الباب أمام تطور الإقليم سياسياً وإدارياً واقتصادياً وعسكرياً إلى درجة أنه تجاوز المركز وأصبح نموذجاً متقدماً عليه في الأمن والنمو التطور والتعايش الاجتماعي. فالإقليم الذي له حكومة وبرلمان وجيش (قوات البيشمركة)، ونجح في اتباع سياسة براغماتية سمحت له بالانفتاح على الخارج بعيداً عن بغداد، إلى درجة أن علاقاته مع بعض الدول الإقليمية ولا سيما تركيا تطورت أكثر من علاقات بغداد بهذه الدول. الأمر الثاني هو أن الإقليم مارس سياسة فيها الكثير من الندية تجاه بغداد خلال السنوات الماضية عبر التمسك بحقوق الإقليم إزاء القضايا الخلافية كمصير كركوك والمناطق الحدودية المتنازع عليها والنفط واستثماره وتصديره، وغير ذلك من المسائل الشائكة التي لم تنجح الجهود السياسية في إيجاد حل لها حتى الآن والتي بسببها وصلت العلاقات بين بغداد وأربيل إلى حد الصدام في لحظات كثيرة. واللافت هنا، هو أنه كلما تأزمت العلاقة بين الجانبين تعالت الأصوات الكردية الداعية إلى البحث عن المصير الكردي خارج العراق حتى لو وضع البعض هذا الخيار في خانة الانفصال. فمستوى العلاقة بين الجانبين وتوافر الموارد الاقتصادية من نفط وغاز ومياه ووجود علاقات قوية مع الخارج وتجربة محلية ناجحة نسبياً، فضلاً عن تعاظم الروح القومية الكردية في ظل التطورات العاصفة التي تشهدها المنطقة، كل هذه المعطيات تشكل عوامل مشجعة للسير في التأسيس للدولة الكردية وإعلانها في الظرف المناسب في ظل انشغال الدول الإقليمية بقضاياها الخاصة. في الواقع، مع تأكيد عدم وجود خطة كردية واضحة بخصوص مسألة إعلان الدولة، يمكن التحدّث عن مجموعة من الخيارات على شكل مفاضلة في البحث عن الأفضل والممكن. ولعل أهم هذه الخيارات: - خيار التوجه إلى الأمم المتحدة لنيل الاعتراف الأممي بالدولة الكردية على غرار تجربة السلطة الفلسطينية. - خيار الاستفتاء بالاتفاق مع المركز على غرار تجربة دولة جنوب السودان. - خيار إعلان إقامة الدولة الكردية من طرف واحد عبر إصدار البيان الأول الخاص بالاستقلال.   - خيار إجراء استفتاء في الإقليم على الاستقلال في إطار ممارسة حق تقرير المصير يكون مدخلا لإعلان الدولة المستقلة. تبدو كل هذه الخيارات مطروحة أمام الأكراد، ولعل لكل خيار فيه من السلبيات والإيجابيات التي تؤخذ في الاعتبار لجهة الحسابات والنتائج، فخيار الذهاب إلى الأمم المتحدة قد لا يكون مجدياً نظراً إلى عدد الدول العربية والإسلامية التي قد تقف ضده، من دون أن يعني هذا عدم وجود تعاطف إنساني من هذه الدول مع القضية الكردية. وخيار جنوب السودان قد لا يحظى بموافقة أميركية كما جرى مع جوبا نظراً إلى علاقات واشنطن القوية بعدد من دول المنطقة، ولا سيما تركيا التي تخشى قيام دولة كردية في المنطقة وإن خارج أراضيها. كما أن خيار إعلان الاستقلال من طرف واحد قد يفجر الصراع مع بغداد ويأتي بالعداوة الإقليمية والعزلة، بما يجعل كل ذلك من الدولة الوليدة في محيط متوتر وعدائي. من الواضح، أن ثمة مشكلات عقبات كثيرة تعترض طريق الدولة الكردية المستقلة على رغم كل المقدمات والعوامل والظروف الإيجابية التي تحققت، وهي مشكلات وعقبات تطرح تحديات أمام الأكراد في تطلعهم التاريخي والمستقبلي إلى الدولة، تتلخص في كيفية إقامة الدولة الكردية من دون الصدام مع دول المنطقة وأنظمتها التي بنت سياستها على عدم إقامة هذه الدولة. وبارزاني في إدراكه لهذه الظروف يعتقد أن مفتاح الدولة الكردية هو في واشنطن، نظراً إلى نفوذها الكبير في المنطقة، ولدورها على الساحة العالمية وتأثيرها في قرارات الدول، ونفوذها في المنظمات الدولية، بالتالي قدرتها على إنجاح أي قرار أو إفشاله. وهو في موازنته للظروف والمصالح والسياسات، يدرك أن الانفتاح الأميركي على الأكراد لم يصل إلى حد التعامل مع الشأن الكردي كقضية شعب يطالب بالاستقلال بقدر ما يندرج في إطار الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة وموقع الأكراد في هذه الاستراتيجية التي تتحكم فيها مصالح واشنطن مع الحليفة تركيا، وهي مصالح تتجاوز فوائد العلاقة مع الأكراد. لكن بارزاني يدرك أيضاً أن الاستراتيجية الأميركية تجاه العراق رسمت على أرض الواقع ملامح أو مسار ثلاث دول في العراق، وهي سياسة دشنها عمليا نائب الرئيس الأميركي جو بايدن عندما طرح تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم هي عبارة عن ثلاث دول أقرب إلى النظام الكونفيديرالي منه إلى الفيديرالي المعمول به حالياً. وفي هذا السياق، فإن مشروع القرار الأخير المعروض على الكونغرس والذي ينص على دعم البيشمركة والعشائر السنية كطرفين مستقلين بمعزل عن موافقة الحكومة العراقية، يشكل نقطة مهمة في مسيرة الاعتراف الأميركي باستقلال إقليم كردستان. ولعل عدم موافقة النواب الأكراد في البرلمان العراقي على رفض مشروع الكونغرس الأميركي يأتي تعبيراً عن طموح الاستقلال. ومن الجائز القول إن زيارة بارزاني في هذا التوقيت تنبع من اقتناعه بأن الإدارة الأميركية باتت مهيأة أكثر من أي وقت مضى للاعتراف بالدولة الكردية في حال إعلانها، وعلى أقل تقدير، وضع مصير كردستان على طاولة البحث في البيت الأبيض، ليبقى السؤال هل سينال بارزاني الدولة الكردية من أوباما قبل أن يغادر البيت الأبيض في نهاية ولايته الثانية؟   

المصدر : خورشيد دلي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة