ـ بعيدا عن ضوضاء المدن وصخب الشوارع، تتواجد مقابر قتلى الحرب العالمية الثانية (1939-1945) على مرتقعات ومنخفضات جبال محافظة باجة، جامعة بين منتمين للديانات الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، في تلاقٍ قلما يحدث في العصر الحديث.

تلك المقابر المسماه بـ”مقابر الكومنولث” الواقعة في مناطق “وادي الزرقاء”، و”مجاز الباب”، بمحافظة باجة، وأيضا في منطقة “النفيضة”، بمحافظة سوسة (شرق)، تعكس كيف كانت أوزار هذه الحرب ثقيلة، وخواتيمها أقل ما توصف بأنها “بشعة”.

وفي طريق زراعي شديد الانحدار، تتواجد مقبرة وادي الزرقة، حيث يطوق سور من الحديد مقابر تضم رفات جنود مسلمين ومسيحيين، تصطف بالطول والعرض في تساو، وتظللها أشجار الزيتون متوسطة الطول، كما يشرف عليها نصب الصليب الذي يرتفع لأكثر من 3 أمتار. وعلى مرمى البصر تحيط مياه الوادي بالمقبرة، وفق مراسل “الأناضول”.

وعلى امتداد نفس الطريق، تقع مقبرة “مجاز الباب”، في شكل يخطف الأبصار، حيث تمتد مقابر الجنود المسيحيين واليهود، بالطول تتوسطها أشجار طويلة يحتمي بها الزوار من حرارة الشمس وكذلك الأمطار.

ولحفظ جمال الجنان، تخصص  ادارة المقابر عمالا يسهرون على سقاية الزهور والنباتات أمام كل قبر، وتحرسه وتقدم العون لكل زائر، باحثا كان عن سر تواجد المقبرة، أو فضوليا جذبه سحر المكان.

في مقبرة مجاز الباب التي تضم قرابة 2906 أضرحة (منهم 13 يهوديا)، يرقد جنود مسيحيون ويهود جنبا لجنب بينما تضم مقبرة وادي الزرقاء رفات 347 من بينهم 6 مسلمين من الهند، داخل سور واحد يشرف على مياه الوادي المتاخم. فيما تضم مقبرة النفيضة (شرق) مسلمين وكنديين واستراليين، ونيوزيلنديين وهنود.

وتعد هذه المقابر التي أنشأتها وتشرف على إدارتها هيئة الكومنولث لمقابر الحرب، مزارا سنويا لعائلات بريطانية كانت فقدت أفرادا لها خلال الحرب، وكذلك من قبل الباحثين في التاريخ المعاصر، تنقيبا عن تفاصيل لتلك الحقبة الزمنية من التاريخ المعاصر، إضافة إلى أن عدد من السفراء والبعثات الدبلوماسية تقوم سنويا في شهر نوفمبر / تشرين الثاني بزيارات رسمية للمقابر.

وتتميز الهندسة المعمارية لهذه المقابر بالتفرد حيث تتوسط الأشجار مساحة المقبرة في حين تنتصب الأضرحة، التي نحت على كل منها اسم وتاريخ الجندي والفيلق الذي كان ينتمي إليه، يمينا وشمالا في تناسق وانسجام تام، وتكسو المنطقة المحيطة بها أعشاب خضراء مقلمة وورود يانعة تحظى بالرعاية اليومية من قبل حراسها وكان قد صممها وفقا لما كتب على لوحة جدارية مهندس معماري يدعى سو/ هيوبرت ورثنجتون.

 

 وتعتبر “معركة تونس″ أهم المعارك التي دارت رحاها بالبلاد، حيث بدأت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1942، وامتدت إلى مايو / أيار1943 وشارك فيها أكثر من 190 ألف جندي من قوات المحور (ألمان وايطاليين)، وحوالي 300 ألف من قوات الحلفاء (بريطانيين وفرنسيين وأمريكيين) .

بدأت المعركة فعليا في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 1942 عندما قام الحلفاء بإنزال بالمغرب والجزائر فيما قام الألمان والايطاليين بتعزيز تواجدهما في بنزرت وتونس. وفي 7 مايو /أيار 1943، تمكنت جيوش الحلفاء من السيطرة على مدينتي تونس وبنزرت، قبل أن يعلن قائد الجيش الألماني استسلامه، وسقط أكثر من 200 ألف جندي ألماني في الأسر.

 “معركة تونس″ خلّفت حوالي 60 ألف قتيل وجريح أو مفقود من بين جنود الحلفاء. وتوجد في تونس أكثر من 10 مقابر لقتلى الحرب العالمية الثانية من جنود الحلفاء وحتى الألمان والايطاليين.

ومثلت “معركة تونس″ علامة فارقة في سير الحرب العالمية الثانية وذلك لأسباب عديدة، أولها قرب تونس من إيطاليا واطلالتها على مضيق صقلية، يسمح بالسيطرة ومراقبة الملاحة البحرية، إضافة إلى أن عملية تزويد جيوش الحلفاء بالدعم، انطلاقا من مينائي بنزرت ( شمال) وتونس لا يستغرق أكثر من ليلة، وهو ما يمكن من الافلات من مراقبة جيوش المحور. أما ثالث الأسباب، فتتمثل في أن “معركة تونس″ مثلت انطلاقة لمرحلة الحملة الايطالية والتي بدأ فيها تراجع قوات المحور وانهيار النظام الفاشي بإيطاليا.

بدوره، يقول المؤرخ التونسي فيصل الشريف عن انتماء الجنود القتلى لخلفيات دينية مختلفة: ‘”عندما قاموا (دول الحلفاء ) بعملية التجنيد في حملة أفريقيا التي قادها الجنرال مونت قومري بالفيلق الثامن، كانت تركيبة الجيش تضم جنود من دول الكومنولث،وهي كل من بريطانيا واستراليا والهند ونيوزلندا”.

ويتابع الباحث في المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر (حكومي)، بالقول إن “أي جندي تابع للكومنولث يقع دفنه داخل المقابر بحكم الانتماء لبريطانيا، وتغيب هنا التفرقة بين الدين والجنس والانتماء العرقي، لأنهم تحت لواء الفيلق الثامن البريطاني”.

قبل أن يمضي قائلا: “العقيدة العسكرية تفرض أن تدافع عن البلد، لا عن العقيدة الدينية”.

ووفق المؤرخ التونسي، تتواجد في تونس “مقابر الكومنولث”، و”مقابر الأمريكيين”، و”مقابر الفرنسيين”، و”مقابر الألمان والايطاليين”، وتتركز أساسا في شمال البلاد والعاصمة.



  • فريق ماسة
  • 2015-05-04
  • 7030
  • من الأرشيف

“مقابر الكومنولث” في تونس .. حيث يرقد المسلم والمسيحي واليهودي بسلام

ـ بعيدا عن ضوضاء المدن وصخب الشوارع، تتواجد مقابر قتلى الحرب العالمية الثانية (1939-1945) على مرتقعات ومنخفضات جبال محافظة باجة، جامعة بين منتمين للديانات الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، في تلاقٍ قلما يحدث في العصر الحديث. تلك المقابر المسماه بـ”مقابر الكومنولث” الواقعة في مناطق “وادي الزرقاء”، و”مجاز الباب”، بمحافظة باجة، وأيضا في منطقة “النفيضة”، بمحافظة سوسة (شرق)، تعكس كيف كانت أوزار هذه الحرب ثقيلة، وخواتيمها أقل ما توصف بأنها “بشعة”. وفي طريق زراعي شديد الانحدار، تتواجد مقبرة وادي الزرقة، حيث يطوق سور من الحديد مقابر تضم رفات جنود مسلمين ومسيحيين، تصطف بالطول والعرض في تساو، وتظللها أشجار الزيتون متوسطة الطول، كما يشرف عليها نصب الصليب الذي يرتفع لأكثر من 3 أمتار. وعلى مرمى البصر تحيط مياه الوادي بالمقبرة، وفق مراسل “الأناضول”. وعلى امتداد نفس الطريق، تقع مقبرة “مجاز الباب”، في شكل يخطف الأبصار، حيث تمتد مقابر الجنود المسيحيين واليهود، بالطول تتوسطها أشجار طويلة يحتمي بها الزوار من حرارة الشمس وكذلك الأمطار. ولحفظ جمال الجنان، تخصص  ادارة المقابر عمالا يسهرون على سقاية الزهور والنباتات أمام كل قبر، وتحرسه وتقدم العون لكل زائر، باحثا كان عن سر تواجد المقبرة، أو فضوليا جذبه سحر المكان. في مقبرة مجاز الباب التي تضم قرابة 2906 أضرحة (منهم 13 يهوديا)، يرقد جنود مسيحيون ويهود جنبا لجنب بينما تضم مقبرة وادي الزرقاء رفات 347 من بينهم 6 مسلمين من الهند، داخل سور واحد يشرف على مياه الوادي المتاخم. فيما تضم مقبرة النفيضة (شرق) مسلمين وكنديين واستراليين، ونيوزيلنديين وهنود. وتعد هذه المقابر التي أنشأتها وتشرف على إدارتها هيئة الكومنولث لمقابر الحرب، مزارا سنويا لعائلات بريطانية كانت فقدت أفرادا لها خلال الحرب، وكذلك من قبل الباحثين في التاريخ المعاصر، تنقيبا عن تفاصيل لتلك الحقبة الزمنية من التاريخ المعاصر، إضافة إلى أن عدد من السفراء والبعثات الدبلوماسية تقوم سنويا في شهر نوفمبر / تشرين الثاني بزيارات رسمية للمقابر. وتتميز الهندسة المعمارية لهذه المقابر بالتفرد حيث تتوسط الأشجار مساحة المقبرة في حين تنتصب الأضرحة، التي نحت على كل منها اسم وتاريخ الجندي والفيلق الذي كان ينتمي إليه، يمينا وشمالا في تناسق وانسجام تام، وتكسو المنطقة المحيطة بها أعشاب خضراء مقلمة وورود يانعة تحظى بالرعاية اليومية من قبل حراسها وكان قد صممها وفقا لما كتب على لوحة جدارية مهندس معماري يدعى سو/ هيوبرت ورثنجتون.    وتعتبر “معركة تونس″ أهم المعارك التي دارت رحاها بالبلاد، حيث بدأت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1942، وامتدت إلى مايو / أيار1943 وشارك فيها أكثر من 190 ألف جندي من قوات المحور (ألمان وايطاليين)، وحوالي 300 ألف من قوات الحلفاء (بريطانيين وفرنسيين وأمريكيين) . بدأت المعركة فعليا في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 1942 عندما قام الحلفاء بإنزال بالمغرب والجزائر فيما قام الألمان والايطاليين بتعزيز تواجدهما في بنزرت وتونس. وفي 7 مايو /أيار 1943، تمكنت جيوش الحلفاء من السيطرة على مدينتي تونس وبنزرت، قبل أن يعلن قائد الجيش الألماني استسلامه، وسقط أكثر من 200 ألف جندي ألماني في الأسر.  “معركة تونس″ خلّفت حوالي 60 ألف قتيل وجريح أو مفقود من بين جنود الحلفاء. وتوجد في تونس أكثر من 10 مقابر لقتلى الحرب العالمية الثانية من جنود الحلفاء وحتى الألمان والايطاليين. ومثلت “معركة تونس″ علامة فارقة في سير الحرب العالمية الثانية وذلك لأسباب عديدة، أولها قرب تونس من إيطاليا واطلالتها على مضيق صقلية، يسمح بالسيطرة ومراقبة الملاحة البحرية، إضافة إلى أن عملية تزويد جيوش الحلفاء بالدعم، انطلاقا من مينائي بنزرت ( شمال) وتونس لا يستغرق أكثر من ليلة، وهو ما يمكن من الافلات من مراقبة جيوش المحور. أما ثالث الأسباب، فتتمثل في أن “معركة تونس″ مثلت انطلاقة لمرحلة الحملة الايطالية والتي بدأ فيها تراجع قوات المحور وانهيار النظام الفاشي بإيطاليا. بدوره، يقول المؤرخ التونسي فيصل الشريف عن انتماء الجنود القتلى لخلفيات دينية مختلفة: ‘”عندما قاموا (دول الحلفاء ) بعملية التجنيد في حملة أفريقيا التي قادها الجنرال مونت قومري بالفيلق الثامن، كانت تركيبة الجيش تضم جنود من دول الكومنولث،وهي كل من بريطانيا واستراليا والهند ونيوزلندا”. ويتابع الباحث في المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر (حكومي)، بالقول إن “أي جندي تابع للكومنولث يقع دفنه داخل المقابر بحكم الانتماء لبريطانيا، وتغيب هنا التفرقة بين الدين والجنس والانتماء العرقي، لأنهم تحت لواء الفيلق الثامن البريطاني”. قبل أن يمضي قائلا: “العقيدة العسكرية تفرض أن تدافع عن البلد، لا عن العقيدة الدينية”. ووفق المؤرخ التونسي، تتواجد في تونس “مقابر الكومنولث”، و”مقابر الأمريكيين”، و”مقابر الفرنسيين”، و”مقابر الألمان والايطاليين”، وتتركز أساسا في شمال البلاد والعاصمة. 

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة