للمرة الثانية خلال عامين تقريباً، يصل سعر صرف الدولار إلى عتبة الـ 300 ليرة، في المرة الأولى كان الانخفاض مفاجئاً و«وهمياً»، أما اليوم فالانخفاض كان متدرجاً، وإن نجح التدخل فلن يكون المكسب أكثر من بضع ليرات

حال السوريين هذه الأيام مع سعر الصرف يقول: «رضينا بالبين، والبين ما رضي فينا»، ففي كل مرة يتراجع فيها سعر صرف الليرة إلى مستوى جديد، تكون جل أمنيات السوريين أن يعود السعر إلى المستوى السابق ويثبت عليه، فعلى الأقل لن يكونوا عرضة لموجة غلاء جديدة في الأسواق المحلية، وفقدان ما تبقى من القيمة الشرائية لمدخراتهم ودخولهم الشهرية، لكن طيلة ثلاث سنوات كانت «الرياح تجري بما لا تشتهي السفن» رغم ملايين الدولارات التي كان يطرحها المصرف المركزي في سوق القطع تحت لافتة «التدخل الإيجابي».

ويبدو أن هذا الوضع لن يشهد تغيراً ملحوظاً مع رقم الانخفاض الجديد الذي حققه سعر الصرف الأسبوع الماضي ولامس من خلاله عتبة الـ 300 ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء، بدليل مرور عدة أيام على عقد المصرف المركزي لجلسة تدخل خصص لها نحو 200 مليون دولار، دون أن يؤدي ذلك إلى تحسن واضح في سعر صرف الليرة. وحتى مع إعلان «المركزي» أمس تدخله يومياً في سوق القطع، فإن ذلك برأي عميد كلية العلوم الإدارية في جامعة «الشام» الخاصة، الدكتور عابد فضلية، «لن يحمل نتائج إيجابية، وإن حدث فستكون نتائج محدودة ولفترة قصيرة، بالنظر إلى أن إعلانات التدخل السابقة غالباً ما كانت إعلامية لا أكثر ولا أقل».

ويضيف في تصريحه لـ«الأخبار» أنّ «المركزي» لو كان يقصد تدخلاً يومياً فعالاً، «لكانت السوق السوداء قد أصيبت برعب حقيقي، ولكان سعر صرف الدولار قد فقد 10% من قيمته بمجرد الإعلان عن ذلك، لكن يبدو أن المؤثرين في سوق الصرف السوداء يدركون أن الحديث عن التدخل ليس أكثر من تصريحات».

تتباين التقديرات حول حجم ما تحتاج اليه السوق المحلية من قطع أجنبي سواء للأغراض التجارية أو غير التجارية، وذلك نتيجة عدم وجود رقم رسمي معلن من قبل المصرف المركزي، إلا أن الاستراتيجية المعلنة مؤخراً من قبل وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، والمتعلقة بتوجهاته لإدارة ملف التجارة الخارجية، أشارت إلى أن قيمة إجازات الاستيراد التي توافق عليها الوزارة تراوح قيمتها يومياً ما بين 14 و17 مليون يورو، وهي تشمل إجازات الاستيراد المنفذة وغير المنفذة، ووفق بيانات وزارة الاقتصاد فإن المصرف المركزي يمول من قيمة إجازات الاستيراد ما بين 10-12% فقط.

من جانبه، يقدر الأستاذ في قسم المصارف في جامعة دمشق الدكتور علي كنعان بأن حجم احتياجات السوق الداخلية من القطع الأجنبي يصل إلى نحو 15 مليون دولار يومياً، مشيراً في حديثه لـ«الأخبار» إلى أن الحوالات والمساعدات الخارجية التي ترد إلى سوريا يومياً عبر شركات الصرافة والحوالات المالية تراوح قيمتها ما بين 7-8 ملايين دولار، الأمر الذي يعني أن حجم العجز اليومي يصل إلى نحو 7 ملايين دولار.

وعليه فإن جميع آراء الاقتصاديين تلتقي حول أهمية قيام المصرف المركزي بتمويل إجازات الاستيراد عبر المصارف الوطنية المرخصة من جهة، وأن يكون تدخله في السوق عند اللزوم سرياً وبعيداً عن شركات ومكاتب الصرافة التي أثبت تجربة ثلاث سنوات أن بعضها كان يضارب على الليرة وبعضها الآخر كان عبارة عن قناة يتسرب من خلالها الدولار «الرسمي» إلى شريحة من المواطنين، وهؤلاء كان بعضهم يعيد بيعها لاحقاً في السوق السوداء. ولذلك يصر كنعان على ضرورة تغيير المصرف المركزي لسياسة التدخل التي ينتهجها، إذ إن استمراره في الاعتماد على شركات ومكاتب الصرافة، وتخصيصه مبالغ معينة لبيعها للمواطنين العاديين مقابل إحجامه عن تمويل مستوردات بعض التجار، يعنيان أن انخفاض سعر صرف الليرة لن يتوقف عند عتبة الـ300 ليرة، موضحاً أن ترشيد المستوردات فتح الباب واسعاً أمام تنامي ظاهرة التهريب، التي هي الأخرى تمثل في النهاية ضغطاً إضافياً على سعر الصرف.

وإلى جانب أولوية تمويل طلبات المستوردين وتسهيل إجراءاتها وشفافيتها، يطرح الدكتور فضلية أولوية أخرى تتمثل «بضرورة تلبية احتياجات المواطنين من القطع لغايات السفر والعلاج والدراسة وغيرها، وهذه كانت تقدر قبل الأزمة بنحو 3 ملايين دولار، ورغم أن المركزي يتيح للمواطنين وعبر شركات الصرافة شراء مبالغ معينة من القطع، إلا أنها محددة ولا تناسب احتياجات هؤلاء».

 

قروض بالعملات الأجنبية

 

وأمام محدودية مصادر القطع الأجنبي بعد توقف صادرات النفط وتراجع الصادرات الأخرى بنسب كبيرة وتبخر إيرادات القطاع السياحي، يتساءل البعض عن «مشروعية» استعانة المصرف المركزي بالاحتياطي الوطني من القطع الأجنبي للتدخل في السوق وتثبيت سعر الصرف، وإلى أي حد يمكنه فعل ذلك؟

يرفض الأستاذ الدكتور إلياس نجمة فكرة التصرف بالاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، فهو «يمثل قوة رادعة للمضاربين تجب المحافظة عليه وزيادته، وتجنب استخدامه في التدخل بسوق الصرف إلا للضرورة القصوى ولفترة قصيرة جداً، وذلك بفاعلية كبيرة وسرية مطلقة». ويضيف في حديثه لـ«الأخبار» أن «التجربة النقدية التاريخية دلت على أن سلبيات التدخل أحيانا أكبر من ايجابياته، كما أن إيجابياته مؤقتة وسلبياته دائمة، لأنه يمثل اعترافاً صريحاً بضعف قيمة العملة الوطنية، كما يفقد صانع القرار النقدي قوة الردع التي يوفرها له الاحتفاظ بالاحتياطي الكبير». وما بين أهمية المحافظة على ما تبقى من احتياطي، كان حجمه يقدر قبل الأزمة بنحو 18 مليار دولار، وبين ضرورة قيام المصرف المركزي بتمويل المستوردات في وقت تراجعت فيه إيرادات القطع الأجنبي على نحو كبير مقارنة بسنوات ما قبل الأزمة، يقترح الدكتور نجمة أن «يطرح المصرف المركزي من أجل دعم احتياطياته من النقد الأجنبي إسناد قروض بالعملات الأجنبية، وذلك بقيمة عشرة مليارات دولار أميركي بفوائد معتدلة ولمدة خمس سنوات، يكتتب بها السوريون المقيمون وغير المقيمون، أشخاص عاديون أو اعتباريون»، ويخص بالذكر «أولئك الذين تصدروا خلال السنوات الخمس عشرة الماضية الصفوف الأولى في النشاط الاقتصادي، التجاري والمالي، المصرفي والعقاري بصورة عامة، والذين حققوا أرباحاً خيالية لا بل فلكية، بسبب انفتاح السوق الداخلية أمامهم، والتي كانت سابقاً عطشى».

 

  • فريق ماسة
  • 2015-04-26
  • 11557
  • من الأرشيف

الليرة «تطوي» صفحة انخفاض أخرى

للمرة الثانية خلال عامين تقريباً، يصل سعر صرف الدولار إلى عتبة الـ 300 ليرة، في المرة الأولى كان الانخفاض مفاجئاً و«وهمياً»، أما اليوم فالانخفاض كان متدرجاً، وإن نجح التدخل فلن يكون المكسب أكثر من بضع ليرات حال السوريين هذه الأيام مع سعر الصرف يقول: «رضينا بالبين، والبين ما رضي فينا»، ففي كل مرة يتراجع فيها سعر صرف الليرة إلى مستوى جديد، تكون جل أمنيات السوريين أن يعود السعر إلى المستوى السابق ويثبت عليه، فعلى الأقل لن يكونوا عرضة لموجة غلاء جديدة في الأسواق المحلية، وفقدان ما تبقى من القيمة الشرائية لمدخراتهم ودخولهم الشهرية، لكن طيلة ثلاث سنوات كانت «الرياح تجري بما لا تشتهي السفن» رغم ملايين الدولارات التي كان يطرحها المصرف المركزي في سوق القطع تحت لافتة «التدخل الإيجابي». ويبدو أن هذا الوضع لن يشهد تغيراً ملحوظاً مع رقم الانخفاض الجديد الذي حققه سعر الصرف الأسبوع الماضي ولامس من خلاله عتبة الـ 300 ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء، بدليل مرور عدة أيام على عقد المصرف المركزي لجلسة تدخل خصص لها نحو 200 مليون دولار، دون أن يؤدي ذلك إلى تحسن واضح في سعر صرف الليرة. وحتى مع إعلان «المركزي» أمس تدخله يومياً في سوق القطع، فإن ذلك برأي عميد كلية العلوم الإدارية في جامعة «الشام» الخاصة، الدكتور عابد فضلية، «لن يحمل نتائج إيجابية، وإن حدث فستكون نتائج محدودة ولفترة قصيرة، بالنظر إلى أن إعلانات التدخل السابقة غالباً ما كانت إعلامية لا أكثر ولا أقل». ويضيف في تصريحه لـ«الأخبار» أنّ «المركزي» لو كان يقصد تدخلاً يومياً فعالاً، «لكانت السوق السوداء قد أصيبت برعب حقيقي، ولكان سعر صرف الدولار قد فقد 10% من قيمته بمجرد الإعلان عن ذلك، لكن يبدو أن المؤثرين في سوق الصرف السوداء يدركون أن الحديث عن التدخل ليس أكثر من تصريحات». تتباين التقديرات حول حجم ما تحتاج اليه السوق المحلية من قطع أجنبي سواء للأغراض التجارية أو غير التجارية، وذلك نتيجة عدم وجود رقم رسمي معلن من قبل المصرف المركزي، إلا أن الاستراتيجية المعلنة مؤخراً من قبل وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، والمتعلقة بتوجهاته لإدارة ملف التجارة الخارجية، أشارت إلى أن قيمة إجازات الاستيراد التي توافق عليها الوزارة تراوح قيمتها يومياً ما بين 14 و17 مليون يورو، وهي تشمل إجازات الاستيراد المنفذة وغير المنفذة، ووفق بيانات وزارة الاقتصاد فإن المصرف المركزي يمول من قيمة إجازات الاستيراد ما بين 10-12% فقط. من جانبه، يقدر الأستاذ في قسم المصارف في جامعة دمشق الدكتور علي كنعان بأن حجم احتياجات السوق الداخلية من القطع الأجنبي يصل إلى نحو 15 مليون دولار يومياً، مشيراً في حديثه لـ«الأخبار» إلى أن الحوالات والمساعدات الخارجية التي ترد إلى سوريا يومياً عبر شركات الصرافة والحوالات المالية تراوح قيمتها ما بين 7-8 ملايين دولار، الأمر الذي يعني أن حجم العجز اليومي يصل إلى نحو 7 ملايين دولار. وعليه فإن جميع آراء الاقتصاديين تلتقي حول أهمية قيام المصرف المركزي بتمويل إجازات الاستيراد عبر المصارف الوطنية المرخصة من جهة، وأن يكون تدخله في السوق عند اللزوم سرياً وبعيداً عن شركات ومكاتب الصرافة التي أثبت تجربة ثلاث سنوات أن بعضها كان يضارب على الليرة وبعضها الآخر كان عبارة عن قناة يتسرب من خلالها الدولار «الرسمي» إلى شريحة من المواطنين، وهؤلاء كان بعضهم يعيد بيعها لاحقاً في السوق السوداء. ولذلك يصر كنعان على ضرورة تغيير المصرف المركزي لسياسة التدخل التي ينتهجها، إذ إن استمراره في الاعتماد على شركات ومكاتب الصرافة، وتخصيصه مبالغ معينة لبيعها للمواطنين العاديين مقابل إحجامه عن تمويل مستوردات بعض التجار، يعنيان أن انخفاض سعر صرف الليرة لن يتوقف عند عتبة الـ300 ليرة، موضحاً أن ترشيد المستوردات فتح الباب واسعاً أمام تنامي ظاهرة التهريب، التي هي الأخرى تمثل في النهاية ضغطاً إضافياً على سعر الصرف. وإلى جانب أولوية تمويل طلبات المستوردين وتسهيل إجراءاتها وشفافيتها، يطرح الدكتور فضلية أولوية أخرى تتمثل «بضرورة تلبية احتياجات المواطنين من القطع لغايات السفر والعلاج والدراسة وغيرها، وهذه كانت تقدر قبل الأزمة بنحو 3 ملايين دولار، ورغم أن المركزي يتيح للمواطنين وعبر شركات الصرافة شراء مبالغ معينة من القطع، إلا أنها محددة ولا تناسب احتياجات هؤلاء».   قروض بالعملات الأجنبية   وأمام محدودية مصادر القطع الأجنبي بعد توقف صادرات النفط وتراجع الصادرات الأخرى بنسب كبيرة وتبخر إيرادات القطاع السياحي، يتساءل البعض عن «مشروعية» استعانة المصرف المركزي بالاحتياطي الوطني من القطع الأجنبي للتدخل في السوق وتثبيت سعر الصرف، وإلى أي حد يمكنه فعل ذلك؟ يرفض الأستاذ الدكتور إلياس نجمة فكرة التصرف بالاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، فهو «يمثل قوة رادعة للمضاربين تجب المحافظة عليه وزيادته، وتجنب استخدامه في التدخل بسوق الصرف إلا للضرورة القصوى ولفترة قصيرة جداً، وذلك بفاعلية كبيرة وسرية مطلقة». ويضيف في حديثه لـ«الأخبار» أن «التجربة النقدية التاريخية دلت على أن سلبيات التدخل أحيانا أكبر من ايجابياته، كما أن إيجابياته مؤقتة وسلبياته دائمة، لأنه يمثل اعترافاً صريحاً بضعف قيمة العملة الوطنية، كما يفقد صانع القرار النقدي قوة الردع التي يوفرها له الاحتفاظ بالاحتياطي الكبير». وما بين أهمية المحافظة على ما تبقى من احتياطي، كان حجمه يقدر قبل الأزمة بنحو 18 مليار دولار، وبين ضرورة قيام المصرف المركزي بتمويل المستوردات في وقت تراجعت فيه إيرادات القطع الأجنبي على نحو كبير مقارنة بسنوات ما قبل الأزمة، يقترح الدكتور نجمة أن «يطرح المصرف المركزي من أجل دعم احتياطياته من النقد الأجنبي إسناد قروض بالعملات الأجنبية، وذلك بقيمة عشرة مليارات دولار أميركي بفوائد معتدلة ولمدة خمس سنوات، يكتتب بها السوريون المقيمون وغير المقيمون، أشخاص عاديون أو اعتباريون»، ويخص بالذكر «أولئك الذين تصدروا خلال السنوات الخمس عشرة الماضية الصفوف الأولى في النشاط الاقتصادي، التجاري والمالي، المصرفي والعقاري بصورة عامة، والذين حققوا أرباحاً خيالية لا بل فلكية، بسبب انفتاح السوق الداخلية أمامهم، والتي كانت سابقاً عطشى».  

المصدر : زياد غصن


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة