على وقع خارطة النفوذ والسيطرة، فقد الاقتصاد الرسمي السوري كثيراً من نشاطه وإمكاناته لمصلحة اقتصادات، بعضها جديد نشأ مع تطورات الأزمة ميدانياً، وبعضها الآخر قديم عاد لينتعش مستفيداً من الظروف الاقتصادية، التي تمر بها مناطق البلاد كافة.

تذهب التقديرات إلى حد الجزم بتفوق حجم الاقتصادات غير الرسمية، وتأثيرها المباشر في حياة السوريين، وبنية الاقتصاد الوطني لسنوات قد تكون طويلة، ولا سيما في ظل حالة «المأسسة»، التي أصبحت تدير أنشطة هذه الاقتصادات، وتحكمها بموارد كبيرة ومهمة، سواء في المناطق الخاضعة للدولة، أو تلك الخارجة عن سيطرتها.

فإلى جانب الاقتصاد الحكومي الرسمي الحاضر في المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة، هناك اليوم، اقتصاد جديد تتبلور ملامحه بوضوح في المناطق الحدودية، الواقعة تحت نفوذ تنظيمات مسلحة مختلفة، فيما يشهد الاقتصاد غير المنظم، أو المعروف باقتصاد «الظل»، تنامياً كبيراً لدرجة أصبح فيها يتفوق على الاقتصاد الرسمي، وأخيراً يأتي اقتصاد الحرب كمكون رئيس مرتبط بالاقتصادات الثلاثة السابقة، الذي يسعى إلى إنعاش السوق السوداء، وتوسيعها لتغدو «الحاكمة» في كثير من الأحيان.

«التقنين» هو المدخل

تحضر اليوم السوق السوداء في حياة السوريين على نحو مباشر، من خلال تأثيرها السلبي في ملفين أساسيين، الأول سوق القطع الأجنبي، وما نجم عنه من انخفاض كبير في سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، وتالياً ارتفاع أسعار السلع والمواد إلى مستويات غير مسبوقة، ما أدى إلى اتساع دائرة الفقر والفقراء. أما الملف الثاني، فيشمل توزيع المشتقات النفطية التي تدعمها الدولة، واستغلالها لحاجات المواطنين بغية تحقيق إيرادات كبيرة، مع ملاحظة أن ذلك لا يعني أن نشاط السوق السوداء بقي محصوراً ضمن هذين الملفين فقط.

عاودت السوق السوداء نشاطها مع بداية الأزمة، وزاد تدريجياً مع تأثر مؤسسات الاقتصاد الرسمي بالعقوبات الخارجية، وتراجع دورها في تأمين السلع والمنتجات بكميات تلبي احتياجات السوق المحلية، فضلاً عن ظهور شريحة اجتماعية انخرطت في الحرب، وتحالفت مع قوى الفساد التقليدية الموجودة داخل مؤسسات الدولة وخارجها، للمتاجرة بالسلع والموارد والبشر في جميع أنحاء البلاد، وإن بنسب متفاوتة.

يحدد الدكتور أكرم حوراني، الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، ثلاثة أسباب أسهمت في زيادة نشاط سوق القطع السوداء خلال فترة الأزمة: «عدم تلبية الطلب لغايات غير تجارية (الحفاظ على قيمة المدّخرات)، عدم تلبية الطلب لغايات تجارية على نحو كاف لتلبية احتياجات المستوردين (خارج قائمة السلع المسموح بتمويلها عبر المصارف المأذونة)، والتصريحات المتكررة للقائمين على إدارة السياسة النقدية (التدخل، التهديد والوعيد،..)».

ولا تختلف هذه الأسباب عن تلك التي أدت إلى دخول السوق السوداء على خط توزيع المشتقات النفطية، مع مراعاة خصوصية كل من الملفين، فالدكتور زياد أيوب عربش، الخبير في شؤون الطاقة، والأستاذ في جامعة دمشق، يشير في حديثه لـ «الأخبار» إلى أن سنوات الأزمة شهدت «انخفاضاً جوهرياً في استهلاك المشتقات النفطية، نتيجة تراجع مستوى الدخل، وتوقف آلاف المعامل الصناعية، وهذا بغض النظر عن الظروف الأمنية. ومع ذلك فإن الطلب بقي أعلى من العرض»، الذي تأثر نتيجة مشكلتين رئيسيتين هما «تأمين القطع الأجنبي، وتأثيرات العقوبات الدولية والمخاطر الناجمة عنها في النقل والتأمين...الخ».

ومع تعثر إجراءات الحكومة، وعجزها خلال الفترة الماضية عن ردم الفجوة بين الطلب على القطع الأجنبي والمشتقات النفطية وغيرها، والكميات المتاحة من هذه السلع، كانت ظاهرة السوق السوداء تتسع أفقياً وعمودياً، فإضافة إلى الشريحة التي باتت تعرف بـ «تجار الأزمة» أو «أمراء السوق السوداء»، كان هناك مواطنون عاديون كثر، ولأسباب عديدة، ينضمّون تلقائياً إلى بنية «التجارة غير المشروعة»، منشئين بذلك ما يمكن تسميته «حلقات الفساد الصغير». فمثلاً أصبح مألوفاً رؤية أشخاص يفترشون، بمواد الإغاثة، أرصفة بعض الأسواق الشعبية لبيعها بأسعار منافسة، أو أن يبادر آخرون بين الفينة والأخرى لشراء مبلغ 200 دولار (أو ألف دولار سابقاً) من مؤسسات الصرافة النظامية، وبيعها لاحقاً لتجار العملة. وغير ذلك.

ثراء قياسي

لا تتوافر حتى الآن أي تقديرات، أو بيانات إحصائية يمكنها أن تحدد على نحو تقريبي حجم السوق السوداء ونسبتها إلى السوق الرسمية، لكنْ ثمّة اتفاق بين الاقتصاديين على أنها أصبحت تمثّل نسبة كبيرة وخطيرة، فالدكتور حوراني أكد في حديثه لـ «الأخبار» أنه «من مراقبة طويلة للطلب على القطع في السوق، فإن الطلب على القطع يقدر لغايات غير تجارية بما بين 3-10 ملايين دولار يومياً، ولغايات تجارية خارج المسموح بتمويلها رسمياً بنحو 25 مليون دولار يومياً».

أما في ملف المشتقات النفطية، فإن غياب الشفافية في ما يتعلق بالكميات المطروحة يومياً بالأسواق، والكميات المبيعة فعلاً للمواطنين عبر القنوات النظامية، يجعل من الصعوبة تحديد أو تقدير الكميات التي تتسرب إلى متاجر السوق السوداء، لكن بالنظر إلى بورصة الأسعار «السوداء» المائلة إلى الارتفاع دائماً، وصعوبة الحصول على المشتقات من المنافذ النظامية، وبالسعر الرسمي، فإنه يمكن القول إن هناك مبالغ هائلة يجري تداولها في هذه السوق، وهذا ما أتاح لشريحة اجتماعية تحقيق أرباح كبيرة في زمن قياسي، مقابل انعكاسات اقتصادية خطيرة يجملها الدكتور حوراني بالنقاط التالية: ارتفاع سعر القطع الأجنبي، ارتفاع الأسعار، تدني مستوى المعيشة، تراجع مستوى الاحتياطيات، وفقدان صدقية الإدارة الاقتصادية.

  • فريق ماسة
  • 2015-02-15
  • 12338
  • من الأرشيف

الاقتصاد السوري في قبضة السوق الســوداء

على وقع خارطة النفوذ والسيطرة، فقد الاقتصاد الرسمي السوري كثيراً من نشاطه وإمكاناته لمصلحة اقتصادات، بعضها جديد نشأ مع تطورات الأزمة ميدانياً، وبعضها الآخر قديم عاد لينتعش مستفيداً من الظروف الاقتصادية، التي تمر بها مناطق البلاد كافة. تذهب التقديرات إلى حد الجزم بتفوق حجم الاقتصادات غير الرسمية، وتأثيرها المباشر في حياة السوريين، وبنية الاقتصاد الوطني لسنوات قد تكون طويلة، ولا سيما في ظل حالة «المأسسة»، التي أصبحت تدير أنشطة هذه الاقتصادات، وتحكمها بموارد كبيرة ومهمة، سواء في المناطق الخاضعة للدولة، أو تلك الخارجة عن سيطرتها. فإلى جانب الاقتصاد الحكومي الرسمي الحاضر في المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة، هناك اليوم، اقتصاد جديد تتبلور ملامحه بوضوح في المناطق الحدودية، الواقعة تحت نفوذ تنظيمات مسلحة مختلفة، فيما يشهد الاقتصاد غير المنظم، أو المعروف باقتصاد «الظل»، تنامياً كبيراً لدرجة أصبح فيها يتفوق على الاقتصاد الرسمي، وأخيراً يأتي اقتصاد الحرب كمكون رئيس مرتبط بالاقتصادات الثلاثة السابقة، الذي يسعى إلى إنعاش السوق السوداء، وتوسيعها لتغدو «الحاكمة» في كثير من الأحيان. «التقنين» هو المدخل تحضر اليوم السوق السوداء في حياة السوريين على نحو مباشر، من خلال تأثيرها السلبي في ملفين أساسيين، الأول سوق القطع الأجنبي، وما نجم عنه من انخفاض كبير في سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، وتالياً ارتفاع أسعار السلع والمواد إلى مستويات غير مسبوقة، ما أدى إلى اتساع دائرة الفقر والفقراء. أما الملف الثاني، فيشمل توزيع المشتقات النفطية التي تدعمها الدولة، واستغلالها لحاجات المواطنين بغية تحقيق إيرادات كبيرة، مع ملاحظة أن ذلك لا يعني أن نشاط السوق السوداء بقي محصوراً ضمن هذين الملفين فقط. عاودت السوق السوداء نشاطها مع بداية الأزمة، وزاد تدريجياً مع تأثر مؤسسات الاقتصاد الرسمي بالعقوبات الخارجية، وتراجع دورها في تأمين السلع والمنتجات بكميات تلبي احتياجات السوق المحلية، فضلاً عن ظهور شريحة اجتماعية انخرطت في الحرب، وتحالفت مع قوى الفساد التقليدية الموجودة داخل مؤسسات الدولة وخارجها، للمتاجرة بالسلع والموارد والبشر في جميع أنحاء البلاد، وإن بنسب متفاوتة. يحدد الدكتور أكرم حوراني، الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، ثلاثة أسباب أسهمت في زيادة نشاط سوق القطع السوداء خلال فترة الأزمة: «عدم تلبية الطلب لغايات غير تجارية (الحفاظ على قيمة المدّخرات)، عدم تلبية الطلب لغايات تجارية على نحو كاف لتلبية احتياجات المستوردين (خارج قائمة السلع المسموح بتمويلها عبر المصارف المأذونة)، والتصريحات المتكررة للقائمين على إدارة السياسة النقدية (التدخل، التهديد والوعيد،..)». ولا تختلف هذه الأسباب عن تلك التي أدت إلى دخول السوق السوداء على خط توزيع المشتقات النفطية، مع مراعاة خصوصية كل من الملفين، فالدكتور زياد أيوب عربش، الخبير في شؤون الطاقة، والأستاذ في جامعة دمشق، يشير في حديثه لـ «الأخبار» إلى أن سنوات الأزمة شهدت «انخفاضاً جوهرياً في استهلاك المشتقات النفطية، نتيجة تراجع مستوى الدخل، وتوقف آلاف المعامل الصناعية، وهذا بغض النظر عن الظروف الأمنية. ومع ذلك فإن الطلب بقي أعلى من العرض»، الذي تأثر نتيجة مشكلتين رئيسيتين هما «تأمين القطع الأجنبي، وتأثيرات العقوبات الدولية والمخاطر الناجمة عنها في النقل والتأمين...الخ». ومع تعثر إجراءات الحكومة، وعجزها خلال الفترة الماضية عن ردم الفجوة بين الطلب على القطع الأجنبي والمشتقات النفطية وغيرها، والكميات المتاحة من هذه السلع، كانت ظاهرة السوق السوداء تتسع أفقياً وعمودياً، فإضافة إلى الشريحة التي باتت تعرف بـ «تجار الأزمة» أو «أمراء السوق السوداء»، كان هناك مواطنون عاديون كثر، ولأسباب عديدة، ينضمّون تلقائياً إلى بنية «التجارة غير المشروعة»، منشئين بذلك ما يمكن تسميته «حلقات الفساد الصغير». فمثلاً أصبح مألوفاً رؤية أشخاص يفترشون، بمواد الإغاثة، أرصفة بعض الأسواق الشعبية لبيعها بأسعار منافسة، أو أن يبادر آخرون بين الفينة والأخرى لشراء مبلغ 200 دولار (أو ألف دولار سابقاً) من مؤسسات الصرافة النظامية، وبيعها لاحقاً لتجار العملة. وغير ذلك. ثراء قياسي لا تتوافر حتى الآن أي تقديرات، أو بيانات إحصائية يمكنها أن تحدد على نحو تقريبي حجم السوق السوداء ونسبتها إلى السوق الرسمية، لكنْ ثمّة اتفاق بين الاقتصاديين على أنها أصبحت تمثّل نسبة كبيرة وخطيرة، فالدكتور حوراني أكد في حديثه لـ «الأخبار» أنه «من مراقبة طويلة للطلب على القطع في السوق، فإن الطلب على القطع يقدر لغايات غير تجارية بما بين 3-10 ملايين دولار يومياً، ولغايات تجارية خارج المسموح بتمويلها رسمياً بنحو 25 مليون دولار يومياً». أما في ملف المشتقات النفطية، فإن غياب الشفافية في ما يتعلق بالكميات المطروحة يومياً بالأسواق، والكميات المبيعة فعلاً للمواطنين عبر القنوات النظامية، يجعل من الصعوبة تحديد أو تقدير الكميات التي تتسرب إلى متاجر السوق السوداء، لكن بالنظر إلى بورصة الأسعار «السوداء» المائلة إلى الارتفاع دائماً، وصعوبة الحصول على المشتقات من المنافذ النظامية، وبالسعر الرسمي، فإنه يمكن القول إن هناك مبالغ هائلة يجري تداولها في هذه السوق، وهذا ما أتاح لشريحة اجتماعية تحقيق أرباح كبيرة في زمن قياسي، مقابل انعكاسات اقتصادية خطيرة يجملها الدكتور حوراني بالنقاط التالية: ارتفاع سعر القطع الأجنبي، ارتفاع الأسعار، تدني مستوى المعيشة، تراجع مستوى الاحتياطيات، وفقدان صدقية الإدارة الاقتصادية.

المصدر : الأخبار/ زياد غصن


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة