التجول في أحياء دمشق يوحي بإستعادة سريعة للحياة السورية بعد سنوات مضت من عمر الأزمة. إضاءة شجرة الميلاد لم يكن وحده المشهد المعبر. الحفلات الفنية ما بين عيدي الميلاد ورأس السنة في فنادق ومطاعم دمشق تؤكد أنّ السوريين كسروا حاجز القلق. في باب توما لم يأبه السوريون لتهديدات كان يطلقها متطرفون في السنوات الماضية ضد مظاهر الفرح والزينة في عيد الميلاد. وضعوا الزينة "كي ترجع أحلى". أساساً كانت القداديس في الكنائس تتحدى بحذر تهديدات المتطرفين المسلحين. كانت قذائف الهاون تتساقط يومياً وتصطاد مواطنين عُزّل. جغرافية الأحياء في دمشق القديمة لا تبعد عن جوبر حيث يتمركز المسلحون. تراجعت أعداد قذائف الهاون وإعتاد السوريون على سماع أصوات القذائف التي صارت أبعد. لم تعد تقلق. في السنة الماضية كان سكان المناطق التي تقع على تماس مع جوبر او الغوطة من ناحية باب شرقي يمضون وقتاً طويلاً دون القدرة على النوم مثلا. كانت أصوات الطائرات تنافس أصوات القذائف والمدافع. الآن تبدل المشهد. بات شبيهاً بأواخر عام 2011.  تجول في دمشق في كل أحيائها القديمة والجديدة والوصول الى ريفها وعبره الى درعا والمحصلة الى السويداء، او الى حمص وحماه وحلب او طرطوس واللاذقية بطبيعة الحال.

العقد في العلاقات الاجتماعية التي استولدتها الأحداث تتفكك تدريجيا. لم تعد الحدة موجودة بالشكل الذي كانت عليه بين رأي سياسي وآخر. ربما تظهّر الإرهاب ساهم بتقريب المسافات. صار الحوار مطلباً أوسع. رافقه تراجع الذُعر. عمليات الخطف تراجعت ليس بتحديد قواعد الإشتباك فحسب، بل بإستعادة الدولة المبادرة التدريجية على الارض. مضى صناعيو حلب بتشغيل مئات المعامل من جديد، فتردد الصدى في العاصمة دمشق إرتياحاً.

لا يمكن تحديد سبب واحد لعملية الانتقال من مرحلة القلق الشامل الى الأمل بما هو آت. الإرهاب عنصر أساس في تحول المشهد، لكن صمود الدولة العسكري والاقتصادي والاجتماعي سبب أساسي. لم يعد الحديث عن "مصير نظام". الحدث هو الحوار بالنسبة الى السوريين. غالبية الموالين لا يرغبون بتسوية على "حساب التضحيات ودماء الشهداء". حين تتناقش معهم يقولون: لو نجحت المؤامرة كنا سندفع الثمن، فلا بد من فرض شروطنا بعد صمودنا وفشلهم. فئة سورية اكثر إطلاعا ودراية تتصرف من منطق عملي لا عاطفي: المهم الخلاص وحل الأزمة.

لكن كيف؟ هل هناك امل بالمبادرة الروسية؟

الحكومة السورية اعلنت الموافقة على الذهاب للحوار. تبرر دمشق بقولها: من الأساس نحن طالبنا بالحوار فرفضوا، ها هم يعودون الى الموافقة على الذهاب للحوار. لكن الترقب يسود حول: من تحاور الحكومة؟ ما مدى تمثيل المعارضين؟ هل لهم سلطة على الارض؟ بالطبع لا وجود "للجيش الحر" عمليا.  المسلحون يتوزعون بين المجموعات الاسلامية المتطرفة وتحديدا "جبهة النصرة" و"داعش"، هؤلاء سيرفضون الالتزام بأي قرار. لكن الخوف من مزايدات يطلقها المعارضون لرفع مستوى الخطاب بشكل يتفوق على مواقف المسلحين، ما يعني هنا إفشال الحوار حُكماً.

في سوريا تُرصد الإشادة بالدور المصري، رغم ان القاهرة تسعى لتوحيد المعارضين، لكن السوريين يتحدثون عن موقف مصر السلبي من "الاخوان" ومتفرعات المجموعات المسلحة في سيناء التي تشكل امتدادا لـ"النصرة" و"داعش".  هذا وحده يطمئن السوريين بأن مصر لن تقبل بتقديم مساعدات سياسية للمتشددين ولن تنحاز اليهم. ولّى زمن المعارضة السورية في القاهرة كما كانت في "عصر مرسي" الى غير رجعة.

موقف مصر يلتقي مع إشارات عربية: قناة "الجزيرة" القطرية ألغت نشرة الاخبار المخصصة لدعم "الثورة السورية" واستبدلتها ببرنامج عربي، الكويت أعادت استقبال بعثة سوريا الدبلوماسية، تونس تحضر لإعادة العلاقات بشكل كامل كما ظهر في البرنامج الانتخابي للرئيس الجديد السبسي. العراق يقرّب بين الخليجيين والإيرانيين حول سوريا. الامارات والسعودية يريدان عزل الموقف التركي وتحديدا حول سوريا والتفرد بالمشاركة الخليجية في "حصة" الحلول المرتقبة. في الايام القليلة الماضية خصصت صحيفة "الخليج" الإماراتية افتتاحيتها للحديث عن الحل السوري بالحوار لا بالعسكرة وتحدثت عن مخاطر الارهاب. 

في الايام المقبلة سيحل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضيفا على المصريين في القاهرة. يريد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تقديم ورقة المعارضة السورية الموحدة له للحوار في موسكو، رغم الاعتراضات والمطبات التي تواجه مساعي القاهرة.

لكن هل تكفي تلك الاستعدادات؟ ثمة ما هو أبعد. اين واشنطن فعلياً من حراك الروس؟ هل يسمح الأميركيون لروسيا بإجراء حوار سوري منتج يؤدي الى حل؟ قيل ان الموافقة الاميركية موجودة لتوحيد الجهود لمحاربة "داعش". العراق نموذج حي. تعاون القوى الإقليمية والدولية في الحرب على "داعش" تعني في العراق توافق الأميركيين والإيرانيين. اذا كان الامر يصح في سوريا، ماذا يريد الأميركيون من هذا البلد؟ هل فقط ما قاله الرئيس الأميركي باراك أوباما في تصريحه حول ايران وحثها على اتفاق شامل كي تصبح قوة إقليمية؟

فلنفترض ان الإيرانيين والأمريكيين اتفقوا على حل سوري، اين موسكو منه؟.

ثمة من يعتبر ان الاشتباك الدولي بين موسكو وواشنطن سيبقي الازمة السورية الآن. الصراع يزداد بين قطبين دوليين، ولا يمكن ايجاد حل في سوريا دون توزيع الأدوار الجديدة. موسكو لن تتراجع عن ثوابتها ومصالحها في سوريا، والاميركيون يريدون تنازلا روسيا في اكثر من ساحة وتحديدا في سوريا.

ما العمل ؟

لقد باتت مصلحة الروس في ثوابت "النظام السوري". اكثر مما هي الآن مصلحة سوريا في طُروحات روسيا. لن ينفك الطرفان عن بعضهما. ما يعني حُكماً اما التنازل الأميركي او الروسي حول تفاصيل سورية. وفي الحالتين إطالة أمد الازمة بغض النظر عن حوار يُطلق. في هذا الوقت الجيش السوري يستعيد مزيداً من المناطق اليه، في ظل تذويب كل فصائل المسلحين بتنظيم "داعش". لذلك بايعت مجموعات في الجنوب السوري هذا التنظيم على طريق القضاء على مشروع "المسلحين المعتدلين". الوقت بات يلعب لمصلحة الدولة السورية في حال احسنت المضي بإدارة الازمة الاقتصادية. وحدها المسألة المالية تربك السوريين، خصوصا ان حلفاء دمشق يعانون من ازمة تراجع اسعار النفط.

في مقاهي دمشق ترصد طلاق المواطنين للقلق الأمني وترقب مرحلة الحوار في الطريق الى حل الازمة. لكن الأسئلة تتكرر حول سعر صرف الليرة او انعكاساتها الاقتصادية. هناك من يقول : الفائض في انتاج القمح وتصدير الحمضيات وعودة الحياة الى الصناعات الغذائية يطمئن بإنتظار المزيد.

  • فريق ماسة
  • 2014-12-29
  • 12123
  • من الأرشيف

معوقات الحوار السوري.. ومؤشرات العرب

التجول في أحياء دمشق يوحي بإستعادة سريعة للحياة السورية بعد سنوات مضت من عمر الأزمة. إضاءة شجرة الميلاد لم يكن وحده المشهد المعبر. الحفلات الفنية ما بين عيدي الميلاد ورأس السنة في فنادق ومطاعم دمشق تؤكد أنّ السوريين كسروا حاجز القلق. في باب توما لم يأبه السوريون لتهديدات كان يطلقها متطرفون في السنوات الماضية ضد مظاهر الفرح والزينة في عيد الميلاد. وضعوا الزينة "كي ترجع أحلى". أساساً كانت القداديس في الكنائس تتحدى بحذر تهديدات المتطرفين المسلحين. كانت قذائف الهاون تتساقط يومياً وتصطاد مواطنين عُزّل. جغرافية الأحياء في دمشق القديمة لا تبعد عن جوبر حيث يتمركز المسلحون. تراجعت أعداد قذائف الهاون وإعتاد السوريون على سماع أصوات القذائف التي صارت أبعد. لم تعد تقلق. في السنة الماضية كان سكان المناطق التي تقع على تماس مع جوبر او الغوطة من ناحية باب شرقي يمضون وقتاً طويلاً دون القدرة على النوم مثلا. كانت أصوات الطائرات تنافس أصوات القذائف والمدافع. الآن تبدل المشهد. بات شبيهاً بأواخر عام 2011.  تجول في دمشق في كل أحيائها القديمة والجديدة والوصول الى ريفها وعبره الى درعا والمحصلة الى السويداء، او الى حمص وحماه وحلب او طرطوس واللاذقية بطبيعة الحال. العقد في العلاقات الاجتماعية التي استولدتها الأحداث تتفكك تدريجيا. لم تعد الحدة موجودة بالشكل الذي كانت عليه بين رأي سياسي وآخر. ربما تظهّر الإرهاب ساهم بتقريب المسافات. صار الحوار مطلباً أوسع. رافقه تراجع الذُعر. عمليات الخطف تراجعت ليس بتحديد قواعد الإشتباك فحسب، بل بإستعادة الدولة المبادرة التدريجية على الارض. مضى صناعيو حلب بتشغيل مئات المعامل من جديد، فتردد الصدى في العاصمة دمشق إرتياحاً. لا يمكن تحديد سبب واحد لعملية الانتقال من مرحلة القلق الشامل الى الأمل بما هو آت. الإرهاب عنصر أساس في تحول المشهد، لكن صمود الدولة العسكري والاقتصادي والاجتماعي سبب أساسي. لم يعد الحديث عن "مصير نظام". الحدث هو الحوار بالنسبة الى السوريين. غالبية الموالين لا يرغبون بتسوية على "حساب التضحيات ودماء الشهداء". حين تتناقش معهم يقولون: لو نجحت المؤامرة كنا سندفع الثمن، فلا بد من فرض شروطنا بعد صمودنا وفشلهم. فئة سورية اكثر إطلاعا ودراية تتصرف من منطق عملي لا عاطفي: المهم الخلاص وحل الأزمة. لكن كيف؟ هل هناك امل بالمبادرة الروسية؟ الحكومة السورية اعلنت الموافقة على الذهاب للحوار. تبرر دمشق بقولها: من الأساس نحن طالبنا بالحوار فرفضوا، ها هم يعودون الى الموافقة على الذهاب للحوار. لكن الترقب يسود حول: من تحاور الحكومة؟ ما مدى تمثيل المعارضين؟ هل لهم سلطة على الارض؟ بالطبع لا وجود "للجيش الحر" عمليا.  المسلحون يتوزعون بين المجموعات الاسلامية المتطرفة وتحديدا "جبهة النصرة" و"داعش"، هؤلاء سيرفضون الالتزام بأي قرار. لكن الخوف من مزايدات يطلقها المعارضون لرفع مستوى الخطاب بشكل يتفوق على مواقف المسلحين، ما يعني هنا إفشال الحوار حُكماً. في سوريا تُرصد الإشادة بالدور المصري، رغم ان القاهرة تسعى لتوحيد المعارضين، لكن السوريين يتحدثون عن موقف مصر السلبي من "الاخوان" ومتفرعات المجموعات المسلحة في سيناء التي تشكل امتدادا لـ"النصرة" و"داعش".  هذا وحده يطمئن السوريين بأن مصر لن تقبل بتقديم مساعدات سياسية للمتشددين ولن تنحاز اليهم. ولّى زمن المعارضة السورية في القاهرة كما كانت في "عصر مرسي" الى غير رجعة. موقف مصر يلتقي مع إشارات عربية: قناة "الجزيرة" القطرية ألغت نشرة الاخبار المخصصة لدعم "الثورة السورية" واستبدلتها ببرنامج عربي، الكويت أعادت استقبال بعثة سوريا الدبلوماسية، تونس تحضر لإعادة العلاقات بشكل كامل كما ظهر في البرنامج الانتخابي للرئيس الجديد السبسي. العراق يقرّب بين الخليجيين والإيرانيين حول سوريا. الامارات والسعودية يريدان عزل الموقف التركي وتحديدا حول سوريا والتفرد بالمشاركة الخليجية في "حصة" الحلول المرتقبة. في الايام القليلة الماضية خصصت صحيفة "الخليج" الإماراتية افتتاحيتها للحديث عن الحل السوري بالحوار لا بالعسكرة وتحدثت عن مخاطر الارهاب.  في الايام المقبلة سيحل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضيفا على المصريين في القاهرة. يريد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تقديم ورقة المعارضة السورية الموحدة له للحوار في موسكو، رغم الاعتراضات والمطبات التي تواجه مساعي القاهرة. لكن هل تكفي تلك الاستعدادات؟ ثمة ما هو أبعد. اين واشنطن فعلياً من حراك الروس؟ هل يسمح الأميركيون لروسيا بإجراء حوار سوري منتج يؤدي الى حل؟ قيل ان الموافقة الاميركية موجودة لتوحيد الجهود لمحاربة "داعش". العراق نموذج حي. تعاون القوى الإقليمية والدولية في الحرب على "داعش" تعني في العراق توافق الأميركيين والإيرانيين. اذا كان الامر يصح في سوريا، ماذا يريد الأميركيون من هذا البلد؟ هل فقط ما قاله الرئيس الأميركي باراك أوباما في تصريحه حول ايران وحثها على اتفاق شامل كي تصبح قوة إقليمية؟ فلنفترض ان الإيرانيين والأمريكيين اتفقوا على حل سوري، اين موسكو منه؟. ثمة من يعتبر ان الاشتباك الدولي بين موسكو وواشنطن سيبقي الازمة السورية الآن. الصراع يزداد بين قطبين دوليين، ولا يمكن ايجاد حل في سوريا دون توزيع الأدوار الجديدة. موسكو لن تتراجع عن ثوابتها ومصالحها في سوريا، والاميركيون يريدون تنازلا روسيا في اكثر من ساحة وتحديدا في سوريا. ما العمل ؟ لقد باتت مصلحة الروس في ثوابت "النظام السوري". اكثر مما هي الآن مصلحة سوريا في طُروحات روسيا. لن ينفك الطرفان عن بعضهما. ما يعني حُكماً اما التنازل الأميركي او الروسي حول تفاصيل سورية. وفي الحالتين إطالة أمد الازمة بغض النظر عن حوار يُطلق. في هذا الوقت الجيش السوري يستعيد مزيداً من المناطق اليه، في ظل تذويب كل فصائل المسلحين بتنظيم "داعش". لذلك بايعت مجموعات في الجنوب السوري هذا التنظيم على طريق القضاء على مشروع "المسلحين المعتدلين". الوقت بات يلعب لمصلحة الدولة السورية في حال احسنت المضي بإدارة الازمة الاقتصادية. وحدها المسألة المالية تربك السوريين، خصوصا ان حلفاء دمشق يعانون من ازمة تراجع اسعار النفط. في مقاهي دمشق ترصد طلاق المواطنين للقلق الأمني وترقب مرحلة الحوار في الطريق الى حل الازمة. لكن الأسئلة تتكرر حول سعر صرف الليرة او انعكاساتها الاقتصادية. هناك من يقول : الفائض في انتاج القمح وتصدير الحمضيات وعودة الحياة الى الصناعات الغذائية يطمئن بإنتظار المزيد.

المصدر : عباس ضاهر - النشرة


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة