في أكثر التقارير الأميركية تفاؤلاً والتي تتحدّث عن دعم "المُعارضة السورية المُعتدلة" (والمقصود بهذا التعبير هو الجماعات المُنضوية خصوصاً في صفوف "الجيش السوري الحرّ" والمنظمّات المُنبثقة منه)، فإنّ سيطرة هذه الفئة ميدانياً في سوريا آخذة بالتراجع والإنكماش بشكل مُتواصل منذ أكثر من سنة ونصف السنة. وفي الأسابيع القليلة الماضية، خسرت هذه الجماعات السورية المعارضة المُصنّفة "مُعتدلة"، المزيد من الأراضي في كلّ من حلب وإدلب، مع تسجيل تقدّم لصالح الجيش السوري النظامي في بعض الأماكن، ولصالح الجماعات الإسلاميّة القريبة من تنظيم "القاعدة"، مثل "جبهة النصرة"، في بعض الأماكن الأخرى. والحديث الأميركي الإعلامي عن دعم جماعات "المُعارضة السُورية المُعتدلة"، المُستمرّ منذ إندلاع الحرب في سوريا في منتصف آذار 2011، والذي تصاعد عند إنطلاق أولى العمليّات العسكريّة ضد تنظيم "داعش" في سوريا مُنتصف أيلول الماضي، صار محطّ سخريّة واسعة، لأنّه وباستثناء بعض الدعم اللوجستي هنا، وبعض التدريب الميداني المحدود هناك، وبعض المدّ المعلوماتي الإستخباري هنالك، لا تَحظى المُعارضة السورية بأيّ دعم جدّي من الولايات المتحدة الأميركية. حتى أنّ ما تمّ إعلانه في الأسابيع القليلة الماضية عن تخصيص 500 مليون دولار أميركي لتدريب نحو 5,000 مُقاتل سوري من "المعارضة المُعتدلة" على مدى سنة كاملة، لن يبدأ إلا في الربيع المقبل، أي في الذكرى الرابعة لإندلاع الأزمة السورية، علماً أنّ تحضير خمسة آلاف مقاتل لا يُغيّر شيئاً في المُعادلة السورية القائمة.

وبحسب خبراء متابعين للوضع في سوريا، إنّ تنظيمات "المُعارضة السوريّة المُعتدلة" تمرّ حالياً في أكثر مراحلها سوءاً، لأسباب متعدّدة أبرزها:

أوّلاً: إنّ الجيش السوري يُركّز هجماته وغاراته على مواقعها ومراكزها، لأنّ القيادة السورية تعلم علم اليقين أنّ نجاح "الجيش السوري الحرّ" في التحوّل إلى قوّة مُقاتلة فعليّة، هو الخطر الأكبر الذي يواجهه، لأنّه سيُصبح للغرب عندها بديل فعلي للنظام.

ثانياً: إنّ تنظيم "داعش" وغيره من "التنظيمات الإسلاميّة المُتشدّدة" لا يتردّدون في مهاجمة وحدات "المُعارضة السُوريّة المُعتدلة"، ليس إنطلاقاً من خلافات على مستوى مصالح ونزاعات القوى الإقليميّة الخارجيّة الداعمة فحسب، ولا بسبب الخلافات العقائديّة الدينيّة أيضاً، وإنّما لأنّ التنظيمات الإسلامية المُتشدّدة تعيب على "الجيش السوري الحرّ" وغيرها من الفصائل المعارضة "المُعتدلة" تلقّيها السلاح من أميركا والدول الغربيّة، علماً أنّ كميّات هذه الأسلحة محدودة إلى درجة تحول دون التمكّن من الدفاع عن النفس.

 

ثالثاً: إنّ الكثير من العناصر المعارضين للنظام، والذين إنخرطوا في أولى مراحل الأزمة السورية، في فصائل معارضة "مُعتدلة"، عادوا وإلتحقوا بتنظيمات إسلاميّة متشدّدة، لأسباب ماليّة في أغلب الأحيان، ولأسباب عملانيّة أيضاً، حيث أنّ هؤلاء المُعارضين لا يستطيعون العودة إلى مناطق سيطرة النظام السوري، وهم غير قادرين على إخلاء المناطق التي فرّوا إليها، الأمر الذي أرغمهم على إعلان الولاء للجماعات الإسلامية الي فرضت سيطرتها عليها. 

رابعاً: إنّ معنويّات جماعات "المُعارضة السورية المُعتدلة" متدنّية جداً، نتيجة خيبات الأمل المتكرّرة من الوضعين السياسي والعسكري في سوريا، بعد قرابة أربع سنوات على إندلاع الحرب، بينما يتحصّن المُنتمون إلى الجماعات الإسلاميّة المُسلّحة بالعقائد الدينيّة لرفع معنوياتهم. وبالأصل، إنّ الهدف النهائي بين الطرفين مُختلف تماماً، حيث أنّ "المُعتدلين" يَعتبرون أنّ النصر لا يتحقّق إلا بإسقاط النظام السوري، بينما هدف "المتشدّدين" يتمثّل بإقامة "حُكم الإسلام" في المناطق التي يُسيطرون عليها.

وبالتالي، في تقييم سريع للوضع الميداني في سوريا، يُمكن القول إنّ الجغرافيا السورية مُوزّعة حالياً بين ثلاث قوى رئيسة، هي الجيش السوري، وتنظيم "داعش"، وتنظيم "جبهة النصرة" وحلفاؤه، مع بعض الإستثناءات المحدودة، لبعض المنظّمات الكرديّة هنا، ولبعض القوى المُصنّفة "معارضة مُعتدلة" هناك. ويُمكن القول أيضاً إنّ الرئيس السوري بشّار الأسد نجح إلى حدّ بعيد، عبر التكتيكات التي إتبعها منذ إندلاع الأزمة في سوريا، في جعل خيار الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربيّة مُربكاً إلى أقصى الدرجات، لأنّه محصور بين الحفاظ على نظامه من جهة أو تحمّل نتائج سيطرة الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة من جهة أخرى. وحتى تاريخه، إنّ هذا الإرباك الذي يتمثّل خصوصاً في غياب الإستراتيجيّة الواضحة إزاء سُبل التعامل مع الأزمة السورية، ينعكس سلباً على "المعارضة السوريّة المُعتدلة" التي لم يعد دورها مؤثّراً في المعادلة القائمة بسوريا، وكلّ ما تحظى به حالياً لا يتعدّى مسألة الوعود المُستقبليّة البرّاقة، علماً أنّ نجاح أيّ "ثورة" في أي مكان في العالم يتطلّب أكثر بكثير من مجرّد وعود فارغة!

  • فريق ماسة
  • 2014-12-11
  • 11975
  • من الأرشيف

الأسد جعل الخيار في سورية صعباً للأميركيّين...

في أكثر التقارير الأميركية تفاؤلاً والتي تتحدّث عن دعم "المُعارضة السورية المُعتدلة" (والمقصود بهذا التعبير هو الجماعات المُنضوية خصوصاً في صفوف "الجيش السوري الحرّ" والمنظمّات المُنبثقة منه)، فإنّ سيطرة هذه الفئة ميدانياً في سوريا آخذة بالتراجع والإنكماش بشكل مُتواصل منذ أكثر من سنة ونصف السنة. وفي الأسابيع القليلة الماضية، خسرت هذه الجماعات السورية المعارضة المُصنّفة "مُعتدلة"، المزيد من الأراضي في كلّ من حلب وإدلب، مع تسجيل تقدّم لصالح الجيش السوري النظامي في بعض الأماكن، ولصالح الجماعات الإسلاميّة القريبة من تنظيم "القاعدة"، مثل "جبهة النصرة"، في بعض الأماكن الأخرى. والحديث الأميركي الإعلامي عن دعم جماعات "المُعارضة السُورية المُعتدلة"، المُستمرّ منذ إندلاع الحرب في سوريا في منتصف آذار 2011، والذي تصاعد عند إنطلاق أولى العمليّات العسكريّة ضد تنظيم "داعش" في سوريا مُنتصف أيلول الماضي، صار محطّ سخريّة واسعة، لأنّه وباستثناء بعض الدعم اللوجستي هنا، وبعض التدريب الميداني المحدود هناك، وبعض المدّ المعلوماتي الإستخباري هنالك، لا تَحظى المُعارضة السورية بأيّ دعم جدّي من الولايات المتحدة الأميركية. حتى أنّ ما تمّ إعلانه في الأسابيع القليلة الماضية عن تخصيص 500 مليون دولار أميركي لتدريب نحو 5,000 مُقاتل سوري من "المعارضة المُعتدلة" على مدى سنة كاملة، لن يبدأ إلا في الربيع المقبل، أي في الذكرى الرابعة لإندلاع الأزمة السورية، علماً أنّ تحضير خمسة آلاف مقاتل لا يُغيّر شيئاً في المُعادلة السورية القائمة. وبحسب خبراء متابعين للوضع في سوريا، إنّ تنظيمات "المُعارضة السوريّة المُعتدلة" تمرّ حالياً في أكثر مراحلها سوءاً، لأسباب متعدّدة أبرزها: أوّلاً: إنّ الجيش السوري يُركّز هجماته وغاراته على مواقعها ومراكزها، لأنّ القيادة السورية تعلم علم اليقين أنّ نجاح "الجيش السوري الحرّ" في التحوّل إلى قوّة مُقاتلة فعليّة، هو الخطر الأكبر الذي يواجهه، لأنّه سيُصبح للغرب عندها بديل فعلي للنظام. ثانياً: إنّ تنظيم "داعش" وغيره من "التنظيمات الإسلاميّة المُتشدّدة" لا يتردّدون في مهاجمة وحدات "المُعارضة السُوريّة المُعتدلة"، ليس إنطلاقاً من خلافات على مستوى مصالح ونزاعات القوى الإقليميّة الخارجيّة الداعمة فحسب، ولا بسبب الخلافات العقائديّة الدينيّة أيضاً، وإنّما لأنّ التنظيمات الإسلامية المُتشدّدة تعيب على "الجيش السوري الحرّ" وغيرها من الفصائل المعارضة "المُعتدلة" تلقّيها السلاح من أميركا والدول الغربيّة، علماً أنّ كميّات هذه الأسلحة محدودة إلى درجة تحول دون التمكّن من الدفاع عن النفس.   ثالثاً: إنّ الكثير من العناصر المعارضين للنظام، والذين إنخرطوا في أولى مراحل الأزمة السورية، في فصائل معارضة "مُعتدلة"، عادوا وإلتحقوا بتنظيمات إسلاميّة متشدّدة، لأسباب ماليّة في أغلب الأحيان، ولأسباب عملانيّة أيضاً، حيث أنّ هؤلاء المُعارضين لا يستطيعون العودة إلى مناطق سيطرة النظام السوري، وهم غير قادرين على إخلاء المناطق التي فرّوا إليها، الأمر الذي أرغمهم على إعلان الولاء للجماعات الإسلامية الي فرضت سيطرتها عليها.  رابعاً: إنّ معنويّات جماعات "المُعارضة السورية المُعتدلة" متدنّية جداً، نتيجة خيبات الأمل المتكرّرة من الوضعين السياسي والعسكري في سوريا، بعد قرابة أربع سنوات على إندلاع الحرب، بينما يتحصّن المُنتمون إلى الجماعات الإسلاميّة المُسلّحة بالعقائد الدينيّة لرفع معنوياتهم. وبالأصل، إنّ الهدف النهائي بين الطرفين مُختلف تماماً، حيث أنّ "المُعتدلين" يَعتبرون أنّ النصر لا يتحقّق إلا بإسقاط النظام السوري، بينما هدف "المتشدّدين" يتمثّل بإقامة "حُكم الإسلام" في المناطق التي يُسيطرون عليها. وبالتالي، في تقييم سريع للوضع الميداني في سوريا، يُمكن القول إنّ الجغرافيا السورية مُوزّعة حالياً بين ثلاث قوى رئيسة، هي الجيش السوري، وتنظيم "داعش"، وتنظيم "جبهة النصرة" وحلفاؤه، مع بعض الإستثناءات المحدودة، لبعض المنظّمات الكرديّة هنا، ولبعض القوى المُصنّفة "معارضة مُعتدلة" هناك. ويُمكن القول أيضاً إنّ الرئيس السوري بشّار الأسد نجح إلى حدّ بعيد، عبر التكتيكات التي إتبعها منذ إندلاع الأزمة في سوريا، في جعل خيار الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربيّة مُربكاً إلى أقصى الدرجات، لأنّه محصور بين الحفاظ على نظامه من جهة أو تحمّل نتائج سيطرة الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة من جهة أخرى. وحتى تاريخه، إنّ هذا الإرباك الذي يتمثّل خصوصاً في غياب الإستراتيجيّة الواضحة إزاء سُبل التعامل مع الأزمة السورية، ينعكس سلباً على "المعارضة السوريّة المُعتدلة" التي لم يعد دورها مؤثّراً في المعادلة القائمة بسوريا، وكلّ ما تحظى به حالياً لا يتعدّى مسألة الوعود المُستقبليّة البرّاقة، علماً أنّ نجاح أيّ "ثورة" في أي مكان في العالم يتطلّب أكثر بكثير من مجرّد وعود فارغة!

المصدر : ناجي س. البستاني - النشرة


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة