مارست أوروبا على مدى العقود الماضية, إن لم يكن في قرون خَلَت دوراً عدائياً تجاه الكثير من الشعوب، ورغم حالة المهادنة المرحلية التي شهدها النصف الثاني من القرن الماضي،

ومحاولات إغلاق صفحات الماضي بمرّه ومرارته وتجاوز تركته الثقيلة، فإنّ أوروبا لم تتوقف عن نكء الجراح كلما لاحت في الأفق فرصة لإيقاظ ماضيها الاستعماري ومفردات الأطماع بنسخة أكثر عدائية لكنها أيضاً أكثر بدائية.

الأدهى.. تجسّد على الدوام في العقدين الأخيرين، وربما في السنوات الأخيرة على وجه الدقة، في عقدة الأوروبي التابع للسياسة الأميركية، والمنفّذ الأمين لمتطلبات الهيمنة الأميركية وما تقتضيه من أدوار ظلّ، وأحياناً العمل بموجب توكيلات أميركية حصرية لتنفيذ الأدوار القذرة التي نأت أميركا بنفسها من الغوص في أوحالها.

وفيما كان الاعتقاد السائد لدى الكثير من الساسة الغربيين بضرورة الخلاص من عقدة النمطية للتبعية الأميركية، جاءت الاجتهادات والخروج على النص الأميركي فاقعة وأكثر وبالاً على العالم والمنطقة تحديداً، وقدمت نماذج من السياسة الأوروبية القاصرة والمتهوّرة، و«برع» الجيل المتواضع من ساسة أوروبا في اجتراع صبيانية سياسية وحماقة وتهوّر أدى في كل نماذجه المعتمدة إلى كوارث بالجملة.

التهوّر الأوروبي لم يقتصر على تلك العينات العشوائية الراسخة في الوجدان الأوروبي كجزء من القطيعة مع الماضي ومع أصول الفهم للعلاقات الدولية والدور الأوروبي المنهار والمفكك، بل امتد ليشمل في الكفّة الأخرى من التهوّر استفاقة أوروبية على العودة إلى الأدوار القذرة بمبادرة ذاتية تعبوية تحاول أن تنهم من الإرث الاستعماري ومن تركة الأطماع التي بالغت في ظهورها بالتوازي مع رعونة طفت على سطح الجيل الذي يقود أوروبا إلى الهاوية, بعد أن وصلت التداعيات إلى طرق أبواب أوروبا، وفي مقدمتها سياسة دعم الإرهاب الذي يجول داخل المدن الأوروبية بحثاً عن ملاذات احتياطية لعملياته المستقبلية.

وفيما كان التعويل على صحوة أوروبية نتيجة الهلع من رحلة عودة الإرهاب، وانكشاف الدور الوسخ للأصابع الأوروبية في دعمه وتشجيع الدول الحاضنة له والمموّلة - بصفتها الوظيفية - بصفقات مشبوهة ومتاجرات رخيصة، جاءت سياسة الاتحاد الأوروبي لتغرق أكثر في مستنقع مزايدات فردية لبعض القادة الأوروبيين المهووسين بصفقات المال الشخصية على حساب المصالح الحيوية للاتحاد بالصفة الجماعية والفردية، وتتماشى مع فهمها لدورها على المسرح الدولي في محاكاة كارثية للغة الأطماع بطابعها العدائي الوضيع.

وأفردت ضحالة المستند السياسي مساحات مرضية أسهبت في تورّم العقل السياسي الأوروبي بنسخته الفرنسية والبريطانية، والإصرار على استخدام أكثر اللغات البائدة في العلاقات الدولية وفي مقدمتها لغة العقوبات، باعتبارها احترافاً أميركياً بوكالة معتمدة لتبالغ أوروبا في استنساخها على نحو مشوّه، ما خلق فجوات تهدد بهزّات ارتدادية ستدفع أوروبا قبل غيرها ثمنها، وجاءت الإضافات الأخيرة والدور الأوروبي المباشر وغير المباشر في تفشّي الإرهاب لتميط اللثام عن تفكير أجوف ومتهالك يتحكم بالقرار الأوروبي، ولا يريد أن يستفيد من دروس الماضي وتجارب الحاضر الماثلة بخطر الإرهاب وارتداداته اللاحقة.

الأمر لا يتعلق فقط بالمحتوى الأخلاقي الوضيع لمنطق العقوبات، ولا بالوظيفية التابعية في التحريض وتأجيج الصراعات وزرع بذور الانفجارات المفصلية في تاريخ المنطقة والعالم، بل أيضاً باستدراج حالة من الإدمان السياسي الذي يستولد بالضرورة ارتدادات مشابهة له ومن صميمه، خصوصاً مع انزلاق القرار الأوروبي إلى عنق الزجاجة ووقوعه في مصيدة العجز الفاضح والفشل المتلاحق في كل ما أقدمت عليه تحت هذا العنوان أو غيره مهما تكن جغرافية الشعوب المستهدفة، خصوصاً حين يترافق بحالة من العدائية الشعوبية والعنصرية وأحياناً بكثير من الفوقية في النظرة والممارسة.

أوروبا الخارجة من عباءة الاستعمار والقادمة بلبوس الأطماع المعلنة، والمدججة بأشكال العدوان المختلفة، والمتكئة على أذرع الإرهاب وقاعدته من الدول الوظيفية، تنزلق في سراديب أطماعها، وتدوس على شعاراتها وما صدّرته للبشرية من أطنان الدعاية السياسية الرخيصة.

 

وأوروبا ذاتها.. تستلهم إرثها الاستعماري وهي ترفع راية العودة من الأبواب القذرة، التي تصطاد فيها بصفقات شخصية رخيصة لسياسيين أوغلوا في لعبة المتاجرة بمصير العلاقات الدولية بحكم ما ولّدته تلك الممارسات من أخطار محدقة بالبشرية كانت في الماضي عنوان الصراعات التي امتدت لقرن من الزمن على مقامات خرائط «سايكس بيكو»، وتؤسس اليوم لصراعات قرن قادم على رقعة «داعش» و«النصرة» وأخواتهما ومشتقاتهما من تنظيمات الإرهاب العابر للمكان والزمن والتوقيت.

 

  • فريق ماسة
  • 2014-10-25
  • 11150
  • من الأرشيف

أوروبا.. من خرائط «سايكس بيكو» إلى رقعة «داعش»

مارست أوروبا على مدى العقود الماضية, إن لم يكن في قرون خَلَت دوراً عدائياً تجاه الكثير من الشعوب، ورغم حالة المهادنة المرحلية التي شهدها النصف الثاني من القرن الماضي، ومحاولات إغلاق صفحات الماضي بمرّه ومرارته وتجاوز تركته الثقيلة، فإنّ أوروبا لم تتوقف عن نكء الجراح كلما لاحت في الأفق فرصة لإيقاظ ماضيها الاستعماري ومفردات الأطماع بنسخة أكثر عدائية لكنها أيضاً أكثر بدائية. الأدهى.. تجسّد على الدوام في العقدين الأخيرين، وربما في السنوات الأخيرة على وجه الدقة، في عقدة الأوروبي التابع للسياسة الأميركية، والمنفّذ الأمين لمتطلبات الهيمنة الأميركية وما تقتضيه من أدوار ظلّ، وأحياناً العمل بموجب توكيلات أميركية حصرية لتنفيذ الأدوار القذرة التي نأت أميركا بنفسها من الغوص في أوحالها. وفيما كان الاعتقاد السائد لدى الكثير من الساسة الغربيين بضرورة الخلاص من عقدة النمطية للتبعية الأميركية، جاءت الاجتهادات والخروج على النص الأميركي فاقعة وأكثر وبالاً على العالم والمنطقة تحديداً، وقدمت نماذج من السياسة الأوروبية القاصرة والمتهوّرة، و«برع» الجيل المتواضع من ساسة أوروبا في اجتراع صبيانية سياسية وحماقة وتهوّر أدى في كل نماذجه المعتمدة إلى كوارث بالجملة. التهوّر الأوروبي لم يقتصر على تلك العينات العشوائية الراسخة في الوجدان الأوروبي كجزء من القطيعة مع الماضي ومع أصول الفهم للعلاقات الدولية والدور الأوروبي المنهار والمفكك، بل امتد ليشمل في الكفّة الأخرى من التهوّر استفاقة أوروبية على العودة إلى الأدوار القذرة بمبادرة ذاتية تعبوية تحاول أن تنهم من الإرث الاستعماري ومن تركة الأطماع التي بالغت في ظهورها بالتوازي مع رعونة طفت على سطح الجيل الذي يقود أوروبا إلى الهاوية, بعد أن وصلت التداعيات إلى طرق أبواب أوروبا، وفي مقدمتها سياسة دعم الإرهاب الذي يجول داخل المدن الأوروبية بحثاً عن ملاذات احتياطية لعملياته المستقبلية. وفيما كان التعويل على صحوة أوروبية نتيجة الهلع من رحلة عودة الإرهاب، وانكشاف الدور الوسخ للأصابع الأوروبية في دعمه وتشجيع الدول الحاضنة له والمموّلة - بصفتها الوظيفية - بصفقات مشبوهة ومتاجرات رخيصة، جاءت سياسة الاتحاد الأوروبي لتغرق أكثر في مستنقع مزايدات فردية لبعض القادة الأوروبيين المهووسين بصفقات المال الشخصية على حساب المصالح الحيوية للاتحاد بالصفة الجماعية والفردية، وتتماشى مع فهمها لدورها على المسرح الدولي في محاكاة كارثية للغة الأطماع بطابعها العدائي الوضيع. وأفردت ضحالة المستند السياسي مساحات مرضية أسهبت في تورّم العقل السياسي الأوروبي بنسخته الفرنسية والبريطانية، والإصرار على استخدام أكثر اللغات البائدة في العلاقات الدولية وفي مقدمتها لغة العقوبات، باعتبارها احترافاً أميركياً بوكالة معتمدة لتبالغ أوروبا في استنساخها على نحو مشوّه، ما خلق فجوات تهدد بهزّات ارتدادية ستدفع أوروبا قبل غيرها ثمنها، وجاءت الإضافات الأخيرة والدور الأوروبي المباشر وغير المباشر في تفشّي الإرهاب لتميط اللثام عن تفكير أجوف ومتهالك يتحكم بالقرار الأوروبي، ولا يريد أن يستفيد من دروس الماضي وتجارب الحاضر الماثلة بخطر الإرهاب وارتداداته اللاحقة. الأمر لا يتعلق فقط بالمحتوى الأخلاقي الوضيع لمنطق العقوبات، ولا بالوظيفية التابعية في التحريض وتأجيج الصراعات وزرع بذور الانفجارات المفصلية في تاريخ المنطقة والعالم، بل أيضاً باستدراج حالة من الإدمان السياسي الذي يستولد بالضرورة ارتدادات مشابهة له ومن صميمه، خصوصاً مع انزلاق القرار الأوروبي إلى عنق الزجاجة ووقوعه في مصيدة العجز الفاضح والفشل المتلاحق في كل ما أقدمت عليه تحت هذا العنوان أو غيره مهما تكن جغرافية الشعوب المستهدفة، خصوصاً حين يترافق بحالة من العدائية الشعوبية والعنصرية وأحياناً بكثير من الفوقية في النظرة والممارسة. أوروبا الخارجة من عباءة الاستعمار والقادمة بلبوس الأطماع المعلنة، والمدججة بأشكال العدوان المختلفة، والمتكئة على أذرع الإرهاب وقاعدته من الدول الوظيفية، تنزلق في سراديب أطماعها، وتدوس على شعاراتها وما صدّرته للبشرية من أطنان الدعاية السياسية الرخيصة.   وأوروبا ذاتها.. تستلهم إرثها الاستعماري وهي ترفع راية العودة من الأبواب القذرة، التي تصطاد فيها بصفقات شخصية رخيصة لسياسيين أوغلوا في لعبة المتاجرة بمصير العلاقات الدولية بحكم ما ولّدته تلك الممارسات من أخطار محدقة بالبشرية كانت في الماضي عنوان الصراعات التي امتدت لقرن من الزمن على مقامات خرائط «سايكس بيكو»، وتؤسس اليوم لصراعات قرن قادم على رقعة «داعش» و«النصرة» وأخواتهما ومشتقاتهما من تنظيمات الإرهاب العابر للمكان والزمن والتوقيت.  

المصدر : علي قاسم


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة