دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
مقولة تنسبها المراجع الجامعية الفرنسية لـ«نابليون بونابرت». من هذا المنطلق يبدو كل من السياسة والجغرافية ملازمتان لمفهوم الدولة، ومنهما نشأ مفهوم «الجيوبولوتيك»، وعليه فإن المشكلة لا تبدو في الثابت الذي هو الجغرافية، لكن علينا النظر للمتحول الذي هو السياسة.
في مفهوم الجيوبولوتيك، لسنا مطَالبين بأن نتحدث عن الأيديولوجيات الفكرية أو النظريات السياسية، أو حتى مداعبة فكر القارئ أو المشاهد بأفكار منمّقة تبدو بالنسبة له معقدة أكثر مما يحاول البعض تبسيطها.
ليس المهم أن نتحدث عن العمى الفكري والأخلاقي الذي لفَّ جزأً لا يُستهان به من أبناء الوطن في محاولة منهم للعودة بنا إلى العصور الحجرية «يبدو أننا مع ما يجري سنكون سعداء إن اكتفوا فقط بإعادتنا لعصر الخلافة»، ولا حتى عن الجهل الإنساني أو الفشل الإستراتيجي الذي لفَّ العالم خلال أربع سنوات من مراحل إدارته للصراع مع سورية أو على سورية. الأهم أن نعي تماماً أن الفكرة الأساسية في الجيوبولتيك تنطلق أساساً من الواقع، أي الوضع القائم على الأرض وما يُراد له أن يكون عبر الإرادة السياسية والمشيئة العسكرية.
لا مكان للإيديولوجيات، لقد سئم القرَّاء وملَّ المواطن الذي يدفع يومياً ثمن هذه الحرب فكرة قيام عتاة المناهج السياسية ومروجي الأدبيات الحزبية على اختلاف تسمياتهم بمحاولة ربط أي حدث وكأنه صراع يستهدفهم في الفكر والعقيدة. عليهم أن يعوا أن الجغرافية السياسية ولِدت مع ولادة الوطن، وهي موجودة قبل النظريات والأيديولوجيات بآلاف السنين. بالتأكيد ليس هدف هذه الحرب الضروس ضرب الفكر الذي ينادي بعودة جزيرة قبرص للوطن الأم سورية، كذلك الأمر من المستحيل على المواطن البسيط فكرياً «مثلنا» أن يقتنع أن هذه الحرب لها هدف وحيد وهو منع الوحدة الميمونة بين أقطار المنطقة من المحيط إلى الخليج، مع إمكانية أن ترتدي المنطقة بالكامل ثوب الماركسية، التي هي حسبما يعتقدون الحل الوحيد في وجه التطرف الديني!
يوماً ما كتب «ابن خلدون» عن فكرة انهيار الدول، معتبراً أن الدول تبدأ بالتفكك من الأطراف. ليس صحيحاً أن ما كتبه «ابن خلدون» منذ قرون قد يصلح للاستشهاد به في كل عصر، هي تماماً كمحاولة من يسمونهم «مثقفي الثورة» تكرار الحديث عما قامت به الثورة الفرنسية والاستشهاد به لإسقاطه على الفكر التنويري لثوار «كفر نبل» مثلاً. لا يستوي الأمران، فالحديث عن تفكك الدول من الأطراف الذي عناه «ابن خلدون» ينتج من الوضع الداخلي، أو ما يمكن تسميته اصطلاحاً «ترهل المركز». لكن ماذا عندما يسعى البعض لتفكيك الدول بدءاً من الأطراف؟! هنا يأتي مفهوم الجيوبولتيك ليشرح لنا ما يُراد لسورية والمنطقة من خلال ما يجري على حدودها.
لم يعد لسورية منفذ إلا على البحر، هذا ما تحاول العديد من مراكز الأبحاث «المسبقة الدفع» أن تروج له هذه الأيام. بالتأكيد لا يبدو هذا الكلام بعيداً عن سعي الحلف المعادي لفرض أمرٍ واقع، وبالتالي تتجلى هنا أهمية ما يسمى الصراع على سورية، وهي عبارة ليس علينا أن نخجل منها أبداً، ولا أن نحاول تجميلها بالحديث فقط عن الصراع مع سورية، فالأمران متكاملان. ليس هناك صراع مع سورية لو لم يكن الأمر في الأساس صراعاً على سورية، وإلا فإننا نبخس الجغرافية السياسية والمكانة الإقليمية حقها.
تبدو الفكرتان أشبه بكرتين تتدحرجان باتجاهين متعاكسين تنتظران لحظة الصدم، تلك اللحظة هي من ستحدد مسافة الارتداد لكل مشروع والطاقة الناتجة عنه.
المشروع الأول وهو المتمثل بمشروع الصراع مع سورية، وفيه اختارت القيادة السورية أن تتخذ خط المواجهة من المركز باتجاه الأطراف، تتحكم الجغرافية الصحراوية التي تسيطر على مسافات شاسعة من أراضي الوطن بسير العمليات. كان ولا يزال هدف القيادة السورية تأمين المدن الأساسية والانطلاق نحو المدن والمناطق التي خرجت بشكل كامل عن سيطرة الدولة، عبر العصابات التي تلتحف الدين لتحقق مشروعها كـ«الجبهة الإسلامية» و«النصرة» وداعش، أو عبر متطرفين انفصاليين يشعرون بعُقد النقص القومية تجاه وطنهم. كان المحور المعادي يراهن في كل مرة على استحالة سقوط منطقة ما، لأنه ربما يمتلك معلومات كاملة عن ما تمتلكه العصابات الإرهابية من عتادٍ وعتيد، لكنه يستيقظ في كل مرة ليجد أن المنطقة باتت «عيونها خضراً» كما يحلو لنا أن نسمي كل منطقة يتم تحريرها. منذ أيام سقطت «مورك»، وهذا السقوط ليس بالأمر السهل، لأنه ببساطة سقوط جديد للطموح الأردوغاني. سقوط «مورك» بكل بساطة بات ينتظر سقوط «الزربة» في ريف حلب، والتي تقع على مرتفع يشرف على «الأتوستراد الدولي» لتصبح معه جميع التشكيلات الإرهابية انطلاقاً من «خان شيخون» جنوباً حتى معبر «باب الهوى» شمالاً مكشوفة. كان هذا التكتيك المتبع بالانطلاق من المركز نحو الأطراف ناجحاً حتى الآن، إذ تمكنت فيه القيادة السورية من خلق عدة مراكز والتمدد دائرياً نحو الأطراف كما حدث في «بابا عمرو» و«القصير» وحتى «السفيرة». لكن علينا أن نعترف أيضاً أنه في الوقت ذاته فإن المشروع الآخر المتمثل بالصراع على سورية ينطلق بالاتجاه المعاكس محاولاً عزل الحدود السورية بشكل كامل عن الدول التي تحيط بها. نجحوا في ذلك شمالاً وشرقاً، حتى معارك الجهة الغربية في القلمون والقصير كانت لذات السبب، لكنها فشلت، واليوم تجري المعركة جنوباً في محاولة فعلية لتكريس مقولة: لا منفذ لسورية إلا عبر البحر.
اليوم، يحاول الحلف المعادي أن يفتح الصفحة الأخيرة من كتاب تفكيك الدول ذاتياً، فهو يدرك تماماً أن الوضع في الشمال لن يتطور لأكثر من ذلك، تحديداً أنهم مدركون أن «العدالة والتنمية» ليس أكثر من مجرد ظاهرة هوائية نفخوها بأنفسهم، وسيعيدونها لحجمها الطبيعي عاجلاً أم آجلاً. كذلك الوضع بالنسبة للمنطقتين الشرقية والغربية مع كل من لبنان والعراق. فكان البديل الذي يفضله أغلب المتآمرين هو الجنوب.
إنّ لحظة انطلاق الكرة للتدحرج تكون فيها الطاقة الكامنة هي الأكبر، وتبدأ باستهلاك طاقتها الكامنة حتى تصل إلى لحظة التلاشي. يبدو الكيان الصهيوني ومملكة «شرقي نهر الأردن» هما الطاقة الكامنة التي يرغب الحلف المعادي باستخدامهما لعزل الجنوب السوري. تحركٌ يريده «آل سعود» وسعوا إليه منذ زمن، ففي الغرب كانوا يرون أن الحكومة العراقية لايمكن لها أن تكون في حلفهم فجرت معاقبة العراق، وفي الشمال يبدو صراع «الخلافة» مع أحفاد «المجرم سليم» على أشده، فلماذا لا نتجه جنوباً. في أي معركة، لكي تكسبها قد تبدو مضطراً أن تضحي بجنود أو عتاد، لكن هل يعي من قرر الانخراط في هذه المعركة أن زج مملكة «شرقي نهر الأردن» في معركة كهذه يعني وضعها على لائحة الأضاحي القادمة، لكن للأسف وضعه كدولة وليس كنظام.
منذ أيام نشرت «غراند إستراتيجي» تقريراً أكدت فيه أن الملك الأردني يغامر بالدخول في الحرب على داعش مع الولايات المتحدة لأنه ببساطة لا يحتمل رد فعل داعش في عمق أراضيه. نحن هنا نستعير منها لنقول: فهل سيحتمل الدخول في معركة مع الكيان الصهيوني لعزل الجنوب السوري؟ هذا السؤال ليس باستطاعتنا أن نجيب عليه، لكن ما نعلمه دائماً أن الفكر الرجعي في المنطقة مبني أساساً على فكرة الثأر. ربما هناك من لا يزال يريد الثأر من سورية لأنها حمت الفلسطينيين فيما يسمونه أحداث «أيلول الأسود» عام 1970، يومها أراد الملك الأب أن يتحالف مع الكيان الصهيوني ضد سورية والمقاومة الفلسطينية، إذ تقول الوثائق الأميركية أن «هنري كيسنجر» أبلغ سفير الكيان الصهيوني في واشنطن يومها «إسحق رابين» مساء يوم 20 أيلول 1970 طلب ورغبة ملك الأردن حسين، بواسطة السفير البريطاني في عمان، بأن يتدخل سلاح الجو «الإسرائيلي» لمهاجمة المدرعات السورية التي اقتحمت الحدود الشمالية للأردن. اليوم يبدو الأمر نسخة طبق الأصل لا أكثر، مع فرق بسيط أنه في العام 1970 لم يكن هناك تنظيمات متطرفة «تسرح على هواها» على الحدود مع سورية وعلى الحدود مع فلسطين المحتلة. يعي «الإسرائيليون» تماماً حدود الصراع وحدود المسموح والممنوع، وأنّ القيادة السورية عندما ستتخذ قراراً بإنهاء العصابات المسلحة في الجنوب فإنها ستفعل ولو كان الثمن حرباً شاملة، باعتبار أن الحرب قائمة أساساً، لكن ما حدود الصراع التي يعيها الملك الأردني؟ هل يمكننا أن نشرح له مثلاً أن العصابات الإرهابية قد ترسم بالرايات السوداء حدود الوطن البديل؟ تحديداً عند من يجهل «فن الجيوبوليتيك»، ذاك الفن الذي علّمنا دائماً أن نثق بأن محور انتصارات هذه الأمة تتلخص بكلمة واحدة، كانت ولا تزال ويبدو أنها مستمرة.. (جنوب).
المصدر :
الوطن
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة