يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة لا تسعى، عملياً، إلى القضاء على داعش، سواء الآن أو في المستقبل القريب. خلاصة نستنتجها من غياب التفسير المنطقي لتجنّب إلحاق ضرر مباشر بـ«داعش»، أو لهدر ملايين الدولارات على أهداف لا قيمة لها

لا يمكن من يراقب العملية الأميركية، التي انطلقت أخيراً ضد «داعش» أن يتخلص من شعور قاهر بالارتياب، يتصاعد كلما تكشف المزيد من التفاصيل حول ما يحصل في شمالي وشرقي سورية. حتى لو قرر هذا المراقب أن يتجاوز تفاصيل مهمة، مثل درجة التنسيق السوري الأميركي وما يبدو أنه تضارب في آراء حلفاء دمشق، ويؤجل أسئلة ملحّة من قبيل: كيف يمكن الوثوق بخطة أميركية جزء منها هو الضربات الجوية والجزء الآخر هو تدريب مقاتلي المعارضة السوريةوتسليحهم؟ وهل يمكن الوثوق بالمقاتلات التابعة لأطراف التحالف الأخرى في سماء سوريا؟

لا يمكن لعاقل أن يتغلب على شعور الريبة المهيمن حتى لو تم تأجيل مناقشة كل هذه النقاط واقتصر النقاش على الجزء العسكري الميداني البحت.

فقد استغل تنظيم «داعش» الأسابيع الطويلة من النقاش بشأن العمليات العسكرية ضده ليقوم بسحب عدد كبير من آلياته ومقاتليه في سوريا ويفرغ العديد من المقار المعروفة له. هذا ما لاحظه من يسكن بقرب تلك المواقع، حتى إن شوارع الرقة والميادين والبوكمال وغيرها قد خلت من سيارات التنظيم قبل أن تبدأ العمليات العسكرية التي شملت، حتى صباح يوم الجمعة، سلسلتين من العمليات الجوية، تضمنت على الأقل 47 صاروخ «توماهوك» وأكثر من مئة غارة جوية، بواسطة أكثر من 30 طائرة في المرة الأولى و16 طائرة في الثانية. كان الهدف هو مقار ومعسكرات تدريب ومراكز تمويل ومنشآت تصنيع و«مصافي نفط» يستخدمها تنظيم «داعش». عندما انطلقت العمليات وكُشف عدد الطائرات والصواريخ، توقعنا أن نشاهد حجم دمار يشبه ما شاهدناه في ليبيا والعراق وصربيا وغيرها. ولكن حتى الآن لا يوجد ما يشير إلى حصول مثل هذا الدمار . فالمؤتمر الصحافي الذي عقده البنتاغون بعد السلسلة الأولى من الغارات، وحيث يفترض أن تكون الضربة الأولى هي الأقوى، لم يكشف ما يقنع أن هناك دماراً هائلاً قد لحق بـ»داعش»، بل كشف ما ينقض هذه الرواية في الحقيقة. فقد كانت الصورة الأولى التي تم عرضها هي لما وصفه البنتاغون بأنه «مبنى تمويل» ستخدمه داعش، قبل تعرضه للقص وبعده. كانت تلك الصورة تحتاج إلى الكثير من التمعن لكي يكتشف المرء ما الذي تم تدميره في البناء المقصود. ولكن الناطق العسكري بدّد هذه الحيرة عندما شرح أن صاروخ «توماهوك» قد أصاب هدفه بدقة، حيث انفجر فوقه (air burst) ليدمّر «هوائيات الاتصال» فوق المبنى ويترك باقي المبنى والمباني المجاورة سليمة تماماً.

لماذا يتم إطلاق صاروخ توماهوك، تتراوح كلفته بين 1.5 و2 مليون دولار، ليدمّر «هوائي اتصال»؟ لماذا لم يتم تدمير المبنى نفسه؟ وحتى باقي الصور ومقاطع الفيديو أظهرت، في كثير من الأحيان، أضراراً محدودة في الأبنية. لم نعهد مثل هذا الحرص من الجيش الأميركي الذي لا نتذكر منه سوى القصف المتوحش والمكثف الذي قاده، في مرات كثيرة، ليصيب أهدافاً مدنية وليدمر في أيار 1999 السفارة الصينية في صربيا. لم يكن الأميركيون حذرين هناك، فلماذا كل هذا الحذر والقصف الجراحي المبالغ فيه في ضرب مواقع «داعش» التي تؤكد المصادر الميدانية أن كثيراً منها قد تم إخلاؤه أساساً؟

أما السلسلة الثانية من الضربات، والتي كانت مخصصة لتدمير «مصافي النفط» التي يستعملها التنظيم، فلا يصح لها وصف سوى التعبير الذي استخدم في الأيام الأولى للغزو الأميركي - الأطلسي لأفغانستان، والذي يتحدث عن استخدام صاروخ كلفته مليون دولار لضرب خيمة ثمنها عشرون دولاراً.

 

لا نتذكر من الجيش الأميركي سوى القصف المتوحش

 

فتعبير «مصافي نفط» يحمل الكثير من المبالغة، وحتى التعبير الذي استخدمه البنتاغون modular refineries أي «مصافي مجمعة من أجزاء» يضخّم حجم تلك الأهداف عشرات المرات. فالمصافي البدائية المقصودة، والمنتشرة في العديد من المواقع في شرقي سوريا وشماليها، من البوكمال إلى عين العرب، ليست في الحقيقة سوى معدات بدائية تصنّع في ورشات محلية، وتتألف «المصفاة» المفترضة من خزان صغير للنفط الخام بسعة ألف إلى 10 آلاف ليتر، تُشعل النار تحته ليتبخر النفط وتجري إعادة تكثيفه عبر إمرار هذ البخار في أنبوب يسكب الماء عليه فيخرج من نهاية الأنبوب بعض المشتقات النفطية، المازوت بشكل رئيسي، التي تباع في الأسواق المحلية لاستخدامها في تشغيل مواقد التدفئة ومولدات الكهرباء.

وفي الحقيقة، لا يوجد في شرقي سوريا من يطلق على هذه المعدات البدائية اسم «مصفاة» ، بل إن الاسم المتداول هو «حراقة»، في إشارة إلى آلية عملها. وكلفة تصنيع هذه الحراقات لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات للحراقة الواحدة، والمشتقات النفطية الناتجة منها لا يوجد مشتر لها خارج سوريا، لكونها رديئة وكثيرة الشوائب. ولم يكن تنظيم داعش هو من قام ببناء هذه الحراقات، بل إن قادة ميليشيات «الجيش الحر» وجبهة النصرة، وحلفاءهم من العشائر، هم من فعل ذلك، حيث تم تشغيل المئات من هذه الحراقات خلال العامين الماضيين، قبل أن يأتي تنظيم «داعش» ويسيطر على المنطقة ويحصر حقوق استثمار هذه الحراقات به وحده.

السؤال الآن هو ما جدوى القيام بطلعات جوية تكلف مئات ألوف الدولارات لتدمير حراقات بدائية لا تكلف الواحدة منها ألف دولار في الحد الأقصى؟ فكلفة ساعة الطيران الواحدة لمقاتلة إف-15 مثلاً تتراوح بين 30 و50 ألف دولار، وتزيد الكلفة في حالة الطائرات الأحدث مثل إف-22 ، وشارك في عملية استهداف المصافي 16 مقاتلة حلقت لثلاث ساعات على الأقل. وإذا ما أضفنا كلفة الذخيرة المستخدمة، والتي يزيد عددها على 40 مقذوفاً بحسب البنتاغون، والتي تزيد على خمسة وعشرين ألف دولار للقنبلة الذكية الواحدة، وتصل إلى حوالى نصف مليون دولار للصواريخ، فالحساب النهائي يظهر أن التحالف قد تكلف عدة ملايين من الدولارات، في أقل تقدير، لضرب مواقع مكشوفة لا تزيد قيمتها الاجمالية على بضع ألوف من الدولارات، لا تصل حتى إلى مئة ألف دولار. وقد لا يكون من نافل القول هنا التذكير بأن المورد الحقيقي لـ»داعش» هو من تصدير النفط الخام الذي يمر عبر الجار الأطلسي، تركيا، وليس من الحراقات البدائية التي بالكاد تنتج ما يسد جزءاً من حاجة السكان المحليين إلى المشتقات النفطية في شرقي سوريا وشماليها. أما حقول النفط نفسها، فمن الصعب استهدافها، إلا إذا كانت الولايات المتحدة تسعى لإحداث كارثة بيئية شبيهة بما حصل في الكويت عام 1991، والتي استغرق إطفاء حرائق آبار النفط فيها عدة أشهر وتضافر جهود دولية وميزانيات كبيرة، والوضع الميداني السوري يفتقر إلى كل ما سبق.

 

  • فريق ماسة
  • 2014-09-29
  • 3874
  • من الأرشيف

أميركا تهدر الملايين والنتيجة صفر أهداف

يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة لا تسعى، عملياً، إلى القضاء على داعش، سواء الآن أو في المستقبل القريب. خلاصة نستنتجها من غياب التفسير المنطقي لتجنّب إلحاق ضرر مباشر بـ«داعش»، أو لهدر ملايين الدولارات على أهداف لا قيمة لها لا يمكن من يراقب العملية الأميركية، التي انطلقت أخيراً ضد «داعش» أن يتخلص من شعور قاهر بالارتياب، يتصاعد كلما تكشف المزيد من التفاصيل حول ما يحصل في شمالي وشرقي سورية. حتى لو قرر هذا المراقب أن يتجاوز تفاصيل مهمة، مثل درجة التنسيق السوري الأميركي وما يبدو أنه تضارب في آراء حلفاء دمشق، ويؤجل أسئلة ملحّة من قبيل: كيف يمكن الوثوق بخطة أميركية جزء منها هو الضربات الجوية والجزء الآخر هو تدريب مقاتلي المعارضة السوريةوتسليحهم؟ وهل يمكن الوثوق بالمقاتلات التابعة لأطراف التحالف الأخرى في سماء سوريا؟ لا يمكن لعاقل أن يتغلب على شعور الريبة المهيمن حتى لو تم تأجيل مناقشة كل هذه النقاط واقتصر النقاش على الجزء العسكري الميداني البحت. فقد استغل تنظيم «داعش» الأسابيع الطويلة من النقاش بشأن العمليات العسكرية ضده ليقوم بسحب عدد كبير من آلياته ومقاتليه في سوريا ويفرغ العديد من المقار المعروفة له. هذا ما لاحظه من يسكن بقرب تلك المواقع، حتى إن شوارع الرقة والميادين والبوكمال وغيرها قد خلت من سيارات التنظيم قبل أن تبدأ العمليات العسكرية التي شملت، حتى صباح يوم الجمعة، سلسلتين من العمليات الجوية، تضمنت على الأقل 47 صاروخ «توماهوك» وأكثر من مئة غارة جوية، بواسطة أكثر من 30 طائرة في المرة الأولى و16 طائرة في الثانية. كان الهدف هو مقار ومعسكرات تدريب ومراكز تمويل ومنشآت تصنيع و«مصافي نفط» يستخدمها تنظيم «داعش». عندما انطلقت العمليات وكُشف عدد الطائرات والصواريخ، توقعنا أن نشاهد حجم دمار يشبه ما شاهدناه في ليبيا والعراق وصربيا وغيرها. ولكن حتى الآن لا يوجد ما يشير إلى حصول مثل هذا الدمار . فالمؤتمر الصحافي الذي عقده البنتاغون بعد السلسلة الأولى من الغارات، وحيث يفترض أن تكون الضربة الأولى هي الأقوى، لم يكشف ما يقنع أن هناك دماراً هائلاً قد لحق بـ»داعش»، بل كشف ما ينقض هذه الرواية في الحقيقة. فقد كانت الصورة الأولى التي تم عرضها هي لما وصفه البنتاغون بأنه «مبنى تمويل» ستخدمه داعش، قبل تعرضه للقص وبعده. كانت تلك الصورة تحتاج إلى الكثير من التمعن لكي يكتشف المرء ما الذي تم تدميره في البناء المقصود. ولكن الناطق العسكري بدّد هذه الحيرة عندما شرح أن صاروخ «توماهوك» قد أصاب هدفه بدقة، حيث انفجر فوقه (air burst) ليدمّر «هوائيات الاتصال» فوق المبنى ويترك باقي المبنى والمباني المجاورة سليمة تماماً. لماذا يتم إطلاق صاروخ توماهوك، تتراوح كلفته بين 1.5 و2 مليون دولار، ليدمّر «هوائي اتصال»؟ لماذا لم يتم تدمير المبنى نفسه؟ وحتى باقي الصور ومقاطع الفيديو أظهرت، في كثير من الأحيان، أضراراً محدودة في الأبنية. لم نعهد مثل هذا الحرص من الجيش الأميركي الذي لا نتذكر منه سوى القصف المتوحش والمكثف الذي قاده، في مرات كثيرة، ليصيب أهدافاً مدنية وليدمر في أيار 1999 السفارة الصينية في صربيا. لم يكن الأميركيون حذرين هناك، فلماذا كل هذا الحذر والقصف الجراحي المبالغ فيه في ضرب مواقع «داعش» التي تؤكد المصادر الميدانية أن كثيراً منها قد تم إخلاؤه أساساً؟ أما السلسلة الثانية من الضربات، والتي كانت مخصصة لتدمير «مصافي النفط» التي يستعملها التنظيم، فلا يصح لها وصف سوى التعبير الذي استخدم في الأيام الأولى للغزو الأميركي - الأطلسي لأفغانستان، والذي يتحدث عن استخدام صاروخ كلفته مليون دولار لضرب خيمة ثمنها عشرون دولاراً.   لا نتذكر من الجيش الأميركي سوى القصف المتوحش   فتعبير «مصافي نفط» يحمل الكثير من المبالغة، وحتى التعبير الذي استخدمه البنتاغون modular refineries أي «مصافي مجمعة من أجزاء» يضخّم حجم تلك الأهداف عشرات المرات. فالمصافي البدائية المقصودة، والمنتشرة في العديد من المواقع في شرقي سوريا وشماليها، من البوكمال إلى عين العرب، ليست في الحقيقة سوى معدات بدائية تصنّع في ورشات محلية، وتتألف «المصفاة» المفترضة من خزان صغير للنفط الخام بسعة ألف إلى 10 آلاف ليتر، تُشعل النار تحته ليتبخر النفط وتجري إعادة تكثيفه عبر إمرار هذ البخار في أنبوب يسكب الماء عليه فيخرج من نهاية الأنبوب بعض المشتقات النفطية، المازوت بشكل رئيسي، التي تباع في الأسواق المحلية لاستخدامها في تشغيل مواقد التدفئة ومولدات الكهرباء. وفي الحقيقة، لا يوجد في شرقي سوريا من يطلق على هذه المعدات البدائية اسم «مصفاة» ، بل إن الاسم المتداول هو «حراقة»، في إشارة إلى آلية عملها. وكلفة تصنيع هذه الحراقات لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات للحراقة الواحدة، والمشتقات النفطية الناتجة منها لا يوجد مشتر لها خارج سوريا، لكونها رديئة وكثيرة الشوائب. ولم يكن تنظيم داعش هو من قام ببناء هذه الحراقات، بل إن قادة ميليشيات «الجيش الحر» وجبهة النصرة، وحلفاءهم من العشائر، هم من فعل ذلك، حيث تم تشغيل المئات من هذه الحراقات خلال العامين الماضيين، قبل أن يأتي تنظيم «داعش» ويسيطر على المنطقة ويحصر حقوق استثمار هذه الحراقات به وحده. السؤال الآن هو ما جدوى القيام بطلعات جوية تكلف مئات ألوف الدولارات لتدمير حراقات بدائية لا تكلف الواحدة منها ألف دولار في الحد الأقصى؟ فكلفة ساعة الطيران الواحدة لمقاتلة إف-15 مثلاً تتراوح بين 30 و50 ألف دولار، وتزيد الكلفة في حالة الطائرات الأحدث مثل إف-22 ، وشارك في عملية استهداف المصافي 16 مقاتلة حلقت لثلاث ساعات على الأقل. وإذا ما أضفنا كلفة الذخيرة المستخدمة، والتي يزيد عددها على 40 مقذوفاً بحسب البنتاغون، والتي تزيد على خمسة وعشرين ألف دولار للقنبلة الذكية الواحدة، وتصل إلى حوالى نصف مليون دولار للصواريخ، فالحساب النهائي يظهر أن التحالف قد تكلف عدة ملايين من الدولارات، في أقل تقدير، لضرب مواقع مكشوفة لا تزيد قيمتها الاجمالية على بضع ألوف من الدولارات، لا تصل حتى إلى مئة ألف دولار. وقد لا يكون من نافل القول هنا التذكير بأن المورد الحقيقي لـ»داعش» هو من تصدير النفط الخام الذي يمر عبر الجار الأطلسي، تركيا، وليس من الحراقات البدائية التي بالكاد تنتج ما يسد جزءاً من حاجة السكان المحليين إلى المشتقات النفطية في شرقي سوريا وشماليها. أما حقول النفط نفسها، فمن الصعب استهدافها، إلا إذا كانت الولايات المتحدة تسعى لإحداث كارثة بيئية شبيهة بما حصل في الكويت عام 1991، والتي استغرق إطفاء حرائق آبار النفط فيها عدة أشهر وتضافر جهود دولية وميزانيات كبيرة، والوضع الميداني السوري يفتقر إلى كل ما سبق.  

المصدر : الأخبار /محمد الفتيح


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة