لا تقتصر أهمية تقدم الجيش السوري المتواصل في ريفي حماه الشمالي والغربي على الناحية العسكرية الصرفة،فهو يسلط الضوء أيضاً على العمق الهيكلي لـ«جبهة النصرة»، ويفضح جزءاً من التنازع الدائر على السلطة داخلها، أو على الأقل التنافس على «كعكة» النفوذ وسلطة اتخاذ القرار، في هرمية يشوبها الكثير من السرية وتضارب المصالح وتصادم الارتباطات مع جهات داخلية وخارجية، لاسيما أن تقدم الجيش الأخير جاء بعد أيام فقط من ظهور زعيم «النصرة» أبي محمد الجولاني في ريف حماه لتحريض ما يقارب 1500 مقاتل لديه على احتلال مدينة محردة، ذات الغالبية المسيحية، ومن ثم مطار حماه العسكري.

لاشكّ في أن قدوم الجولاني شخصياً إلى محيط حلفايا على رأس عدد كبير من المقاتلين، أتى معظمهم من جبهات مدينة حلب، يدل على وجود خطة مركزية لدى الجولاني لفرض سيطرته على منطقة تكون بمثابة نواة «إمارته» غير المعلنة رسمياً، ويكون ريف حماه أحد أضلاعها، بالإضافة إلى ريف إدلب وريف حلب الشمالي وصولاً إلى الحدود التركية المحاذية لهما.

ومنذ وصوله، ومستفيداً من تقدم مقاتليه وسيطرتهم على بلدات عدة، مثل خطاب وأرزة وقطيش، ألقى الجولاني خطبة حماسية بمقاتليه، يحرضهم فيها على احتلال مدينة محردة تمهيداً للاستيلاء على مطار حماه العسكري، الأمر الذي يجعل مدينة حماه تحت مرمى التهديد المباشر.

لكن ما حدث بعد ذلك كان بمثابة الصفعة التي تلقاها الجولاني، فلم تكد أنباء وصوله إلى ريف حماه، وإلقائه الخطبة تنتشر في وسائل الإعلام، حتى بدأ الخط البياني لتقدم «جبهته» في المنطقة بالهبوط المتسارع وغير المتوقع أحياناً.

وإذا كان الهجوم المضاد للجيش السوري، الذي قاده العقيد سهيل حسن، الملقب بالنمر، في الأيام الأولى قبل أن يعود أدراجه إلى حلب، لعب دوراً كبيراً في وقف تقدم «جبهة النصرة» واستعادة جميع المناطق التي كانت سيطرت عليها مؤخراً، إلا أن استمرار تقدم الجيش السوري وبسهولة نسبية إلى مدن أخرى مثل حلفايا وطيبة الإمام والزلاقيات من شأنه أن يطرح العديد من التساؤلات حول وجود تيار داخل «النصرة» التفّ على قرار زعيمه وقرر الانسحاب من معركة حماه، بغض النظر عما في الانسحاب من إهدار لهيبة الجولاني.

وهي ليست المرة الأولى التي يجد فيها الجولاني نفسه مضطراً إلى ابتلاع مرارة التراجع، بعد أن يكون أعلن بنفسه عن أمور مهمة وحاسمة في مستقبل «النصرة».

ففي رمضان الماضي أعلن الجولاني أمام مقاتليه في ريف حلب عن قرب الإعلان عن تأسيس «إمارة إسلامية في الشام» تطبق فيها شريعة الله من قبل «قضاة الجبهة وشرعييها»، وسادت حالة من النشوة في صفوف «النصرة» استبشاراً بهذا القرار الذي من شأنه أن يفوت على منافسها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» فرصة احتكار هذا الأمر واستغلال ثماره في الترويج لنفسه في صفوف «المقاتلين الأجانب» خاصةً.

ولكن فوجئ الجميع بعد ذلك بصدور بيان توضيحي عن «جبهة النصرة» تنفي فيه نيتها إقامة «إمارة إسلامية»، ومفسراً كلام الجولاني بأنه محصور ببند تطبيق الشريعة فقط، ولا يتعداه إلى بند «إمارة الحكم والسلطة». ويلاحظ أنه رغم صدور البيان التوضيحي، إلا أن سلوك «النصرة» في ريف إدلب كان متخبطاً ومتأرجحاً بين «الإمارة» وعدمها، الأمر الذي يشير إلى اتساع فجوة الخلاف بين أنصار الرأيين داخلها، وإعطاء انطباع بعدم وجود قيادة مركزية تملك سلطة القرار وحدها.

وتزامنت تطورات ريف حماه، وتقدم الجيش السوري فيها، على وقع انسحاب «النصرة» غير المتوقع من بعض المدن، مع حدثين مهمين: الأول الضربة غير المسبوقة التي تلقتها «حركة أحرار الشام» الأسبوع الماضي في ريف إدلب، وأسفرت عن مقتل العشرات من قادة الصف الأول، وسط شكوك في قدرة الحركة على الاستمرار بنفس القوة التي كانت عليها قبل الضربة. والثاني تأثر الساحة السورية بالحديث عن تشكيل تحالف دولي لمحاربة «داعش»، وانهماك غالبية الفصائل الكبيرة، إسلامية وغير إسلامية، في تنفيذ إعادة هيكلة لنفسها ولتحالفاتها بشكل يتيح لها الاستفادة من الغارات الجوية، وما يمكن أن تحدثه من فراغ في مناطق سيطرة «داعش».

هنا تؤكد مصادر من كتائب متحالفة مع «جبهة النصرة» أن انسحاب الأخيرة من ريف حماه جاء بناء على توجيهات مباشرة، وصلت على نحو عاجل من جهاز استخبارات تابع لدولة خليجية معروفة بعلاقاتها مع الفصائل الإسلامية، بضرورة التوجه إلى إدلب وحلب وترك حماه مبدئياً.

وبحسب المصادر فإن الغاية من ذلك هي تجميع قوة «النصرة» المركزية في هاتين المدينتين شمالاً، فضلاً عن قوتها الموجودة جنوباً، وبالتالي الاستعداد لتعبئة أي فراغ ينجم عن انسحاب الفصائل التي سيتم إدراجها أميركياً على أنها «معتدلة»، من حلب وإدلب لقتال «الدولة الإسلامية» في الشرق، والمقصود بشكل خاص «جبهة ثوار سوريا» و«حركة حزم». وهذا ما يفسر تصاعد الاشتباكات بين «النصرة» وبين «جبهة ثوار سوريا» بعد ساعات فقط من الانسحاب من ريف حماه، لأن زعيم «ثوار سوريا» جمال معروف يدرك تماماً أنه لن يكون بمقدوره تنفيذ المهمة الموكلة إليه غربياً بقتال «داعش»، وفي الوقت ذاته الحفاظ على مواقعه في ريف إدلب، لا سيما بعد تزايد قوة «جبهة النصرة» في المنطقة جراء انسحابها من ريف حماه.

ونضيف إلى ما سبق أن قيادة «النصرة» لم تتوصل الى حل لقضية أسرى القوات الدولية في الجولان السوري المحتل (الأندوف) وإطلاق سراحهم إلا بعد استشارة علماء ورجال دين من خارج سوريا، وذلك بعد أن استشرت الخلافات داخلها حول القرار الواجب اتخاذه بخصوصهم.

كل ذلك يشير إلى أن «جبهة النصرة» تعاني من أزمة قيادة حقيقية، وبروز تيارات داخلها على خلاف واسع مع بعضها البعض، وهي أشبه ما تكون بالحالة التي كانت عليها «حركة أحرار الشام» قبل مقتل قادتها.

  • فريق ماسة
  • 2014-09-15
  • 9987
  • من الأرشيف

بعد تلقى صفعات الجيش المتتالية ....من يقود "جبهة النصرة"؟

 لا تقتصر أهمية تقدم الجيش السوري المتواصل في ريفي حماه الشمالي والغربي على الناحية العسكرية الصرفة،فهو يسلط الضوء أيضاً على العمق الهيكلي لـ«جبهة النصرة»، ويفضح جزءاً من التنازع الدائر على السلطة داخلها، أو على الأقل التنافس على «كعكة» النفوذ وسلطة اتخاذ القرار، في هرمية يشوبها الكثير من السرية وتضارب المصالح وتصادم الارتباطات مع جهات داخلية وخارجية، لاسيما أن تقدم الجيش الأخير جاء بعد أيام فقط من ظهور زعيم «النصرة» أبي محمد الجولاني في ريف حماه لتحريض ما يقارب 1500 مقاتل لديه على احتلال مدينة محردة، ذات الغالبية المسيحية، ومن ثم مطار حماه العسكري. لاشكّ في أن قدوم الجولاني شخصياً إلى محيط حلفايا على رأس عدد كبير من المقاتلين، أتى معظمهم من جبهات مدينة حلب، يدل على وجود خطة مركزية لدى الجولاني لفرض سيطرته على منطقة تكون بمثابة نواة «إمارته» غير المعلنة رسمياً، ويكون ريف حماه أحد أضلاعها، بالإضافة إلى ريف إدلب وريف حلب الشمالي وصولاً إلى الحدود التركية المحاذية لهما. ومنذ وصوله، ومستفيداً من تقدم مقاتليه وسيطرتهم على بلدات عدة، مثل خطاب وأرزة وقطيش، ألقى الجولاني خطبة حماسية بمقاتليه، يحرضهم فيها على احتلال مدينة محردة تمهيداً للاستيلاء على مطار حماه العسكري، الأمر الذي يجعل مدينة حماه تحت مرمى التهديد المباشر. لكن ما حدث بعد ذلك كان بمثابة الصفعة التي تلقاها الجولاني، فلم تكد أنباء وصوله إلى ريف حماه، وإلقائه الخطبة تنتشر في وسائل الإعلام، حتى بدأ الخط البياني لتقدم «جبهته» في المنطقة بالهبوط المتسارع وغير المتوقع أحياناً. وإذا كان الهجوم المضاد للجيش السوري، الذي قاده العقيد سهيل حسن، الملقب بالنمر، في الأيام الأولى قبل أن يعود أدراجه إلى حلب، لعب دوراً كبيراً في وقف تقدم «جبهة النصرة» واستعادة جميع المناطق التي كانت سيطرت عليها مؤخراً، إلا أن استمرار تقدم الجيش السوري وبسهولة نسبية إلى مدن أخرى مثل حلفايا وطيبة الإمام والزلاقيات من شأنه أن يطرح العديد من التساؤلات حول وجود تيار داخل «النصرة» التفّ على قرار زعيمه وقرر الانسحاب من معركة حماه، بغض النظر عما في الانسحاب من إهدار لهيبة الجولاني. وهي ليست المرة الأولى التي يجد فيها الجولاني نفسه مضطراً إلى ابتلاع مرارة التراجع، بعد أن يكون أعلن بنفسه عن أمور مهمة وحاسمة في مستقبل «النصرة». ففي رمضان الماضي أعلن الجولاني أمام مقاتليه في ريف حلب عن قرب الإعلان عن تأسيس «إمارة إسلامية في الشام» تطبق فيها شريعة الله من قبل «قضاة الجبهة وشرعييها»، وسادت حالة من النشوة في صفوف «النصرة» استبشاراً بهذا القرار الذي من شأنه أن يفوت على منافسها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» فرصة احتكار هذا الأمر واستغلال ثماره في الترويج لنفسه في صفوف «المقاتلين الأجانب» خاصةً. ولكن فوجئ الجميع بعد ذلك بصدور بيان توضيحي عن «جبهة النصرة» تنفي فيه نيتها إقامة «إمارة إسلامية»، ومفسراً كلام الجولاني بأنه محصور ببند تطبيق الشريعة فقط، ولا يتعداه إلى بند «إمارة الحكم والسلطة». ويلاحظ أنه رغم صدور البيان التوضيحي، إلا أن سلوك «النصرة» في ريف إدلب كان متخبطاً ومتأرجحاً بين «الإمارة» وعدمها، الأمر الذي يشير إلى اتساع فجوة الخلاف بين أنصار الرأيين داخلها، وإعطاء انطباع بعدم وجود قيادة مركزية تملك سلطة القرار وحدها. وتزامنت تطورات ريف حماه، وتقدم الجيش السوري فيها، على وقع انسحاب «النصرة» غير المتوقع من بعض المدن، مع حدثين مهمين: الأول الضربة غير المسبوقة التي تلقتها «حركة أحرار الشام» الأسبوع الماضي في ريف إدلب، وأسفرت عن مقتل العشرات من قادة الصف الأول، وسط شكوك في قدرة الحركة على الاستمرار بنفس القوة التي كانت عليها قبل الضربة. والثاني تأثر الساحة السورية بالحديث عن تشكيل تحالف دولي لمحاربة «داعش»، وانهماك غالبية الفصائل الكبيرة، إسلامية وغير إسلامية، في تنفيذ إعادة هيكلة لنفسها ولتحالفاتها بشكل يتيح لها الاستفادة من الغارات الجوية، وما يمكن أن تحدثه من فراغ في مناطق سيطرة «داعش». هنا تؤكد مصادر من كتائب متحالفة مع «جبهة النصرة» أن انسحاب الأخيرة من ريف حماه جاء بناء على توجيهات مباشرة، وصلت على نحو عاجل من جهاز استخبارات تابع لدولة خليجية معروفة بعلاقاتها مع الفصائل الإسلامية، بضرورة التوجه إلى إدلب وحلب وترك حماه مبدئياً. وبحسب المصادر فإن الغاية من ذلك هي تجميع قوة «النصرة» المركزية في هاتين المدينتين شمالاً، فضلاً عن قوتها الموجودة جنوباً، وبالتالي الاستعداد لتعبئة أي فراغ ينجم عن انسحاب الفصائل التي سيتم إدراجها أميركياً على أنها «معتدلة»، من حلب وإدلب لقتال «الدولة الإسلامية» في الشرق، والمقصود بشكل خاص «جبهة ثوار سوريا» و«حركة حزم». وهذا ما يفسر تصاعد الاشتباكات بين «النصرة» وبين «جبهة ثوار سوريا» بعد ساعات فقط من الانسحاب من ريف حماه، لأن زعيم «ثوار سوريا» جمال معروف يدرك تماماً أنه لن يكون بمقدوره تنفيذ المهمة الموكلة إليه غربياً بقتال «داعش»، وفي الوقت ذاته الحفاظ على مواقعه في ريف إدلب، لا سيما بعد تزايد قوة «جبهة النصرة» في المنطقة جراء انسحابها من ريف حماه. ونضيف إلى ما سبق أن قيادة «النصرة» لم تتوصل الى حل لقضية أسرى القوات الدولية في الجولان السوري المحتل (الأندوف) وإطلاق سراحهم إلا بعد استشارة علماء ورجال دين من خارج سوريا، وذلك بعد أن استشرت الخلافات داخلها حول القرار الواجب اتخاذه بخصوصهم. كل ذلك يشير إلى أن «جبهة النصرة» تعاني من أزمة قيادة حقيقية، وبروز تيارات داخلها على خلاف واسع مع بعضها البعض، وهي أشبه ما تكون بالحالة التي كانت عليها «حركة أحرار الشام» قبل مقتل قادتها.

المصدر : السفير / عبد الله سليمان علي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة