دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
قلما تنتابني رغبة في أن أكون أمّيا لاأقرأ ولاأكتب .. ولاأفك الحرف ولاأفرق بين العصا والألف الممدودة .. انه احساس يشبه الشعور بالرغبة بالانتحار والتخلص من ألم الجسد أو الروح .. وأسميها الرغبة بالانتحار اللغوي والهلاك الفكري لأنها ميول انتحارية تصيب القلم والورق والحرف عندما تصبح معرفة القراءة نقمة وعندما يصبح الوطواط محاضرا في ضوء الشمس وألوان قوس قزح .. لكن بعض السياسيين أو الكتاب يثيرون فيّ رغبة جامحة في أنني ماكنت تعلمت يوما ولم أذهب الى المدرسة .. وأنني ماأتقنت القراءة يوما .. وليتني كسرت أقلام الرصاص التي علمتني في طفولتي النحت على الورق .. ولم أعرف معلما ولامعلمة .. ولم أحمل حقيبة كتب ولا دفاتر .. وأتمنى أنني ماتعلمت رسم الحرف وزرع اللغة وجني الأدب لأن قراءة مايقول هؤلاء السياسيون من هرطقة تجعل الأمية نعمة من الله والانتحار المعرفي بطولة وخلاصا وقيامة كقيامة المسيح .. ويتمنى المرء بعد قراءة مايقولون أو سماع هذياناتهم وتصريحاتهم أنه حمل عصاة لرعي الأغنام بدل الأقلام .. مثل كل الأنبياء ..
ولن ابالغ ان قلت أنني أحس بعد أن أقرأ للبعض وأستمع للبعض أنني أتمنى لو كانت القراءة والكتابة جزءا مني يقدر أن ينفصل عني وينتحر في أعماق أعماقي وينتهي مني .. وأنتهي منه .. للأبد .. .. وأتمنى عندما أرمق ساسة الثقافة العربية من المثقفين البراغماتيين أن تشرب لغتي نقيع السم وتنتحر .. أو أن تتردى من أعالي أبراج كبريائي التي بناها العلم لي ومن ذرى المعرفة التي أوصلتني اليها القراءة .. أو أن ترمي ذاكرة لغتي نفسها على نصل سيف مصنوع من لغات العالم ..
الشيخ سعدو الحريري هو أحد أولئك الذين يحرضون في الرغبة بالانتحار اللغوي والندم على كل ماأنفقت في طريق المعرفة .. عندما يقف خطيبا بالناس .. يعظ الناس ويشرح لهم أمور دنياهم ودينهم .. وعندما يحلل للناس في فقه السياسة .. وفي علم الثورة والحرية والوطنية .. وأصدقكم القول أنني في كل مرة أستمع اليه أحس أنه لا يتسبب في كراهيتي للمفردات التي يستعملها بل أكره نفسي لأنني لاأملك طريقة لأنقذ بها المفردات من الانتحار والموت عندما تدرك انها لم تخلق لفمه وأنها مجبرة على مجامعة الكذب وفقد عذريتها .. ولكن المفردات التي تخرج من فمه تكرهه ايضا لأنه أحد دواعش اللغة الذين يسفكون دمها .. ويقطعون رأسها ويبيعونها في سوق النخاسة والسبايا .. وكل مايقوله سيذهب الى مقابر الكلام ..
سأدعوكم اليوم الى مقابر الكلام .. فالكلام أيضا يحيا ويموت وله عظام ولحم وجلد .. وتتكسر عظامه وسيقانه ويسير على عكازات .. وقد يصاب بالعمى والصمم وبثور الجلد والحكة .. ويمرض ويصاب بالاسهال والأورام والأمراض العقلية .. وهناك أمثلة لاتحصى على كلام أعمى بلا عيون وكلام مختل عقليا ومجنون .. وكذلك فان الكلام عندما يموت تحمل جثامينه الى مقابر الكلام أو تلقى في الوديان والمهاوي كما يفعل القرويون بحيواناتهم النافقة .. ومقابر الكلام مليئة بالقبور التي دفن فيها العرب كلامهم كما يفعل القرويون تماما .. فدفنوا كلامهم عن تحرير فلسطين .. وكلامهم عن وحدة الأمة العربية .. وعن خير امة أخرجت للناس .. وعن العدو الصهيوني .. والتضامن العربي .. ودفنوا فيها الى جانب حق العودة لفلسطين العراق الموحد وليبيا والسودان واليمن وسورية ولبنان .. ودفنوا فيها "وامعتصماه" .. مع المعتصم والمرأة التي استغاثت به في قبر واحد جماعي كما تفعل جبهة النصرة في سورية بضحاياها .. وكما تفعل داعش في العراق ..
ولكن في مقابر الكلام هذه الأيام قبر حديث للعبارة التي رحلت غما وغما وهي من عائلة "الأيام المعدودة" وخص بها الرئيس الأسد .. وبجانبها قبر فيه عبارة "الحرب الأهلية السورية" .. والى جوارها قبر لعبارة "الثورة السورية السلمية" .. وقبر "تقسيم سورية" .. والى الأعلى منه في تلك المقبرة قبر طويل لعبارة طويلة اسمها "الحلم العثماني السلجوقي لخلافة المسلمين" .. وهناك قبر مردوم لراحل اسمه "مجلس الحكم الوطني السوري" الى جانب قبر عبارة " الشعب يريد اسقاط النظام" .. وهناك قبور لذرية "ساعة الصفر" وأبناء عمومتها وأخوالها .. وهناك تحت ظلال الشجرة الملعونة للاخوان المسلمين بثمارها من جبهة النصرة وداعش قبر منبوش لكلمة " انشقاق" وقبر لايزال رطبا لعبارة " الجيش الحر " .. وأستطيع في جولتي أن ارى قبورا تفتح الآن لعبارات كثيرة ترتفع حرارتها بسبب الحمى والمرض العضال ..مثل جبهة النصرة .. وداعش ..
حفارو قبور الكلام لم يعودوا قادرين على مجاراة موت الكلام كما هو موت العراقيين في جبل سنجار وبغداد والليبيين في شوارع ليبيا .. كأنما ضربت جائحة أو طاعون الكلام مدن اللغة فتناثرت جثث الكلام على أرصفة الورق .. وصارت توابيت الكلام تتوالى .. وتصل المواكب تلو المواكب .. والجنازات تلحق بالجنازات .. وكثير من الكلام الذي مات يأتي محمولا على أكتاف من قالوه وحملوه وخرج من ارحامهم وأفواههم ..
آخر الداخلين الى المدفن الشيخ سعدو الحريري وعلى كتفه نعش ثقيل .. ليس في النعش رفاة رفيق الحريري طبعا الذي هجر قبره ليستريح من كثرة مانبشته لجان التحقيق ونقلت جثته ليدور على محاكم العالم ومتاحف الجريمة الدولية كما نقلت مومياء توت عنخ آمون للعرض .. وقد وصل العالم لمعرفة سبب موت الفرعون الصغير "توت عنخ آمون" بعد سبعة آلاف سنة على حادث اغتياله ولكنه لن يعرف بعد سبعة آلاف سنة قاتل "رفيء" الحريري .. ولن نعرف ان كان التفجير الذي نسف الحريري كان فوق الارض أم تحتها الا يوم الحساب طالما أن للحريري ولدا كسعد ..
الشيخ سعدو الحريري يحمل على كتفه نعش وعده بأنه "لن يعود الى بيروت الا من مطار دمشق" ..وخلع جاكيته كما يخلع الأعراب عقالاتهم عند الغضب وطلب الثأر وعندما يعدون بالانتقام .. فلا يعود العقال مالم ينفذ الوعد والدم .. ولكن فوق النعش الذي دخل على كتف الحريري يستلقي جاكيت سعدو الحريري التي خلعها تحديا كما يوضع طربوش أو عمامة المتوفى ..
توفي وعد الحريري وتوفيت عبارته التي ظلت في السرير موصولة بالحقن والمصول ثلاث سنوات ونيف .. ونقل لها دم آلاف السوريين واللبنانيين لتحيا من أجل أن يعود الحريري الصغير من مطار دمشق .. ولكن قدر الله لارادّ له وارادة الشعب السوري ودمشق من ارادة الله .. وقد مر عزرائيل على بيت الحريري .. وقبض روح العبارة الأعز على آل الحريري وترك أهلها مفجوعين عليها ومكلومين لموتها .. وأخشى ان يطلبوا تحقيقا دوليا ومحكمة دولية في سبب اغتيال الرحلة الثمينة "لاعودة الى بيروت الا من مطار دمشق" ..فهذا عهدنا بهم .. بل كلي يقين ان التحقيق في موت "رفيء الحريري" لم يعد مهما كما هو موت الرحلة الأثيرة على قلب المهاجر ..الذي تاه ثلاث سنين قبل أن يجد أنه يمكن ان يدخل الى بيروت من كوكب المريخ لكنه لايقدر أن يمر بمطار دمشق ..
هذه العبارة القتيلة هي ضحية أخرى من ضحايا الحريرية السياسية .. فقبل ذلك لم يتعلم هذا الصبي من الدرس الأول أن الكلام ليس حجر نرد ولا طاولة قمار ولاعجلة روليت .. فهو اتهم السوريين يوما بقتل أبيه واقسم على ذلك .. ثم قتل الكلام الذي قاله وحمل جثته ودفنه في قصر الشعب في سورية أمام الرئيس الأسد وهال عليه التراب .. ثم بعد ذلك دفن اعتذاره من السوريين والرئيس الأسد .. وهو اتهم المقاومة اللبنانية أنها تورطت في دم أبيه ثم قتل كلامه ودفنه ورأيناه يذرو التراب على جسد الكلام الذي قاله .. وقال انه جاء لانقاذ السنة في لبنان من الظلم ولكنه قتل تعهده وكلامه وأخذ السنة في لبنان الى محرقة طائفية والى مغامرة في سورية ليموتوا في عرسال والقلمون ويبرود والقصير وطرابلس ..
هل يتعلم سعدو الحريري درسا أن دفن الكلام اثر الكلام وزيارة مقابر اللغة كل عام لدفن العبارات لاتليق بالساسة؟؟ وهل يفهم هذا المراهق السياسي ان من يقتل الكلام يقتل الناس ايضا؟؟ وهل يتعلم سعدو الحريري أن كلام الساسة الكبار مثل الذهب العتيق لايصدأ ولايحترق؟؟ .. وهل يتعلم سعدو الحريري أن الكلام ليس قطيعا من الأغنام يسوقه ويهش عليه بعصاه دون اعتبار لمشاعر القطيع؟ ..وهل سيدرك يوما أن ضروع الكلام لاتحلب ولاتصح فيها فتوى ارضاع الكبير؟؟.. وأنه يمكنه بماله أن يشتري مايشاء من الطوائف والمذاهب والسياسيين والمقاتلين الاسلاميين والأحزاب والقصور ومحطات الاعلام والجرائد والفضائيات والمذيعين والرؤساء الفرنسيين والرؤساء غير الفرنسيين .. لكنه لايقدر على أن يشتري الحياة لكلمة واحدة ليس في وريدها دم الحقيقة .. وليس في شرايينها دم الشرق .. وأنه مهما دفع من مال فانه لايقدر أن ينقذ عبارة واحدة من موت محتم طالما أنها مصابة بالورم والسرطان منذ لحظة ميلادها ..
الساسة الكبار لايقتلون الكلام لأنهم لايلقون بالكلام على عواهنه ولايرمون المفردات الى التهلكة والمحرقة كما يرمى شباب أهل السنة الى المحرقة الطائفية بلا حساب ..
هذه المرة عاد سعدو الحريري الى بيروت كما في كل مرة خائب الوعد والعهد وقد سئمه الكلام ونفرت منه اللغة واعتادت خيباته المذكرات .. ولكني سأقول له كمواطن سوري كلاما لايموت ولايدفن:
أنني لن أذهب الى بيروت من مطار دمشق ولن أدخل دمشق من بوابة بيروت لأرد على تخرصاتك بالمثل .. لكنني سأذهب الى بيروت مشيا على الأقدام من دون أن يرافقني سايكس ولابيكو لأول مرة .. وأنا لن أخلع جاكيتي ولامعطفي ولاعباءتي ولاعقالي .. بل سأخلع خطوط الجغرافيا بيني وبين بيروت .. وسأمحو بالممحاة نقطة المصنع ..
السوريون لايدفنون الكلام .. ولايقتلون العبارات ولاالعهود .. ولم يتعودوا زيارة مقابر الكلام .. فليس لهم في مقابر الكلام قبر واحد فيما كل العرب يدفنون كلام العرب وكلام الرسول وكلام الله وكلام الوطن ..
هل يقدر سوري أن يدفن عبارة" سورية ياحبيبتي" ياسعد؟؟ .. وهل يقدر سوري أن يدفن عبارة " سورية الله حاميها" .. ياسعد؟؟ ..
ان الانتحار اللغوي والسياسي يبدأ من حلم رحلة الى بيروت عبر مطار دمشق ..
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة