تخيل نفسك تسير في مدينة هادئة يخترقها نهر، تتوزع على ضفتيه حقول زراعية خصبة، ومعها مواقع أثرية تضفي سحراً خاصاً على المكان. مدينة سكانها يعملون بهدوء، وشوارعها نظيفة، لن تصطدم فيها إلا ببضعة أشياء تتدحرج هنا وهناك. أما ساحاتها فمن المألوف أن تشهد تجمعات لحدث متكرر. هذا الحدث هو عمليات إعدام وقطع للرؤوس، وتلك الأشياء المتدحرجة ليست سوى الرؤوس المقطوعة ... باختصار مرحباً بك في الرقة.

رغم كل ما يحدث، لا تزال هناك حركة من «ولاية الرقة» وإليها، سواء من دير الزور أو تركيا عبر معبر تل ابيض أو ريف حلب الشرقي. كما ستمر بها الحافلات المتجهة إلى دمشق وحماه وحمص. بطبيعة الحال سيمر الجميع عبر حواجز تابعة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»-»داعش»، الذي يتشدد في البحث عن العسكريين أو الناشطين المطلوبين بتهم تبدأ بالعلمانية وتنتهي بشتم «الدولة»، وبالطبع على النساء ارتداء الخمار واصطحاب محرم في الرحلة الشاقة.

في داخل الرقة، لم تتغير معالم المدينة كثيراً، لكنها اصطبغت برداء «داعشي». هكذا أصبح مقر المحافظة هو مقر «الولاية والمحكمة الشرعية»، أما دوار النعيم ودوار الساعة فهو الساحة المخصصة لتنفيذ أحكام الإعدام، بعضها بقطع الرأس نحراً بالسكين وبعضها عبر إطلاق الرصاص أو الرجم حتى الموت، ولا مانع أن يتم صلب الضحية لثلاثة أيام، أو أن تبقى الرؤوس المقطوعة في الساحة أو شوارع المدينة.

الأسواق والمقاهي ما زالت تعمل طبيعياً، وخاصة خلال الفترة المسائية. ولا خلل أو فوضى في الأسعار، ولا مظاهر مسلحة في الشوارع، باستثناء عناصر «داعش» طبعاً. وعلى الجميع ترك ما بيدهم والالتحاق بالصلاة في أوقاتها، كما أن على النساء ارتداء ملابس سوداء فضفاضة مع النقاب. ويمنع على الرجال والشباب قص الشعر بطريقة «تتشبه بالغرب». وثمة كتائب متخصصة بمراقبة الناس ورصد أي مخالفة، والعقاب يبدأ بالضرب وينتهي بالاعتقال مدة تطول وتقصر تبعاً لهوى المقاتل.

الخدمات لم تشهد تغيراً كبيراً، حيث إن الكهرباء تخضع لساعات تقنين طويلة، ومعها المياه، أما الاتصالات المحلية فإنها تعمل جيداً، أما الخارجية والخلوية فتحتاج لتكرار المحاولة أكثر من مرة.

الجامعات والمدارس، سواء الحكومية أو الخاصة، مغلقة بقرار من «الدولة الإسلامية» ريثما يتم إعداد منهج دراسي جديد بديلاً من ذاك «المخالف للشرع»، وطلب من أي مدرس، يجد في نفسه الكفاءة، التقدم والخضوع الى «دورة شرعية» وإعداد المنهاج الجديد. وتوقع معلم أن تخلو لوائح المفاضلة الخاصة بقبول الجامعات السورية من أي فرع لكلية أو معهد أو مستشفى في الرقة.

ورغم كل ما يجري، ما زالت بعض المؤسسات الحكومية تعمل في الرقة، مثل الكهرباء والمياه، والأهم من يعمل في سد الفرات الذي يعمل بالحد الأدنى مع تدني منسوب مياه النهر بسبب الجفاف والدور التركي في التحكم بما يتدفق إلى سوريا.

الكارثة الأكبر تتمثل في القطاع الصحي، مع غياب تام للخدمات الطبية وهجرة عدد كبير من الأطباء إلى الخارج ورفض المعارضة، وفي مقدمها «الائتلاف الوطني»، تقديم أي دعم.

ويقول أحد الناشطين إن أمراضا بسيطة أصبحت سبباً للوفيات، موضحا أن عمل المستشفيات يقتصر على الإسعافات الأولية، باستثناء المستشفى الوطني الذي تعتبر حاله أفضل قليلاً.

 

من «الحر» إلى «النصرة» فـ«داعش»

 

الحديث مع ناشطي الرقة يبدو أكثر سهولة، رغم كل المخاطر المحدقة بهم. ثمة حالة من الاستياء من الإهمال الذي أصاب مدينة الرشيد من قبل المعارضة، واستياء أكبر من السكوت على أخطاء كان من الممكن، في حال تلافيها، ألا يعيش أبناء الفرات الكابوس المسمى بـ«داعش».

ويقول ميزر (29 سنة - مصور صحافي) إن «الائتلاف يتحمل المسؤولية الأكبر، إضافة الى الفوضى». وأضاف «كان يستطيع لعب دور رئيسي منذ الأيام الأولى لتحرير الرقة، وسبق أن أرسل له ناشطون دعوات عدة، كان مصيرها التجاهل ليصبح مصير المدينة اليوم على ما هو عليه».

ابو ابراهيم ناشط ما زال يعمل داخل المدينة، يحمّل بدوره كل الأطراف مسؤولية ما يجري. ويقول «كان من الممكن أن يستغل الجميع المدينة، ويفرضوا واقعاً مغايراً. لقد كان داعش مجرد فصيل صغير كأي فصيل آخر بدأ بالخطف وقتل النشطاء، فتصدى له أبناء الرقة وألوية أحفاد الرسول في وقت رفضت جبهة النصرة وأحرار الشام وباقي مجموعات الجيش الحر الانضمام والمشاركة في القتال، بحجة أنهم إخوة، ولا يمكن الدخول في مثل هذه الفتنة، فخسر الأحفاد مقارّهم جراء تفجيرات تبناها التنظيم، قبل أن يأتي الدور على باقي المجموعات. وفي مطلع كانون الثاني الماضي حاول مقاتلون من الرقة استعادة المدينة، فانسحبت مجدداً أحرار الشام ورفضت النصرة تزويدهم بالسلاح، ليتعود داعش ويحكم قبضته على كل شيء».

ويقول ناشط آخر، رفض ذكر اسمه خوفاً على حياته، إن شعار وحدة الصف كان السبب وراء كل ما يجري اليوم، موضحا «غضضنا الطرف عن تفاصيل كثيرة، من فوضى السلاح إلى الاعتقالات المتكررة، وغياب أي سلطة أو مجلس محلي، بالاضافة الى الكتائب التي كانت تهرّب النفط وتبيعه. كل ذلك كان تحت مبرر وحدة الصف أو الأخطاء الفردية، وهو ما انسحب على داعش، فكثيرون اعتبروا الكلام عنه جريمة، وكانوا يذكّرون بدور عناصره في المعارك، وجرأتهم مقابل أخطاء ومشاكل الجيش الحر».

  • فريق ماسة
  • 2014-08-07
  • 9159
  • من الأرشيف

الرقة تصطبغ برداء «داعش»: رؤوس مقطوعة.. ورجم!

تخيل نفسك تسير في مدينة هادئة يخترقها نهر، تتوزع على ضفتيه حقول زراعية خصبة، ومعها مواقع أثرية تضفي سحراً خاصاً على المكان. مدينة سكانها يعملون بهدوء، وشوارعها نظيفة، لن تصطدم فيها إلا ببضعة أشياء تتدحرج هنا وهناك. أما ساحاتها فمن المألوف أن تشهد تجمعات لحدث متكرر. هذا الحدث هو عمليات إعدام وقطع للرؤوس، وتلك الأشياء المتدحرجة ليست سوى الرؤوس المقطوعة ... باختصار مرحباً بك في الرقة. رغم كل ما يحدث، لا تزال هناك حركة من «ولاية الرقة» وإليها، سواء من دير الزور أو تركيا عبر معبر تل ابيض أو ريف حلب الشرقي. كما ستمر بها الحافلات المتجهة إلى دمشق وحماه وحمص. بطبيعة الحال سيمر الجميع عبر حواجز تابعة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»-»داعش»، الذي يتشدد في البحث عن العسكريين أو الناشطين المطلوبين بتهم تبدأ بالعلمانية وتنتهي بشتم «الدولة»، وبالطبع على النساء ارتداء الخمار واصطحاب محرم في الرحلة الشاقة. في داخل الرقة، لم تتغير معالم المدينة كثيراً، لكنها اصطبغت برداء «داعشي». هكذا أصبح مقر المحافظة هو مقر «الولاية والمحكمة الشرعية»، أما دوار النعيم ودوار الساعة فهو الساحة المخصصة لتنفيذ أحكام الإعدام، بعضها بقطع الرأس نحراً بالسكين وبعضها عبر إطلاق الرصاص أو الرجم حتى الموت، ولا مانع أن يتم صلب الضحية لثلاثة أيام، أو أن تبقى الرؤوس المقطوعة في الساحة أو شوارع المدينة. الأسواق والمقاهي ما زالت تعمل طبيعياً، وخاصة خلال الفترة المسائية. ولا خلل أو فوضى في الأسعار، ولا مظاهر مسلحة في الشوارع، باستثناء عناصر «داعش» طبعاً. وعلى الجميع ترك ما بيدهم والالتحاق بالصلاة في أوقاتها، كما أن على النساء ارتداء ملابس سوداء فضفاضة مع النقاب. ويمنع على الرجال والشباب قص الشعر بطريقة «تتشبه بالغرب». وثمة كتائب متخصصة بمراقبة الناس ورصد أي مخالفة، والعقاب يبدأ بالضرب وينتهي بالاعتقال مدة تطول وتقصر تبعاً لهوى المقاتل. الخدمات لم تشهد تغيراً كبيراً، حيث إن الكهرباء تخضع لساعات تقنين طويلة، ومعها المياه، أما الاتصالات المحلية فإنها تعمل جيداً، أما الخارجية والخلوية فتحتاج لتكرار المحاولة أكثر من مرة. الجامعات والمدارس، سواء الحكومية أو الخاصة، مغلقة بقرار من «الدولة الإسلامية» ريثما يتم إعداد منهج دراسي جديد بديلاً من ذاك «المخالف للشرع»، وطلب من أي مدرس، يجد في نفسه الكفاءة، التقدم والخضوع الى «دورة شرعية» وإعداد المنهاج الجديد. وتوقع معلم أن تخلو لوائح المفاضلة الخاصة بقبول الجامعات السورية من أي فرع لكلية أو معهد أو مستشفى في الرقة. ورغم كل ما يجري، ما زالت بعض المؤسسات الحكومية تعمل في الرقة، مثل الكهرباء والمياه، والأهم من يعمل في سد الفرات الذي يعمل بالحد الأدنى مع تدني منسوب مياه النهر بسبب الجفاف والدور التركي في التحكم بما يتدفق إلى سوريا. الكارثة الأكبر تتمثل في القطاع الصحي، مع غياب تام للخدمات الطبية وهجرة عدد كبير من الأطباء إلى الخارج ورفض المعارضة، وفي مقدمها «الائتلاف الوطني»، تقديم أي دعم. ويقول أحد الناشطين إن أمراضا بسيطة أصبحت سبباً للوفيات، موضحا أن عمل المستشفيات يقتصر على الإسعافات الأولية، باستثناء المستشفى الوطني الذي تعتبر حاله أفضل قليلاً.   من «الحر» إلى «النصرة» فـ«داعش»   الحديث مع ناشطي الرقة يبدو أكثر سهولة، رغم كل المخاطر المحدقة بهم. ثمة حالة من الاستياء من الإهمال الذي أصاب مدينة الرشيد من قبل المعارضة، واستياء أكبر من السكوت على أخطاء كان من الممكن، في حال تلافيها، ألا يعيش أبناء الفرات الكابوس المسمى بـ«داعش». ويقول ميزر (29 سنة - مصور صحافي) إن «الائتلاف يتحمل المسؤولية الأكبر، إضافة الى الفوضى». وأضاف «كان يستطيع لعب دور رئيسي منذ الأيام الأولى لتحرير الرقة، وسبق أن أرسل له ناشطون دعوات عدة، كان مصيرها التجاهل ليصبح مصير المدينة اليوم على ما هو عليه». ابو ابراهيم ناشط ما زال يعمل داخل المدينة، يحمّل بدوره كل الأطراف مسؤولية ما يجري. ويقول «كان من الممكن أن يستغل الجميع المدينة، ويفرضوا واقعاً مغايراً. لقد كان داعش مجرد فصيل صغير كأي فصيل آخر بدأ بالخطف وقتل النشطاء، فتصدى له أبناء الرقة وألوية أحفاد الرسول في وقت رفضت جبهة النصرة وأحرار الشام وباقي مجموعات الجيش الحر الانضمام والمشاركة في القتال، بحجة أنهم إخوة، ولا يمكن الدخول في مثل هذه الفتنة، فخسر الأحفاد مقارّهم جراء تفجيرات تبناها التنظيم، قبل أن يأتي الدور على باقي المجموعات. وفي مطلع كانون الثاني الماضي حاول مقاتلون من الرقة استعادة المدينة، فانسحبت مجدداً أحرار الشام ورفضت النصرة تزويدهم بالسلاح، ليتعود داعش ويحكم قبضته على كل شيء». ويقول ناشط آخر، رفض ذكر اسمه خوفاً على حياته، إن شعار وحدة الصف كان السبب وراء كل ما يجري اليوم، موضحا «غضضنا الطرف عن تفاصيل كثيرة، من فوضى السلاح إلى الاعتقالات المتكررة، وغياب أي سلطة أو مجلس محلي، بالاضافة الى الكتائب التي كانت تهرّب النفط وتبيعه. كل ذلك كان تحت مبرر وحدة الصف أو الأخطاء الفردية، وهو ما انسحب على داعش، فكثيرون اعتبروا الكلام عنه جريمة، وكانوا يذكّرون بدور عناصره في المعارك، وجرأتهم مقابل أخطاء ومشاكل الجيش الحر».

المصدر : السفير/ طارق العبد


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة