تبدأ المعزوفة صباحاً عبر أثير إذاعات الـ«أف أم». شبه إجماع، نادر من نوعه، بين مذيعات «الفحّ» المباشر، إن أردنا استعارة عبارة زياد الرحباني الشهيرة. المتصلون يشعرون بالقرف من منظر طرقات لبنان. المذيعة لا تعترض. تنقّح الكلام العنصري بطبعة أفصح حول «القمامة»، و«الروائح». أحد المتصلين لم تزعجه زحمة السير في محيط السفارة السوريّة في اليرزة، على العكس، إذ أنّه تمكّن من قضاء صباح هادئ و«خالٍ من السوريين، لحسن الحظّ» على شاطئ البحر.

لم تخرج شاشات التلفزيون عن تقاليدها العنصريّة الراسخة، والتي لا تتردّد في استعراضها عند كلّ فرصة مواتية. ندى أندراوس وضيفها في «نهاركم سعيد» لم ينجحا في إخفاء امتعاضهما من هَوْل المشهد في محيط السفارة السوريّة في اليرزة. «أم تي في» المشغولة دوماً بنقاء الدمّ اللبناني، تولّت دور مناشدة الدولة إنقاذ اللبنانيين من «الزحف».

على السوشل ميديا، يريد الجميع أن يعرف من يكون هؤلاء «الغنم»؟ ليسوا نازحين ولا لاجئين، تؤكّد الإعلاميّة ميّ شدياق. يسأل أحدهم من أين للاجئين المال لاستئجار باصات تقلّهم إلى مركز الاقتراع؟ وكيف يستقلّ النازح السوري سيارة فخمة إلى اليرزة، يسأل آخرون. يرسم «أولاد البلد» صورتهم النمطيّة الأسطوريّة عن ماهيّة السوريّ وهويّته. فهو في نظرهم الفقير أو المشرّد، الجاهل للغات الأجنبيّة، ولأصول الإيتيكيت.

لم يعرف «أولاد البلد» زحمة السير، كما يبدو واضحاً عبر صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. الزحمة ظاهرة مستجدّة، مرتبطة بالسوريين فقط. يحقّ لـ«أولاد البلد» الامتعاض من قضاء يومهم الطويل على الطريق، يكتب أحدهم على «فايسبوك»، فأين العنصريّة في ذلك؟ لا عنصريّة في ذلك، إذ أنّ العدائيّة الموجّهة أمس ضدّ السوريين النازحين، تستعير عبارات الامتعاض ذاتها من اعتصامات مياومي الكهرباء، أو تحرّكات هيئة التنسيق النقابيّة. خطاب الكراهيّة والتمييز جاهز، عند كلّ مفصل يعكّر فيه «الرعاع» المشهد العام «الأنيق»، أناقة شوارع «سوليدير».

من يكون هؤلاء في محيط اليرزة؟ رجال مخابرات؟ باعة كعك؟ مرتزقة؟ إرهابيّون مرتدّون؟ قوّادون في مجال جهاد النكاح؟ لا يهمّ. يمكن تعليق أيّ نعت أو تهمة على شماعة النزوح السوري. لا مكان هنا لأيّ نقاش يتيح توزيع المسؤوليات عن زحمة الأمس، بشكل منصف، خصوصاً مع استقالة وزارتي الداخليّة والأشغال من مهامهما في هذا الصدد. يشكّك لبنانيون كثر بنزاهة الانتخابات السوريّة، وبعضهم يجاهر بـ«موقف أخلاقي» منها. وذلك منطق متجانس مع مرويّات الإعلام المناصر للمعارضة السوريّة، وشيطنته الكاملة لأيّ رأي على الضفّة الأخرى. الشاشات اللبنانيّة، وخصوصاً تلك المعارضة للنظام السوري، أفنت ثلاث سنوات من الزمن، تنادي بحقوق النازحين السوريين، تارةً تحت شعار «التعاطي الحضاري والديمقراطي»، وطوراً تحت عنوان «نصرة الشعب السوري». لكنّها في الوقت نفسه لم تنسَ ابتداع تهم غير منطقيّة وإلصاقها بالنازحين، حيناً لناحية سرقة فرص العمل من اللبنانيين، وأحياناً أخرى لناحية اتهامهم بكلّ جريمة قتل أو نشل، أو تعييرهم بركوب الجِمال. وليس ما شهدته الشاشات من مزايدات في العنصريّة، بعد كباش برج حمود الأسبوع الماضي، إلا قمّة جبل الجليد.

أمس، أعادت المنظومة الإعلاميّة تذكيرنا بأنّ خصوم الوزير جبران باسيل في السياسة، لا يختلفون كثيراً مع نظريّاته العنصريّة حول النازحين. في الجوهر، يبدو أنّ الجميع متفّقون على تفوّق اللبناني «النظيف، والمهفهف، والحضاري»، على السوريّ «المتسخ، الهمجي، البربري، المتسوّل، البلطجي».

ثلاث سنوات من التقارير الإنسانيّة حول حقوق اللاجئين والنازحين السوريين، أجهضت في يوم واحد. قرّرت بعض الشاشات اللبنانيّة أن تتوقّف عن محاولة تبييض سيرتها من تهم التمييز والعنصريّة. أمس، تكلّم الجميع بصراحة: في لبنان، لا صوت يعلو فوق صوت الزينوفوبيا.

  • فريق ماسة
  • 2014-05-28
  • 10189
  • من الأرشيف

ثلاث سنوات من التقارير الإنسانيّة حول حقوق اللاجئين والنازحين السوريين.. أجهضت في يوم واحد

تبدأ المعزوفة صباحاً عبر أثير إذاعات الـ«أف أم». شبه إجماع، نادر من نوعه، بين مذيعات «الفحّ» المباشر، إن أردنا استعارة عبارة زياد الرحباني الشهيرة. المتصلون يشعرون بالقرف من منظر طرقات لبنان. المذيعة لا تعترض. تنقّح الكلام العنصري بطبعة أفصح حول «القمامة»، و«الروائح». أحد المتصلين لم تزعجه زحمة السير في محيط السفارة السوريّة في اليرزة، على العكس، إذ أنّه تمكّن من قضاء صباح هادئ و«خالٍ من السوريين، لحسن الحظّ» على شاطئ البحر. لم تخرج شاشات التلفزيون عن تقاليدها العنصريّة الراسخة، والتي لا تتردّد في استعراضها عند كلّ فرصة مواتية. ندى أندراوس وضيفها في «نهاركم سعيد» لم ينجحا في إخفاء امتعاضهما من هَوْل المشهد في محيط السفارة السوريّة في اليرزة. «أم تي في» المشغولة دوماً بنقاء الدمّ اللبناني، تولّت دور مناشدة الدولة إنقاذ اللبنانيين من «الزحف». على السوشل ميديا، يريد الجميع أن يعرف من يكون هؤلاء «الغنم»؟ ليسوا نازحين ولا لاجئين، تؤكّد الإعلاميّة ميّ شدياق. يسأل أحدهم من أين للاجئين المال لاستئجار باصات تقلّهم إلى مركز الاقتراع؟ وكيف يستقلّ النازح السوري سيارة فخمة إلى اليرزة، يسأل آخرون. يرسم «أولاد البلد» صورتهم النمطيّة الأسطوريّة عن ماهيّة السوريّ وهويّته. فهو في نظرهم الفقير أو المشرّد، الجاهل للغات الأجنبيّة، ولأصول الإيتيكيت. لم يعرف «أولاد البلد» زحمة السير، كما يبدو واضحاً عبر صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. الزحمة ظاهرة مستجدّة، مرتبطة بالسوريين فقط. يحقّ لـ«أولاد البلد» الامتعاض من قضاء يومهم الطويل على الطريق، يكتب أحدهم على «فايسبوك»، فأين العنصريّة في ذلك؟ لا عنصريّة في ذلك، إذ أنّ العدائيّة الموجّهة أمس ضدّ السوريين النازحين، تستعير عبارات الامتعاض ذاتها من اعتصامات مياومي الكهرباء، أو تحرّكات هيئة التنسيق النقابيّة. خطاب الكراهيّة والتمييز جاهز، عند كلّ مفصل يعكّر فيه «الرعاع» المشهد العام «الأنيق»، أناقة شوارع «سوليدير». من يكون هؤلاء في محيط اليرزة؟ رجال مخابرات؟ باعة كعك؟ مرتزقة؟ إرهابيّون مرتدّون؟ قوّادون في مجال جهاد النكاح؟ لا يهمّ. يمكن تعليق أيّ نعت أو تهمة على شماعة النزوح السوري. لا مكان هنا لأيّ نقاش يتيح توزيع المسؤوليات عن زحمة الأمس، بشكل منصف، خصوصاً مع استقالة وزارتي الداخليّة والأشغال من مهامهما في هذا الصدد. يشكّك لبنانيون كثر بنزاهة الانتخابات السوريّة، وبعضهم يجاهر بـ«موقف أخلاقي» منها. وذلك منطق متجانس مع مرويّات الإعلام المناصر للمعارضة السوريّة، وشيطنته الكاملة لأيّ رأي على الضفّة الأخرى. الشاشات اللبنانيّة، وخصوصاً تلك المعارضة للنظام السوري، أفنت ثلاث سنوات من الزمن، تنادي بحقوق النازحين السوريين، تارةً تحت شعار «التعاطي الحضاري والديمقراطي»، وطوراً تحت عنوان «نصرة الشعب السوري». لكنّها في الوقت نفسه لم تنسَ ابتداع تهم غير منطقيّة وإلصاقها بالنازحين، حيناً لناحية سرقة فرص العمل من اللبنانيين، وأحياناً أخرى لناحية اتهامهم بكلّ جريمة قتل أو نشل، أو تعييرهم بركوب الجِمال. وليس ما شهدته الشاشات من مزايدات في العنصريّة، بعد كباش برج حمود الأسبوع الماضي، إلا قمّة جبل الجليد. أمس، أعادت المنظومة الإعلاميّة تذكيرنا بأنّ خصوم الوزير جبران باسيل في السياسة، لا يختلفون كثيراً مع نظريّاته العنصريّة حول النازحين. في الجوهر، يبدو أنّ الجميع متفّقون على تفوّق اللبناني «النظيف، والمهفهف، والحضاري»، على السوريّ «المتسخ، الهمجي، البربري، المتسوّل، البلطجي». ثلاث سنوات من التقارير الإنسانيّة حول حقوق اللاجئين والنازحين السوريين، أجهضت في يوم واحد. قرّرت بعض الشاشات اللبنانيّة أن تتوقّف عن محاولة تبييض سيرتها من تهم التمييز والعنصريّة. أمس، تكلّم الجميع بصراحة: في لبنان، لا صوت يعلو فوق صوت الزينوفوبيا.

المصدر : السفير/ سناءالخوري


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة