يبدو انّ ما قالهُ أحد كبار الشّعراء الفرنسيين ‘أتمنّى أن أعيشَ شاعراً فرنسياً وأموت شاعرا عربيا’ هو أدق توصيف لحالة مجتمعنا العربي الّذي لا يذكر المثقّف والمبدع إلا بعد رحيله وغيابه سواء كان شاعرا أو فناناً أو حتى عالماً فيزيائياً.

كان يَمشي إلى غَدِهِ أسرع من رصاصةٍ كادَتْ أن تقتلهً ومنذ اليوم الأول لنومهِ الطويل أو مَوته الجسدي فقط، بدأ محمود درويش يتجلّى أكثر ممّا كان حياً وبدأت أعماله تُنشر وتباع وتُقرأ أكثر من أن يعيش ثلاثة أضعاف عمره، وبدأ الحديث عن موته أكثر من حياته وتبيّن أن له أصدقاء هو لا يَعرف اسماءهم حتى، لكنّهم أصدقاء الموتى، أو كما سمّى درويش علاقته بهم ‘صداقة من طرف واحد” وهُم من حاولوا أن يتسلّقوا على مسيرته بأي طريقة بائسة ولو كانت صورة عابرة في إحدى امسياته الشعرية ‘التي تركت أثرا في كل دولة عربية حلَّ صوتهُ ضيفاً عليها.

مفهوم الغياب عند محمود درويش اختلف تماماً عن مفهومه التقليدي في موروثاتنا اللغوية بحيث قرأنا أوجه الغياب في عدة قصائد له ولم يكن يوما بالنسبة له تجريدياً أو على شكل موت بل كان فضاؤه أوسع وأحيانا أضيق من أن يُختزل، ومن يقرأ اعمال درويش الأخيرة يُدرك تماماً أن الشاعر لم يكتب للآخر بل كان يكتب لهُ…ليصهل بما يكتب في ليلهِ المسكون فيه، ولم يكن المجاز في لغته مجرّد خرق للعادة فقط بل كما رآه الفيلسوف الفرنسي الجميل موريس بونتي صاحب كتاب العودة إلى الاشياء ذاتها وبنية السلوك…كان مجازُهُ خرقاً للنظام والعلاقة القائمة بين اللغة والأشياء.

ولو احتكمنا إلى نصوص محمود درويش سيبدو لنا أنّه كان يعلم مسبقاً أن ولادته الجماهيرية الثانية ستكون بعد وفاته مباشرة عندما قال ‘يريدونني أن اموت كي يمدحوني’ وهو الشاعر الذي ضجر من الالقاب والمدائح المجانيّة في حياته وحتى من عسكرته وقطعنته بحيث قامت كل مجموعة تنتمي إلى الشعر او ما يشبه الشعر بتدجين تاريخه ليُصبح جزءاً منهم أو بسرقة حريّته التي تعدت كل جغرافيا عربية وحتى فلسطينية. وقد كتب في مجلة الطليعة مقالته الشهيرة (أنقذونا من هذا الحب القاسي) ودرويش لم يكن فلسطينيا بجغرافيته ومثله مئات من الأدباء الفلسطينيين الذين عاشوا بالمهجر والمنفى فكانوا فلسطينيين بوعيهم وفكرهم وخدمتهم للقضية الفلسطينية ولم يكونوا فلسطينيين بجغرافيتهم فقط أو بمسقط رأسهم. لقد رحل درويش دون أن يترك عنواناً له وفي كل يوم يشتاق له من أحبّه ومن عَرَفهُ عن قرب أكثر، ولا أعتقد أنّ أحدا منّا لم يقضِ وقتا في يومٍ ما يُشاهد على الموقع الشهير ‘يوتيوب’ أمسياته الشعرية المصورة والتي عندها أقف عند تساؤل له علاقة بالشاعر الفرنسي الذي يُريد أن يموتَ عربياَ وتساؤل آخر يتعلّق بتدجين الموت، فلو لاحظنا كل مقاطع الفيديو والأمسيات المنشورة للشاعر نجد أنها كلّها نُشرت بعد 2008 أي بعد موته…وكانهُ أصبح شاعراً عربياً معروفاً وعالمياً أيضاً في يوم واحد فقط وهو يوم رحيله…وحتى أمسياته وقصائده التي كتبها قبل عقود إبان تصاعد أدب المقاومة مثل مديح الظل العالي التي قرأها درويش بعد حصار بيروت أمام قيادات منظمة التحرير الفلسطينية بحضور الزعيم الرحل ياسر عرفات، أيضاً رأيناها مؤرشفة ومحفوظة عند وسائل الإعلام ولم تظهر للعلن إلا بعد يوم السبت 9 آب/اغسطس 2008. لا أعلم حقيقة ما الذي دفع هذه الجهات أو المؤسسات أو الاشخاص بشكل فردي أن يحتفظوا بهذا الانتاج وهذه المادة الأدبية الغنية طيلة هذا الوقت، وهل كان على الشاعر أن يُعجّل موته كي يُعجّل هذا التجلّي الحر؟ أقف في تساؤلي الثاني عند (الأنا) في نصوص محمود درويش والتي رآها البعض تأخذ بعداً شخصياً وبين الأنا الجمعية والتي في حقيقتها تسعى لتحقيق الحلم الجمعي الفلسطيني.. ومن لم يُدرك ذلك قام بتدجين موت درويش وأعادَ انتاجه على طريقته بحيث لم يكتفِ بنصوصه وصوته وصورته الأصلية كما هي، بل قام بمزجه مع مقطع غنائي للسيدة فيروز التي نُحبّها جميعا أو مع مشهد درامي في مسلسل ما ‘أو قيام أحدهم يعمل مونتاج بينه وبين عدة شعراء تربطهم الموسيقى أو اعادة تسجيل قصائده التي القاها بنفسه بأصوات غير صوته ووضع مؤثرات زمانية ومكانية لا علاقة لها بالشاعر ولا بالنص بحد ذاته ولا بدوافع الشاعر وإيقاعه الخاصة .. فيروز ومارسيل خليفه وأميمة الخليل هُم قامات فنيّة لها تقديرها العربي والعالمي ولا حاجة لعمل أي مزيج فني مع أي كان ..لأن فنّهم الخالص والعذب وحده يكفي لأن يكون حاضراً دون مُصاحب لصوتهم ومحمود درويش الّذي تَقَلّصَت الآلات الموسيقية كلّها في حنجرته..ليس بحاجة لإضافة غنائيات مُصاحبة لقصيدته كي نُصدّق ما كتبه أحد يعلم إن كان محمود درويش راضياً عَمّا فعلناه به من حذف وهدم وبناء واضافة إكسسوارات مصاحبة للشعر لكنّي على يقين بان ما قاله جاك بريفر ‘إن الفلاحة سعيدة وهي تمشي بالكعب العالي لكنّ القدمَ الفلاحة كانت تًحلمُ بالأرض وتَحنُّ إلى الطين’ هو حنين الشيء إلى شيئه الأول. ولا حاجة لأن نعيد إنتاج صبي البروة ونقحمهُ في صراعاتنا العاطفية وهواجسنا وانفعالاتنا الداخلية وهذا الحب الذي سيكون الخاسر الوحيد فيه هو الشعر العذب. لقد كان محمود درويش غنيمة للشعر العربي المعاصر بحيث أطال في عمر الشعر وأسس بمعجمه الخاص مشروعاً جمالياً فنياً، وحمَلنا معهُ بمفرداته وارتقى بقارئه إلى منطقة لا مجال للعودة منها لكن وفاء النص لسلالة النص كما يقول يدفعنا دائماً لتأويل نصوصه كما أراد والبحث عن تفاصيل كان يريد درويش ان يصل إليها لكن الموت اشتراه بثمن لا احد يعلمه…وعندما كان صديقي المفكر خيري منصور يستدين من الذاكرة صوراً واشياء أخرى للتخفيف من وطأة غياب صديقه المدفون فيه كان يقول لي! إن محمود درويش عاش بلا حدود ومات إلى حدٍ ما … وأنا بالنسبة لي قُمتُ أيضاً بإعادة إنتاج الموت لكن ليس مثلهم…بل ليُصبحَ جزءاً من هذه الحياة وليس خارجها.

  • فريق ماسة
  • 2014-05-21
  • 12039
  • من الأرشيف

محمود درويش …وثنائية الشعر والموسيقى’

يبدو انّ ما قالهُ أحد كبار الشّعراء الفرنسيين ‘أتمنّى أن أعيشَ شاعراً فرنسياً وأموت شاعرا عربيا’ هو أدق توصيف لحالة مجتمعنا العربي الّذي لا يذكر المثقّف والمبدع إلا بعد رحيله وغيابه سواء كان شاعرا أو فناناً أو حتى عالماً فيزيائياً. كان يَمشي إلى غَدِهِ أسرع من رصاصةٍ كادَتْ أن تقتلهً ومنذ اليوم الأول لنومهِ الطويل أو مَوته الجسدي فقط، بدأ محمود درويش يتجلّى أكثر ممّا كان حياً وبدأت أعماله تُنشر وتباع وتُقرأ أكثر من أن يعيش ثلاثة أضعاف عمره، وبدأ الحديث عن موته أكثر من حياته وتبيّن أن له أصدقاء هو لا يَعرف اسماءهم حتى، لكنّهم أصدقاء الموتى، أو كما سمّى درويش علاقته بهم ‘صداقة من طرف واحد” وهُم من حاولوا أن يتسلّقوا على مسيرته بأي طريقة بائسة ولو كانت صورة عابرة في إحدى امسياته الشعرية ‘التي تركت أثرا في كل دولة عربية حلَّ صوتهُ ضيفاً عليها. مفهوم الغياب عند محمود درويش اختلف تماماً عن مفهومه التقليدي في موروثاتنا اللغوية بحيث قرأنا أوجه الغياب في عدة قصائد له ولم يكن يوما بالنسبة له تجريدياً أو على شكل موت بل كان فضاؤه أوسع وأحيانا أضيق من أن يُختزل، ومن يقرأ اعمال درويش الأخيرة يُدرك تماماً أن الشاعر لم يكتب للآخر بل كان يكتب لهُ…ليصهل بما يكتب في ليلهِ المسكون فيه، ولم يكن المجاز في لغته مجرّد خرق للعادة فقط بل كما رآه الفيلسوف الفرنسي الجميل موريس بونتي صاحب كتاب العودة إلى الاشياء ذاتها وبنية السلوك…كان مجازُهُ خرقاً للنظام والعلاقة القائمة بين اللغة والأشياء. ولو احتكمنا إلى نصوص محمود درويش سيبدو لنا أنّه كان يعلم مسبقاً أن ولادته الجماهيرية الثانية ستكون بعد وفاته مباشرة عندما قال ‘يريدونني أن اموت كي يمدحوني’ وهو الشاعر الذي ضجر من الالقاب والمدائح المجانيّة في حياته وحتى من عسكرته وقطعنته بحيث قامت كل مجموعة تنتمي إلى الشعر او ما يشبه الشعر بتدجين تاريخه ليُصبح جزءاً منهم أو بسرقة حريّته التي تعدت كل جغرافيا عربية وحتى فلسطينية. وقد كتب في مجلة الطليعة مقالته الشهيرة (أنقذونا من هذا الحب القاسي) ودرويش لم يكن فلسطينيا بجغرافيته ومثله مئات من الأدباء الفلسطينيين الذين عاشوا بالمهجر والمنفى فكانوا فلسطينيين بوعيهم وفكرهم وخدمتهم للقضية الفلسطينية ولم يكونوا فلسطينيين بجغرافيتهم فقط أو بمسقط رأسهم. لقد رحل درويش دون أن يترك عنواناً له وفي كل يوم يشتاق له من أحبّه ومن عَرَفهُ عن قرب أكثر، ولا أعتقد أنّ أحدا منّا لم يقضِ وقتا في يومٍ ما يُشاهد على الموقع الشهير ‘يوتيوب’ أمسياته الشعرية المصورة والتي عندها أقف عند تساؤل له علاقة بالشاعر الفرنسي الذي يُريد أن يموتَ عربياَ وتساؤل آخر يتعلّق بتدجين الموت، فلو لاحظنا كل مقاطع الفيديو والأمسيات المنشورة للشاعر نجد أنها كلّها نُشرت بعد 2008 أي بعد موته…وكانهُ أصبح شاعراً عربياً معروفاً وعالمياً أيضاً في يوم واحد فقط وهو يوم رحيله…وحتى أمسياته وقصائده التي كتبها قبل عقود إبان تصاعد أدب المقاومة مثل مديح الظل العالي التي قرأها درويش بعد حصار بيروت أمام قيادات منظمة التحرير الفلسطينية بحضور الزعيم الرحل ياسر عرفات، أيضاً رأيناها مؤرشفة ومحفوظة عند وسائل الإعلام ولم تظهر للعلن إلا بعد يوم السبت 9 آب/اغسطس 2008. لا أعلم حقيقة ما الذي دفع هذه الجهات أو المؤسسات أو الاشخاص بشكل فردي أن يحتفظوا بهذا الانتاج وهذه المادة الأدبية الغنية طيلة هذا الوقت، وهل كان على الشاعر أن يُعجّل موته كي يُعجّل هذا التجلّي الحر؟ أقف في تساؤلي الثاني عند (الأنا) في نصوص محمود درويش والتي رآها البعض تأخذ بعداً شخصياً وبين الأنا الجمعية والتي في حقيقتها تسعى لتحقيق الحلم الجمعي الفلسطيني.. ومن لم يُدرك ذلك قام بتدجين موت درويش وأعادَ انتاجه على طريقته بحيث لم يكتفِ بنصوصه وصوته وصورته الأصلية كما هي، بل قام بمزجه مع مقطع غنائي للسيدة فيروز التي نُحبّها جميعا أو مع مشهد درامي في مسلسل ما ‘أو قيام أحدهم يعمل مونتاج بينه وبين عدة شعراء تربطهم الموسيقى أو اعادة تسجيل قصائده التي القاها بنفسه بأصوات غير صوته ووضع مؤثرات زمانية ومكانية لا علاقة لها بالشاعر ولا بالنص بحد ذاته ولا بدوافع الشاعر وإيقاعه الخاصة .. فيروز ومارسيل خليفه وأميمة الخليل هُم قامات فنيّة لها تقديرها العربي والعالمي ولا حاجة لعمل أي مزيج فني مع أي كان ..لأن فنّهم الخالص والعذب وحده يكفي لأن يكون حاضراً دون مُصاحب لصوتهم ومحمود درويش الّذي تَقَلّصَت الآلات الموسيقية كلّها في حنجرته..ليس بحاجة لإضافة غنائيات مُصاحبة لقصيدته كي نُصدّق ما كتبه أحد يعلم إن كان محمود درويش راضياً عَمّا فعلناه به من حذف وهدم وبناء واضافة إكسسوارات مصاحبة للشعر لكنّي على يقين بان ما قاله جاك بريفر ‘إن الفلاحة سعيدة وهي تمشي بالكعب العالي لكنّ القدمَ الفلاحة كانت تًحلمُ بالأرض وتَحنُّ إلى الطين’ هو حنين الشيء إلى شيئه الأول. ولا حاجة لأن نعيد إنتاج صبي البروة ونقحمهُ في صراعاتنا العاطفية وهواجسنا وانفعالاتنا الداخلية وهذا الحب الذي سيكون الخاسر الوحيد فيه هو الشعر العذب. لقد كان محمود درويش غنيمة للشعر العربي المعاصر بحيث أطال في عمر الشعر وأسس بمعجمه الخاص مشروعاً جمالياً فنياً، وحمَلنا معهُ بمفرداته وارتقى بقارئه إلى منطقة لا مجال للعودة منها لكن وفاء النص لسلالة النص كما يقول يدفعنا دائماً لتأويل نصوصه كما أراد والبحث عن تفاصيل كان يريد درويش ان يصل إليها لكن الموت اشتراه بثمن لا احد يعلمه…وعندما كان صديقي المفكر خيري منصور يستدين من الذاكرة صوراً واشياء أخرى للتخفيف من وطأة غياب صديقه المدفون فيه كان يقول لي! إن محمود درويش عاش بلا حدود ومات إلى حدٍ ما … وأنا بالنسبة لي قُمتُ أيضاً بإعادة إنتاج الموت لكن ليس مثلهم…بل ليُصبحَ جزءاً من هذه الحياة وليس خارجها.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة