50 متراً تفصل مسلحي الرستن عن جنود الجيش السوري. أولى المدن السورية التي حمل أبناؤها السلاح ضد الدولة، ترزح تحت وطأة خلافات مسلحيها الداخلية، وحصار الجيش الذي يترقب عناصره لحظة بدء المعركة

الطريق من حمص إلى الرستن ليست استثناءً، شأنها شأن كل المناطق السورية التي تقطّعت أوصالها. بعدما كانت رحلة كهذه تستغرق ربع ساعة عبر طريق المحلق التي تمر في قريتي الدار الكبيرة وتيرمعلة وصولاً إلى تلبيسة فالرستن، باتت تتطلّب أكثر من ساعة بالسيارة عبر طريق مصياف للوصول إلى المدينة الأشهر من حدودها الشمالية مع نهر العاصي وبحيرة الرستن، اللذين يفصلانها عن حماه.

رحلة شاقة عبر قرى مصياف القابعة تحت فقر مدقع، التي تتزاحم على جدرانها صور عشرات الشهداء. تلوح من بعيد قرى الحولة والطيبة وتلدو التي خرجت عن سيطرة الدولة. يشير المرافق إلى قرية نيصاف: «هذه قرية زميلتك (مراسلة التلفزيون السوري) الشهيدة يارا عباس التي استشهدت في القصير، وذاك هو بيتها». في قرية بيصين، لون الإسمنت الغامق هو الطلاء الوحيد لبيوت فقرائها. الطرق غير المعبّدة تمر بين البيوت المبنية على عجل فوق الصخور القاسية. القسوة تخيّم على كل شيء، حتى على وجوه الأطفال. تلوح من بعيد محطة الزارة الحرارية التي حاول المسلحون ضربها. في بعض القرى التي خرجت في مراحل سابقة عن سيطرة الدولة كبيرين وحربنفسه، يهيّئ المُرافق سلاحاً خشية بعض المفارق غير «الآمنة». وبعد قريتي إلبة وتومين، بغالبيتهما المسيحية، تبدأ أراضي الرستن الشاسعة.

تعدّ البلدة المحاطة بثكن عسكرية حداً فاصلاً بين محافظتي حمص وحماه، وتبعد عن مركزيهما المسافة نفسها (20 كلم). أراضيها مكشوفة تحت مرمى نيران الجيش بهدف منع التواصل بين مسلّحي ريف حماه في الشمال ومسلّحي حمص جنوباً. يرابط جنود الجيش شمالي المدينة التي كانت أول من أعلن العصيان المسلح بين المدن السورية. يفصل العسكريين عن البلدة نهر العاصي وسد الرستن، الذي حاول المسلحون تفجيره مرات عدة. «ستكون كارثة مائية كبيرة، لا شك، إن جرى مكروه لثاني أكبر سدود سوريا» يقول أحد الضباط.

على مرمى حجر

 

التخفّي من القناص، خلف شجيرات الزيتون، غير كافٍ. المدنيون المقيمون خارج حدود البلدة في مزارعهم المتاخمة لثكن الجيش، يمطرون الزائر بالتحذيرات. مداجن مزارع آل فرزات تطلّ على بلدتهم المنكوبة. يقول أحدهم: «خرجنا مع بداية التظاهرات الى مزارعنا خارج البلدة التي تفصلنا عنها البحيرة فقط. إلا أن الرجوع أصبح مستحيلاً، ولا سيما بعد حرق منازلنا هناك». في هذه المزارع تقيم عائلات من آل فرزات وطلاس وأيوب. إلى اليمين ينتصب جامع المحمود من دون أية أضرار. وفي الاتجاه نفسه يظهر مشفى الرستن الذي يمكن الوصول إليه بالمدرعات فقط، بسبب القنص الكثيف. يشير أحد المدنيين بيده إلى اليسار: «هُنا معمل الاسمنت. يمكنك مراقبة تحركات المدنيين الذين ما زالوا في المنطقة. لا يخشى المدنيون في حارة طار الأشتر من الإقامة تحت مرمى نيران الجيش، فيما حارة آل طلاس بأكملها في يد الجيش».

يظهر بوضوح جسر الرستن الذي يصل بين البلدة ومزارعها. لا تحركات على الجسر المكشوف لقناصي الجيش والمسلحين. طريقة عبوره الوحيدة باستخدام المدرّعات للوصول إلى المحرس القائم في آخر السد. في حارة آل طلاس يدلّ الأهالي على مكتبة وزير الدفاع الأسبق العماد مصطفى طلاس ومنزله. يقول الرجل: «هُناك حاجز الأملس الشهير الذي كثر الحديث عنه عبر المحطات المعارضة، والذي حاولوا تفجيره. إنه الخط الفاصل بينهم وبين الجيش». حارة طار الأشتر، على يسار الجسر بالقرب من معمل الاسمنت، لا تبعد أكثر من 50 متراً من إدارة الموارد المائية التي تحوّلت إلى مركز مؤقت للجيش. عمليات الجيش تقتصر على تمهيد مدفعي وصدّ محاولات تسلّل المسلحين عن طريق الزوارق عبر بحيرة الرستن. وكان آخرها في تشرين الثاني الفائت، عندما صادر الجيش 5 زوارق لـ «حركة أحرار الشام». تأخرت معركة الرستن كثيراً، إذ كان متوقعاً دخولها بعد معركة القصير مباشرة، إلا أن أولى البلدات العاصية، باتت الاخيرة على لائحة المعارك الحاسمة.

«الإمارة» من الداخل

 

يعيش سكان الرستن على معونات غذائية يسمح الجيش بإدخالها إلى أهالي البلدة التي تعتمد أساساً على الزراعة. يتركز مسلحو «أحرار الشام» و«جبهة النصرة» و«داعش» في حارة جحا وشارع الصليبي وشارع الثورة، فيما يقطن بقية الأهالي في جسر حاج طه إلى الغرب، وفي حارة آل طلاس. معلومات الرستناويين خارج البلدة أن قيادات المسلحين تتمركز قرب البريد وشعبة التجنيد. يترقب الجميع أخبار القتال بين «داعش» وأحرار الشام»، الذي أدى أخيراً الى مقتل «أبو القعقاع التونسي» أمير «داعش» في الرستن. قتل مسلحون من «داعش» أكثر من 30 شخصاً من آل الطويل الملقبين بـ «بيت الصوص»، كما قتل مصطفى حبيب، قائد إحدى المجموعات، في تفجير انتحاري. الملازم المنشق عبد الرزاق طلاس يقيم داخل البلدة أيضاً. المعلومات تتحدث عن تغييره مكان سكنه باستمرار خشية استهدافه، فيما معظم تنقلاته تجري عبر الأنفاق. يقول أبناء الرستن انه زار السعودية قبل نحو خمسة أشهر لتأدية مناسك الحج، وعاود القتال بهمّة أكبر للتخلّص من معارضيه في الداخل. يتزعّم طلاس «كتيبة الفاروق»، ويعمل تحت إمرته ضبّاط منشقون، أما الضباط الذين يرفضون بيعته فمصيرهم السجن، حتى لو كانوا منشقين وأعلى رتبة منه. في «كتيبة الفاروق»، بحسب أحد المطلعين، لا وجود لرُتب عسكرية، «إنما ولاية وبيعة». بعد مقتل قائد «كتيبة شهداء غرناطة» أحمد ناجية على يد الجيش منتصف عام 2012، تخلّص طلاس من كل من رفض بيعته. وهو يعتمد أساساً على الملازم أول المنشق ابراهيم أيوب والرائد المنشق علي أيوب، ذراعيه العسكريتين، بالإضافة إلى محمد الرز، الذي يدعمه بالمسلحين الغرباء. وتتحدّث معلومات الأهالي عن وجود 10 آلاف مسلح في البلدة، فيما تؤكد مصادر الجيش وجود ما يزيد على 25 ألفاً.

تحيط بالرستن قرى موالية عدة، منها قرية مريج الدر ذات الغالبية الشركسية، التي تبعد عن البلدة نحو 5 كلم. حاول المسلحون التسلل إلى القرية، إلا أن الجيش تمكّن من صدّهم. تلي مريج الدر، الواقعة شرق العاصي، قريتا الرمادي والخزان المواليتان اللتان حاول سكانهما النزوح، إلا أن الجيش تدخل لمنع مثل هذا التغيير الديموغرافي.

أبو خالد الرستناوي

مرتدياً لباساً مموّهاً، يتنقّل عبد الإله أيوب «أبو خالد»، ابن الرستن، في المزارع المحيطة. يعيش على أمل وحيد هو «الانتقام من الغرباء» الذين أحرقوا بيته واستولوا على مزرعته. يشدّد على أن «الموالاة للدولة تهمة خطيرة في البلدة الرازحة تحت سلطة الكتائب المختلفة الولاءات». يقول ان مسلّحين من كتيبة تسمّى «درع محمد» كمنوا له ولعائلته قرب قرية غرناطة، نجا الجميع منه بإصابات طفيفة وهربوا خارج الرستن. يؤكّد: «أعرفهم فرداً فرداً». إثر الحادثة، تطوّع الأب وأبناؤه في الجيش. استشهد ابنه الأول في محافظة دير الزور، والآخر يخدم العلَم في اللاذقية. يقول: «بعض الناس تهجّروا خارج الرستن بسبب تأييدهم للرئيس بشار الأسد، وبعضهم الآخر لا يملك إمكانية الخروج من بيته، فبقي في الداخل». عرض المسلحون 10 ملايين ليرة لمن يقتل «أبو خالد»، الذي يتواصل مع أقاربه في الداخل عبر الهاتف. يقول إنه لا يخشى عليهم من «بطش المسلحين لأنهم ليسوا أول ولا آخر السوريين الذين عانوا من هؤلاء». لا ينتظر الرجل تسوية سياسية تنهي الوضع الحالي في الرستن. ما يريده هو دخول الجيش ليدخل معه لتحرير أرضه وبلدته.

قرية تومين: الجار للجار

في قرية تومين المتاخمة، يظهر وجه آخر من المعاناة. 110 عائلات نازحة، بينها 30 عائلة من الرستن وحدها. تتكفل الدولة بدعمها بالمعونات اللازمة. يبلغ عدد سكان تومين، ذات الغالبية المسيحية، 2600 نسمة. العدد الإضافي الذي سبّبه النزوح أربك القرية الصغيرة، إلا أن ذلك لم يؤثر كثيراً في حياة الناس على نحو سلبي. يعمل معظم أهاليها في زراعة الحبوب والوظائف الحكومية. تتبع إدارياً لناحية حربنفسه ضمن أراضي محافظة حماه. تجاورها قرية جرجيسة المسيحية أيضاً. تعايش أهالي القرية مع وجود النازحين بودّ وسلام. لا مشاكل تواجه السكان الذين لم ينقطع تواصلهم مع الرستناويين قبل الأحداث أو بعدها، برغم سقوط 5 شهداء من أبناء القرية من العسكريين، وبرغم أن الرستن مثلت خطراً على القرية الصغيرة مع بداية الأحداث، عندما أمطرتها بـ 30 قذيفة هاون. أولى الصدمات التي تلقتها القرية كانت قتل رئيس بلديتها الأسبق درغام درغام على طريق حماه. يقول أحمد طلاس، النازح من الرستن، انه ترك حارة آل طلاس في الرستن مع بدء الأحداث خشية على حياة أطفاله ودراستهم. لا يزال يتابع أخبار منزله وعائلته هُناك. يؤكد أن الجيش سيطر على الحارة بالكامل، إلا أنه لم يشأ العودة خشية أي أحداث لاحقة.

ضباط الرستن بين المعارضة والموالاة

 

بعدما تباهى أبناء الرستن لسنوات بأن مدينتهم واحدة من «خزّانات» ضباط الجيش السوري وجنوده، انقسم هؤلاء بين من استمر على ما سبق الأزمة، وبين مؤيد لأبناء الرستن من الضباط المنشقين عن الجيش، الذين شكّلوا النواة الأولى لألوية «الجيش الحُر». انشقاق الملازم عبد الرزاق طلاس كان علامة فارقة لتأسيس لواء خالد بن الوليد، ثم تعيينه قائداً لـ«كتائب الفاروق»، أشهر كتائب حمص وريفها. عدد المنشقين لم يكن كبيراً بالنسبة إلى العدد الكبير للمنتسبين إلى الجيش السوري من أبناء الرستن، وهو العدد الذي تضاعف منذ تسلّم العماد أول مصطفى طلاس مقاليد وزارة الدفاع لعقود. وحسب إحصائيات المعارضة، فقد وصل عدد العسكريين المنشقين من الرستن إلى 120، خلال عام واحد. وبين العسكريين المنشقين ضباط برتبة عميد، هم: عدنان قاسم فرزات، وعدنان محمد الأحمد، وبسام قاسم الشيخ علي، بالإضافة إلى العميد الطيار قاسم سعد الدين. ليعقبهم بعد عدة أشهر انشقاق مجموعة جديدة مؤلفة من 6 ضباط معظمهم من آل فرزات. المقاتلون في الرستن كانوا يأتمرون بإمرة عبد الرزاق طلاس، صاحب القوة الأكبر في المدينة. وقد أحدث انشقاق الملازم أول إبراهيم أيوب والرائد علي أيوب، تغييراً لافتاً، بسبب سيطرة الشباب على مقاليد السلطة الفعلية داخل البلدة الصغيرة. انشقاق العميد المتقاعد مناف طلاس، قائد الفوج 104 في الحرس الجمهوري، وفراره إلى فرنسا، شكّل صدمة للسوريين، بسبب الصداقة الشخصية التي تجمع بين طلاس والرئيس بشار الأسد.

غير أن انشقاق طلاس لم يكن ذا أهمية من الناحية العسكرية، لأنه كان محيّداً عن العمل العسكري الفعلي منذ ما قبل نشوب الأزمة. ولا يزال عدد كبير من أبناء الرستن يقاتلون في صفوف الجيش، وبينهم ضباط برتب عالية. ومن هؤلاء نائب وزير الدفاع (الحالي) العماد طلال مصطفى طلاس، ابن عم وزير الدفاع الأسبق.        

  • فريق ماسة
  • 2014-03-12
  • 13382
  • من الأرشيف

الرستن... أولى البلدات العاصية وآخر المعارك

50 متراً تفصل مسلحي الرستن عن جنود الجيش السوري. أولى المدن السورية التي حمل أبناؤها السلاح ضد الدولة، ترزح تحت وطأة خلافات مسلحيها الداخلية، وحصار الجيش الذي يترقب عناصره لحظة بدء المعركة الطريق من حمص إلى الرستن ليست استثناءً، شأنها شأن كل المناطق السورية التي تقطّعت أوصالها. بعدما كانت رحلة كهذه تستغرق ربع ساعة عبر طريق المحلق التي تمر في قريتي الدار الكبيرة وتيرمعلة وصولاً إلى تلبيسة فالرستن، باتت تتطلّب أكثر من ساعة بالسيارة عبر طريق مصياف للوصول إلى المدينة الأشهر من حدودها الشمالية مع نهر العاصي وبحيرة الرستن، اللذين يفصلانها عن حماه. رحلة شاقة عبر قرى مصياف القابعة تحت فقر مدقع، التي تتزاحم على جدرانها صور عشرات الشهداء. تلوح من بعيد قرى الحولة والطيبة وتلدو التي خرجت عن سيطرة الدولة. يشير المرافق إلى قرية نيصاف: «هذه قرية زميلتك (مراسلة التلفزيون السوري) الشهيدة يارا عباس التي استشهدت في القصير، وذاك هو بيتها». في قرية بيصين، لون الإسمنت الغامق هو الطلاء الوحيد لبيوت فقرائها. الطرق غير المعبّدة تمر بين البيوت المبنية على عجل فوق الصخور القاسية. القسوة تخيّم على كل شيء، حتى على وجوه الأطفال. تلوح من بعيد محطة الزارة الحرارية التي حاول المسلحون ضربها. في بعض القرى التي خرجت في مراحل سابقة عن سيطرة الدولة كبيرين وحربنفسه، يهيّئ المُرافق سلاحاً خشية بعض المفارق غير «الآمنة». وبعد قريتي إلبة وتومين، بغالبيتهما المسيحية، تبدأ أراضي الرستن الشاسعة. تعدّ البلدة المحاطة بثكن عسكرية حداً فاصلاً بين محافظتي حمص وحماه، وتبعد عن مركزيهما المسافة نفسها (20 كلم). أراضيها مكشوفة تحت مرمى نيران الجيش بهدف منع التواصل بين مسلّحي ريف حماه في الشمال ومسلّحي حمص جنوباً. يرابط جنود الجيش شمالي المدينة التي كانت أول من أعلن العصيان المسلح بين المدن السورية. يفصل العسكريين عن البلدة نهر العاصي وسد الرستن، الذي حاول المسلحون تفجيره مرات عدة. «ستكون كارثة مائية كبيرة، لا شك، إن جرى مكروه لثاني أكبر سدود سوريا» يقول أحد الضباط. على مرمى حجر   التخفّي من القناص، خلف شجيرات الزيتون، غير كافٍ. المدنيون المقيمون خارج حدود البلدة في مزارعهم المتاخمة لثكن الجيش، يمطرون الزائر بالتحذيرات. مداجن مزارع آل فرزات تطلّ على بلدتهم المنكوبة. يقول أحدهم: «خرجنا مع بداية التظاهرات الى مزارعنا خارج البلدة التي تفصلنا عنها البحيرة فقط. إلا أن الرجوع أصبح مستحيلاً، ولا سيما بعد حرق منازلنا هناك». في هذه المزارع تقيم عائلات من آل فرزات وطلاس وأيوب. إلى اليمين ينتصب جامع المحمود من دون أية أضرار. وفي الاتجاه نفسه يظهر مشفى الرستن الذي يمكن الوصول إليه بالمدرعات فقط، بسبب القنص الكثيف. يشير أحد المدنيين بيده إلى اليسار: «هُنا معمل الاسمنت. يمكنك مراقبة تحركات المدنيين الذين ما زالوا في المنطقة. لا يخشى المدنيون في حارة طار الأشتر من الإقامة تحت مرمى نيران الجيش، فيما حارة آل طلاس بأكملها في يد الجيش». يظهر بوضوح جسر الرستن الذي يصل بين البلدة ومزارعها. لا تحركات على الجسر المكشوف لقناصي الجيش والمسلحين. طريقة عبوره الوحيدة باستخدام المدرّعات للوصول إلى المحرس القائم في آخر السد. في حارة آل طلاس يدلّ الأهالي على مكتبة وزير الدفاع الأسبق العماد مصطفى طلاس ومنزله. يقول الرجل: «هُناك حاجز الأملس الشهير الذي كثر الحديث عنه عبر المحطات المعارضة، والذي حاولوا تفجيره. إنه الخط الفاصل بينهم وبين الجيش». حارة طار الأشتر، على يسار الجسر بالقرب من معمل الاسمنت، لا تبعد أكثر من 50 متراً من إدارة الموارد المائية التي تحوّلت إلى مركز مؤقت للجيش. عمليات الجيش تقتصر على تمهيد مدفعي وصدّ محاولات تسلّل المسلحين عن طريق الزوارق عبر بحيرة الرستن. وكان آخرها في تشرين الثاني الفائت، عندما صادر الجيش 5 زوارق لـ «حركة أحرار الشام». تأخرت معركة الرستن كثيراً، إذ كان متوقعاً دخولها بعد معركة القصير مباشرة، إلا أن أولى البلدات العاصية، باتت الاخيرة على لائحة المعارك الحاسمة. «الإمارة» من الداخل   يعيش سكان الرستن على معونات غذائية يسمح الجيش بإدخالها إلى أهالي البلدة التي تعتمد أساساً على الزراعة. يتركز مسلحو «أحرار الشام» و«جبهة النصرة» و«داعش» في حارة جحا وشارع الصليبي وشارع الثورة، فيما يقطن بقية الأهالي في جسر حاج طه إلى الغرب، وفي حارة آل طلاس. معلومات الرستناويين خارج البلدة أن قيادات المسلحين تتمركز قرب البريد وشعبة التجنيد. يترقب الجميع أخبار القتال بين «داعش» وأحرار الشام»، الذي أدى أخيراً الى مقتل «أبو القعقاع التونسي» أمير «داعش» في الرستن. قتل مسلحون من «داعش» أكثر من 30 شخصاً من آل الطويل الملقبين بـ «بيت الصوص»، كما قتل مصطفى حبيب، قائد إحدى المجموعات، في تفجير انتحاري. الملازم المنشق عبد الرزاق طلاس يقيم داخل البلدة أيضاً. المعلومات تتحدث عن تغييره مكان سكنه باستمرار خشية استهدافه، فيما معظم تنقلاته تجري عبر الأنفاق. يقول أبناء الرستن انه زار السعودية قبل نحو خمسة أشهر لتأدية مناسك الحج، وعاود القتال بهمّة أكبر للتخلّص من معارضيه في الداخل. يتزعّم طلاس «كتيبة الفاروق»، ويعمل تحت إمرته ضبّاط منشقون، أما الضباط الذين يرفضون بيعته فمصيرهم السجن، حتى لو كانوا منشقين وأعلى رتبة منه. في «كتيبة الفاروق»، بحسب أحد المطلعين، لا وجود لرُتب عسكرية، «إنما ولاية وبيعة». بعد مقتل قائد «كتيبة شهداء غرناطة» أحمد ناجية على يد الجيش منتصف عام 2012، تخلّص طلاس من كل من رفض بيعته. وهو يعتمد أساساً على الملازم أول المنشق ابراهيم أيوب والرائد المنشق علي أيوب، ذراعيه العسكريتين، بالإضافة إلى محمد الرز، الذي يدعمه بالمسلحين الغرباء. وتتحدّث معلومات الأهالي عن وجود 10 آلاف مسلح في البلدة، فيما تؤكد مصادر الجيش وجود ما يزيد على 25 ألفاً. تحيط بالرستن قرى موالية عدة، منها قرية مريج الدر ذات الغالبية الشركسية، التي تبعد عن البلدة نحو 5 كلم. حاول المسلحون التسلل إلى القرية، إلا أن الجيش تمكّن من صدّهم. تلي مريج الدر، الواقعة شرق العاصي، قريتا الرمادي والخزان المواليتان اللتان حاول سكانهما النزوح، إلا أن الجيش تدخل لمنع مثل هذا التغيير الديموغرافي. أبو خالد الرستناوي مرتدياً لباساً مموّهاً، يتنقّل عبد الإله أيوب «أبو خالد»، ابن الرستن، في المزارع المحيطة. يعيش على أمل وحيد هو «الانتقام من الغرباء» الذين أحرقوا بيته واستولوا على مزرعته. يشدّد على أن «الموالاة للدولة تهمة خطيرة في البلدة الرازحة تحت سلطة الكتائب المختلفة الولاءات». يقول ان مسلّحين من كتيبة تسمّى «درع محمد» كمنوا له ولعائلته قرب قرية غرناطة، نجا الجميع منه بإصابات طفيفة وهربوا خارج الرستن. يؤكّد: «أعرفهم فرداً فرداً». إثر الحادثة، تطوّع الأب وأبناؤه في الجيش. استشهد ابنه الأول في محافظة دير الزور، والآخر يخدم العلَم في اللاذقية. يقول: «بعض الناس تهجّروا خارج الرستن بسبب تأييدهم للرئيس بشار الأسد، وبعضهم الآخر لا يملك إمكانية الخروج من بيته، فبقي في الداخل». عرض المسلحون 10 ملايين ليرة لمن يقتل «أبو خالد»، الذي يتواصل مع أقاربه في الداخل عبر الهاتف. يقول إنه لا يخشى عليهم من «بطش المسلحين لأنهم ليسوا أول ولا آخر السوريين الذين عانوا من هؤلاء». لا ينتظر الرجل تسوية سياسية تنهي الوضع الحالي في الرستن. ما يريده هو دخول الجيش ليدخل معه لتحرير أرضه وبلدته. قرية تومين: الجار للجار في قرية تومين المتاخمة، يظهر وجه آخر من المعاناة. 110 عائلات نازحة، بينها 30 عائلة من الرستن وحدها. تتكفل الدولة بدعمها بالمعونات اللازمة. يبلغ عدد سكان تومين، ذات الغالبية المسيحية، 2600 نسمة. العدد الإضافي الذي سبّبه النزوح أربك القرية الصغيرة، إلا أن ذلك لم يؤثر كثيراً في حياة الناس على نحو سلبي. يعمل معظم أهاليها في زراعة الحبوب والوظائف الحكومية. تتبع إدارياً لناحية حربنفسه ضمن أراضي محافظة حماه. تجاورها قرية جرجيسة المسيحية أيضاً. تعايش أهالي القرية مع وجود النازحين بودّ وسلام. لا مشاكل تواجه السكان الذين لم ينقطع تواصلهم مع الرستناويين قبل الأحداث أو بعدها، برغم سقوط 5 شهداء من أبناء القرية من العسكريين، وبرغم أن الرستن مثلت خطراً على القرية الصغيرة مع بداية الأحداث، عندما أمطرتها بـ 30 قذيفة هاون. أولى الصدمات التي تلقتها القرية كانت قتل رئيس بلديتها الأسبق درغام درغام على طريق حماه. يقول أحمد طلاس، النازح من الرستن، انه ترك حارة آل طلاس في الرستن مع بدء الأحداث خشية على حياة أطفاله ودراستهم. لا يزال يتابع أخبار منزله وعائلته هُناك. يؤكد أن الجيش سيطر على الحارة بالكامل، إلا أنه لم يشأ العودة خشية أي أحداث لاحقة. ضباط الرستن بين المعارضة والموالاة   بعدما تباهى أبناء الرستن لسنوات بأن مدينتهم واحدة من «خزّانات» ضباط الجيش السوري وجنوده، انقسم هؤلاء بين من استمر على ما سبق الأزمة، وبين مؤيد لأبناء الرستن من الضباط المنشقين عن الجيش، الذين شكّلوا النواة الأولى لألوية «الجيش الحُر». انشقاق الملازم عبد الرزاق طلاس كان علامة فارقة لتأسيس لواء خالد بن الوليد، ثم تعيينه قائداً لـ«كتائب الفاروق»، أشهر كتائب حمص وريفها. عدد المنشقين لم يكن كبيراً بالنسبة إلى العدد الكبير للمنتسبين إلى الجيش السوري من أبناء الرستن، وهو العدد الذي تضاعف منذ تسلّم العماد أول مصطفى طلاس مقاليد وزارة الدفاع لعقود. وحسب إحصائيات المعارضة، فقد وصل عدد العسكريين المنشقين من الرستن إلى 120، خلال عام واحد. وبين العسكريين المنشقين ضباط برتبة عميد، هم: عدنان قاسم فرزات، وعدنان محمد الأحمد، وبسام قاسم الشيخ علي، بالإضافة إلى العميد الطيار قاسم سعد الدين. ليعقبهم بعد عدة أشهر انشقاق مجموعة جديدة مؤلفة من 6 ضباط معظمهم من آل فرزات. المقاتلون في الرستن كانوا يأتمرون بإمرة عبد الرزاق طلاس، صاحب القوة الأكبر في المدينة. وقد أحدث انشقاق الملازم أول إبراهيم أيوب والرائد علي أيوب، تغييراً لافتاً، بسبب سيطرة الشباب على مقاليد السلطة الفعلية داخل البلدة الصغيرة. انشقاق العميد المتقاعد مناف طلاس، قائد الفوج 104 في الحرس الجمهوري، وفراره إلى فرنسا، شكّل صدمة للسوريين، بسبب الصداقة الشخصية التي تجمع بين طلاس والرئيس بشار الأسد. غير أن انشقاق طلاس لم يكن ذا أهمية من الناحية العسكرية، لأنه كان محيّداً عن العمل العسكري الفعلي منذ ما قبل نشوب الأزمة. ولا يزال عدد كبير من أبناء الرستن يقاتلون في صفوف الجيش، وبينهم ضباط برتب عالية. ومن هؤلاء نائب وزير الدفاع (الحالي) العماد طلال مصطفى طلاس، ابن عم وزير الدفاع الأسبق.        

المصدر : الأخبار /مرح ماشي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة